كما تُفسدُ «شركات الواجهة» التي تنشأ بشكل قانوني ولكن لا تزاول نشاطا حقيقيا، اقتصاديات الدول، وتعمل على تسرّب معاملات مالية مشبوهة وتسهل تغلغل عمليات غسيل الأموال التي لها تأثيراتها الكارثية على استقرار الاقتصاديات الوطنية.. تفسد «أحزاب الواجهة» الحياة السياسية، لأنها تنشأ بتأشيرات قانونية ولكن لا تمارس فعلا سياسيا حقيقيا يؤثّر في حياة المواطنين ويغيّرها وفق برامج ورؤى واضحة.. وأحزاب الواجهة هي كل تلك الأحزاب التي تفتقد إلى هيكلة ومؤسسات ولا تسيّر وفق برامج وتصوّرات ولا تطرح بدائل سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية بل عادت ما يكون الهدف في تكوينها هو خدمة أجندات أشخاص أو «لوبيات» هدفها الوصول إلى السلطة ووضع يدها على الحكم، والغاية من ذلك خدمة غايات ومآرب شخصية أو قطاعية وليس طرح بديل جدّي لتسيير الدولة وخدمة الصالح العامّ .. وبعد الثورة ضجّ المشهد السياسي ب«أحزاب الواجهة»، أحزاب تجد مرجعياتها في «الباتيندة» أو تأشيرة العمل القانوني وتستلهم أدبياتها من شخص مؤسسها ومن فكره ورؤيته ولا تستلهمها من تيارات فكرية أو أدبيات ومرجعيات واضحة للعمل السياسي والحزبي.. والى جانب أحزاب «الفاست فود» السياسي التي تكوّنت على عجل لاقتناص «فرصة الحكم» وتتوارى خلف شعار العمل السياسي «البراغماتي» الذي يبحث عن حلول للمشاكل الراهنة، لتبرير غياب الأدبيات والمرجعيات، نجد أحزابا مناضلة وعريقة أخفقت في الحفاظ على خطّها الإيديولوجي والفكري وانساقت خلف الحدث السياسي في مختلف أبعاده و تمظهراته وباتت مواقفها تُكيّف وفق «حصّتها» من السلطة وليس وفق قناعاتها وما تؤمن به ولذلك تحوّلت هذه الأحزاب إلى مجرّد «مسوخ سياسية» ساهمت في تشويه الحياة الديمقراطية بل و«التنكيل بها».. وبين هذا وذاك برزت أحزاب «الشقوق» و»التصدّعات»، أحزاب وُلدت من رحم الأزمات الداخلية التي عصفت بعدد من الأحزاب التي تكوّنت «على عجل» وأغفلت في سعيها المحموم للوصول إلى السلطة تركيز مؤسسات داخلية قوية وديمقراطية تضمن ديمومتها، وانفجرت مع تفجّر الخلافات بين قياداتها، وهذه القيادات مدفوعة بطموحات كبيرة رفضت الإصلاح الداخلي وبحثت عن «الزعامة» الفردية ولإرضاء هذه النزعة سعت إلى إنشاء أحزاب جديدة «تستنسخ» أفكار وأدبيات وحتى أخطاء الأحزاب الأمّ، وهذا المسار المرتبك شهدته أحزاب كثيرة بعد الثورة وكانت البداية مع حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الضلع الثالث في حكم «الترويكا» والذي انقسم في مرحلة أولى أفرزت حزبا جديدا وهو التيار الديمقراطي وانقسم في مرحلة ثانية أنتجت حزب حراك تونس الإرادة.. وفي ذات الطريق الذي سار فيه حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، الذي حكم بعد الثورة ولكن رصيده ورصيد قياداته النضالية لم يسعفه في المحافظة على وحدته، سار الحزب الديمقراطي التقدّمي الذي انشق عنه حزب التحالف الديمقراطي، وكذلك سار في نفس درب التصدّعات والشقوق الحزب الحاكم بعد 2014 نداء تونس ولكن الانقسام داخله كان «تراجيديا» وزجّ بالدولة ومؤسساتها الرسمية في متاهة الصراعات والتطاحن، هذا الحزب الذي لم يكتف بتفريخ أحزاب جديدة حاملة ل»جينات فشل» الحزب الأمّ الذي انقسم «رأسه» بعد مؤتمره الانتخابي إلى «رأسين» وتفرّق باقي جسده بين الرأسين... كلهم..