تطرق خبراء القانون الدستوري في الفترة الأخيرة إلى خفايا مسودة مشروع الدستور الجديد للبلاد الذي انتهت لجنة الصياغة من حبكه الأسبوع الماضي. وقد خصصت لجنة تضمّ خبراء لإصلاح المشروع. وإن اختلفت القراءات، فالهدف واحد وهو الانتهاء من صياغة الدستور حتى تنتهي هذه الفترة الانتقالية التي تعددت فيها المشاكل واختلفت فيها رؤى الأحزاب الموجودة على الساحة السياسية وذهب البعض إلى تقسيم البلاد إلى جزئين ألا وهما علماني وإسلامي وهو في الحقيقة يساري واسلامي وفي هذا السياق، اتصلت "الصباح نيوز"بالدكتور علية العلاني، جامعي وباحث في التيارات الإسلامية المغاربية، فقال : "يبدو ان ولادة الدستور في تونس لن تكون سهلة فقد مر اكثر من سنتين على الثورة ولم تظهر من الدستور الجديد سوى مسودة كانت محل جدل كبير في الساحة السياسية ولا شك ان الظرفية التي كتب فيها الدستور اثرت في صياغة بعض فصوله فبماذا تتميز هذه الظرفية ؟ يمكن القول بانها تتميز بخاصيات ثلاث : الاحتقان الدائم، و الاحتكام الى الشرعية، والصراع من اجل التصدي للتدجين الايديولوجي وهو ما نلمسه مثلا من خلال مشروع الدستور. الاحتقان الدائم لماذا؟ وأوضح العلاني في ما يتعلّق بالاحتقان الدائم أنّ النهضة قد اعتقدت بحصولها على حوالي نسبة 42 في المائة في أولى انتخابات ديمقراطية بأن ذلك يسمح لها بتغيير نمط المجتمع وإخضاع مؤسسات الدولة لأجندتها ونسيت أن الناخب منح أصواته للحركة لانجاز مسألتين، هما، أولا، كتابة دستور توافقي لا يتعارض مع الروح الديموقراطية وتراث البلاد الحضاري والانساني، وثانيا، إجراء انتخابات عامة في أقرب وقت للخروج من وضعية المؤقت الى وضعية المؤسسات الشرعية والدائمة. وبيّن العلاني أنّه منذ الأسابيع الأولى لتشكيل حكومة الجبالي غرقت البلاد في فوضى الاعتداءات السلفية التي كانت تمر في معظمها دون عقاب وسعت النهضة من خلال خطب مسؤوليها الى تكريس فكرة تقسيم المجتمع التونسي إلى إسلاميين وعلمانيين في مجتمع مسلم، مضيفا : "هذا مازاد في وتيرة الاحتقان التي ادت الى مقتل لطفي نقض وشكري بلعيد بالاضافة الى حوادث الحرق والاعتداء على المؤسسات العمومية و الخاصة... وهذا الاحتقان السياسي صحبته موجة من غلاء الاسعار وبداية تآكل الطبقة الوسطى التي كانت عماد الثورة. وظن التونسيون أن السلطة ستأخذ العبرة من حادث اغتيال الشهيد شكري بلعيد خاصة عندما طرح رئيس الحكومة حمادي الجبالي فكرة حكومة تكنوقراط لكن النهضة تدخلت بقوة عن طريق رئيسها لتجهض هذا المشروع، ووصلنا الى حكومة يصعب ان تكون في مستوى المرحلة". الاحتكام الى الشرعية وقوة المجتمع المدني أمّا بالنسبة للاحتكام للشرعية، فقال إنّه رغم الصعوبات الأمنية والاقتصادية لم يفكر التونسيون في الانقلاب على الشرعية لإيمانهم بقيمة العمل المؤسساتي. ورغم عديد المؤشرات السلبية اصطف التونسيون وراء تنظيماتهم السياسية والمجتمعية لفرض التغيير بالوسائل السلمية لكنهم كانوا ممتعضين من بعض التيارات الدينية المتشددة التي تُبشّر بمجتمع الخوف والاستبداد، وتجد سندا من طرف بعض مسؤولي حركة النهضة وكان صمود المجتمع المدني هاما كذلك لإيقاف مهازل بعض الدعاة المشارقة الذين استقبلوا بالورود من طرف الحزب الحاكم وتم تمكينهم من زرع ثقافة الكراهية وثقافة عصور الانحطاط باسم حرية تعبير لايؤمن بها هؤلاء عندما يكونون في السلطة. وأضاف : "ومع ذلك جاهد