نداء تونس ! بلغ عدد الأحزاب اليوم رسميا في تونس 2017 حزبا، في الوقت الذي ما زال أكثر من نصف التونسيين وفق استطلاعات الرأي الأخيرة لم يحسموا بعد قرارهم بخصوص لمن سيمنحون أصواتهم في الانتخابات التشريعية القادمة والتي لم تعد تفصلنا عنها إلا بضعة أشهر.. بمنتهى السريالية في المشهد السياسي يرتفع عدد الأحزاب وتتدنّي ثقة التونسيين في الأحزاب والسياسيين، وتقلّص هذه الثقة يعود إلى أسباب أوّلها عجز أغلب الأحزاب المشاركة في الحكم منذ الثورة إلى الآن في طرح حلول لمشاكل المواطنين وانغماس أغلبها في الصراعات الجانبية وفي التطاحن والتدافع السياسي على حساب بلورة أفكار وبرامج تنسجم وتتوافق مع الأزمات الموجودة بل إن بعض هذه الأحزاب تحوّل بدوره إلى أزمة داخل الدولة وفي الوقت الذي توقّع فيه الجميع أن تجد هذه الأحزاب حلولا للأزمات عند بلوغها الحكم بل أصبحت بدورها أزمة خانقة في خاصرة الدولة .. ولعلّ أبرز مثال على ذلك حزب نداء تونس، الذي يقدّم كحزب ذي إيديولوجيته علمانية وسطية ليبرالية تؤمن بفصل الدين عن السلطة لبناء مجتمع مدني متحضّر ومتطور، والذي بدأ حزبا حاكما بعد سنتين من تكوينه وانتهى حزبا معارضا لا وزن له في التأثير والتغيير داخل مشهد سياسي متلاطم ومرتبك نداء تونس.. هذا الحزب الذي تكوّن على عجل لإحداث التوازن مع حركة النهضة وجمع حساسيات وأطياف وروافد فكرية وإيديولوجية مختلفة إلى حدّ التنافر في أحيان كثيرة، عجز عن العبور إلى برّ الأمان وفشل في أوّل اختبارات الحكم.. حزب تأسس حول شخصية مؤسسه ووفق رؤيته وتوجهاته والأهم وفق أهدافها، ليكون بذلك «سفينة نوح» التي شقّ بها عباب المشهد السياسي ولم تنقذ الاّ الباجي قائد السبسي حين ساهمت في وصوله إلى قصر قرطاج، ولكن ما إن بلغ رئيس الدولة الرئاسة وغادر حزب نداء تونس حتى تفتّت الحزب وتشتّت قياداته لأن تكوينه تأسسّ على شخصية المؤسس وليس على بناء هيكلي صلب ومؤسسات قوّية ولذلك حتى عندما حاول ما بقي من قيادات صلبه التدارك وإجراء مؤتمر انتخابي انقسم الحزب مرّة أخرى.. ولم تسعفه الإيديولوجيا ولا المرجعية في تطويق النزاعات داخله لأن هذه «الإيديولوجيا العلمانية» التي عرّف نفسه على أساسها، ضُربت في مقتل بعد تحالفه الانتخابي مع حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية، و»احتياله» على ناخبيه بعد إيهامهم ب»الانتخاب المفيد»! لذلك بعد مدّة قصيرة من فوزه رئاسيا وتشريعيا تحوّل حزب نداء تونس الى حزب انشطاري ورغم محاولات الأحزاب التي انشقت عنه التمايز والاختلاف عليه الاّ أنها وقعت جميعها في فخّ إعادة إنتاج «جينات الفشل»، وحتى الحزب الجديد «تحيا تونس» الداعم لرئيس الحكومة «الطموح» يوسف الشاهد، والقادم ب»بروباغندا» ودعاية هائلة وملفتة من الصعب أن ينتج جينات نقية وغير ملوّثة بإخفاقات الحزب الأمّ نداء تونس، ورغم أن هذا الحزب يحاول اليوم أن ينطلق انطلاقة صحيحة من خلال عقد مؤتمره التأسيسي الانتخابي قبل خوض غمار الانتخابات القادمة الاّ أنه يُتوقّع تفجّر الخلافات بعد المؤتمر القادم لأن هناك وجوها كانت في النداء وفي أحزاب أخرى لو وجدت نفسها خارج «اللعبة» داخل حزب «تحيا تونس» فإنها ستتمرّد و«تتنمّر» وتتحوّل الى أزمة داخل الحزب الوليد، حتى ولو كان مسار مؤتمر التأسيس محكوما بقواعد ديمقراطية، ولكن لجوء هذا الحزب اليوم وقبل المؤتمر الى آلية التوافق على مستوى التنسيقيات المحلية والجهوّية يثير الشكوك حول هذه النوايا «التوافقية» عندما يتعلّق الأمر بمناصب القيادة في حزب محكوم بطموحات كبيرة ومدفوع بهوس الوصول إلى السلطة أو البقاء فيه والظفر بالفوز في الانتخابات التشريعية.. ولذلك يبقى «شبح نهاية النداء» يحوم منذ البداية حول حزب «تحيا تونس» الذي لم يقدّم الى اليوم خطابا مختلفا ومغايرا للخطابات المألوفة لحزب نداء تونس، ولذلك سيواصل اللعب على «واجهة الحكم» المؤقت المحفوف بمخاطر الفشل لأنه اختار بداية غير معتادة في تاريخ الأحزاب التي تتأسّس من القاعدة الى القمّة لكن هذا الحزب تأسس من القمّة لدعم يوسف الشاهد على رأس الحكومة ثم عاد ليؤسس قواعد جهوية ومحلّية، بما جعله مثل نداء تونس في البدايات والمآلات، حزب «نشاز» سيكتفي بلعب أدوار في «الواجهة» دون ممارسة نشاط سياسي فعلي ! أحزاب من القمّة إلى القاع بعد سنوات من النضال والمعارضة ومقارعة النظام الدكتاتوري، هوت أحزاب كبيرة من القمّة إلى القاع في وضعية سقوط حرّ مدوّ ومأساوي، بعد أن وصلت الحكم أو شاركت فيه أو دعمته، فأحزاب التكتّل، الجمهوري، المؤتمر من أجل الجمهورية، حركة الشعب التي كرّست جزءا من تاريخها للنضال ضدّ الاستبداد والطغيان، فشلت في الاستمرار كأحزاب كبرى يوم جرّبت الحكم أو النشاط في مناخات من الحرّية والديمقراطية .. ويعود فشل تلك الأحزاب بالأساس إلى كونها تخلت عن قناعاتها الفكرية والإيديولوجية وجرّبت التلوّن السياسي وفق ما تقتضيه المستجدّات، وحتى وصولها إلى السلطة أو مشاركتها في الحكم لم يكن مدروسا، ولذلك تحوّل أغلبها إلى «أشباح» مقارنة بتاريخها، والى «أحزاب واجهة» فرضتها لحظة سياسية وتاريخية فاصلة، ولم تحاول هذه الأحزاب إسعاف نفسها ومحاولة ترميم بنياتها الداخلية ومأسسة أفكارها من خلال برامج وأفكار ونظام داخلي يتجاوز شخصية المؤسس ومركزية الموقف السياسي إلى داخلها لينفتح على الجهات والمحليات، خاصّة في وجود نظام من اللامركزية والحكم المحلّي ولذلك كانت أغلب نتائج هذه القوى السياسية عريقة «مُخجلة» ودون المتوقّع.. لأن هذه الأحزاب لم تشتغل على عمقها الجهوي أو امتدادها الجهوي والشعبي بل اشتغلت على واجهة الحكم والسلطة . «المشترك الإيديولوجي» لا يكفي وحده للاستمرار.. تعتمد أحزاب وقوى سياسية على رصيدها النضالي وعلى إيديولوجيتها وأدبياتها الفكرية التي تجمع قياداتها وأنصارها للمحافظة على كيانها واستمراريتها ومن بين أبرز هذه القوى نجد تحالف الجبهة الشعبية اليساري الذي فشل في التحوّل من «واجهة سياسية» تشكّلت لاعتبارات انتخابية بالأساس إلى قوّة سياسية مهيكلة ومنظّمة، ورغم الخلافات العاصفة داخلها والتي كادت أن تفتك بهذا التحالف السياسي أكثر من مرّة، الاّ ان التقارب الفكري بين مكوّنات الجبهة ساعد على احتواء هذه الخلافات والأزمات دون أن يمنحها صكّ حماية طويل الأمد يحول دون الانقسام في المستقبل لو تواصلت وتيرة الخلافات داخلها بالشكل الراهن. ومن القوى السياسية أيضا التي ساعدتها إيديولوجيتها و»الفكرة المشتركة» التي تجمع قياداتها وأنصارها على الصمود في وجه الخلافات، نجد حركة النهضة التي نجحت الى حدّ الآن في تطويق الخلافات والأزمات داخلها، ولكن الحركة التي غيّرت بعض قناعاتها الإيديولوجية على خلفية المتغيّرات السياسية ومصلحتها كحزب، أثارت استياء في صفوف قواعدها وأنصارها وحتى قيادات تاريخية داخلها خيّرت التمسّك بثوابت الحركة الفكرية ورفضت «المدنية المباغتة» التي بشّر بها بعض قيادات الصفّ الأوّل، مثل التقارب مع «التجمعيين» أو الاجتهاد في بعض النصوص الدينية أو مهاجمة بقية التيارات الدينية التي تتقاطع معها الحركة فكريا وإيديولوجيا، وهذا التغيّر في المواقف وفق ما تقتضيه «واجهة الأحداث» أربك الحركة من الداخل وجعل خلافاتها «المتستّر عليها» تقفز أكثر من مرّة إلى العلن. منية العرفاوي