التونسيون من أجل الحفاظ على حرياتهم وحرصوا على أن تكون هويتهم نابعة من إسلامهم المحلي لا من إسلام وافد متكلس تؤكد كل الدلائل انه بمثابة خنجر في صدر النهضة العربية المنبثقة عن الربيع العربي. لقد صبر التونسيون ولايزالون على كل هذا الضيم في انتظار الذهاب الى صناديق الاقتراع لإعطاء رأي ولتصحيح موقف من أحزاب وأشخاص كان يظن خطأ أنهم أصحاب رأي سديد ولذلك فهم يرون في الشرعية المتجددة باستمرار المنفذ الأساسي لأي إصلاح سياسي". الصراع من اجل التصدي الى التدجين الايديولوجي: مشروع الدستور نموذجا وبالنسبة للصراع من أجل التصدي الى التدجين الايديولوجي، قال إنّ الطبقة التونسية كلها تكاد تُجمع على ضرورة مراجعة عميقة لمسودة الدستور الأخيرة بما في ذلك حلفاء النهضة وهو يؤشر على أن حركة النهضة لم تستطع التصالح مع النخب المعارضة ولا مع بعض حلفائها ولعل أخطر ما في مشروع الدستور الجديد تكريس فكرة مركزية لدى تيار الإسلام السياسي وهي إخضاع القوانين والتشريعات التي تعتبر بشرية ومتطورة إلى رؤية عقائدية صرفة. كما بيّن أنّه انطلاقا من هذه النقطة فان الحديث عن "ثوابت الاسلام" في توطئة الدستور وتحييد المساجد عن التوظيف الحزبي فيه ضبابية ومغالطة. فثوابت الإسلام تختلف من مذهب إلى آخر، والإصرار على التنصيص عليها سيفتح باب المزايدات. أما بخصوص تحييد المساجد عن التوظيف الحزبي فقد أكد العلاني أن "الأسلم هو الحديث عن تحييد المساجد عن التوظيف السياسي لا التوظيف الحزبي فعندما يتحدث الإمام عن قضية مجتمعية فانه لا يستطيع ان يلغي خلفيته السياسية أو الحزبية. واعتبارا من أن المسيطرين على المساجد في غالبيتهم العظمى هم من النهضة او السلفيين فان التوظيف يصبح حاصلا لا محالة ولهذا كنا ننادي أكثر من مرة عن تحييد المساجد عن كل توظيف سياسي وجعلها موطنا للوعظ والحث على فعل الخير والتحابب، وترك كل المشاريع الإصلاحية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية لنشاط الأحزاب و الجمعيات و بالتالي فان المطروح بإلحاح تغيير الفصل 14 في اتجاه تعويض كلمة "الحزبي" بكلمة "السياسي" و استبدال كلمة"ثوابت الاسلام" بكلمة " قيم الاسلام"". أمّا بخصوص طبيعة النظام السياسي، فقال إنّ أغلبية من التونسيين حريصة على عدم المرور من الاقصى الى الاقصى وترى في نظام رئاسي معدل استجابة موضوعية لطبيعة المرحلة. وفي سياق متصل،اكد أن أمام حركة النهضة فرصة تاريخية لإصلاح أخطائها و الاقتراب من نبض المجتمع و التصالح مع النخبة الخيّرة في هذا البلد والامتناع عن توظيف ورقة التيارات المتشددة، بل المطلوب منها تأهيل هؤلاء المتشددين لا ترك الحبل على الغارب. وأضاف أنّه يعتقد أن أمام مجلس الشورى الذي يجتمع اليوم مهمة دقيقة فإما أن تصلح حركة النهضة أخطاءها المتكررة والقاتلة وتلتحق بالتيارات السياسية المدنية وتنخرط في كتابة دستور لدولة مدنية ديمقراطية حقيقية، وإما أنها ستذهب الى الانقسام والتشتت. وقال : "اعتقد أنه مازال في حركة النهضة عديد الديمقراطين والليبراليين الذين لهم رغبة حقيقية في الاصلاح :إصلاح يبدأ أساسا بالتخلص من انتماء النهضة إلى ما يسمى بتيار الاسلام السياسي والامتناع عن تسييس الدين وتديين السياسة حفاظا على قداسة الدين واحتراما لخصوصيات السياسة فهل ستقدر حركة النهضة أن تكون في مستوى هذا الرهان مثلما حصل في تركيا؟ أم أنها ستدخل مرحلة العد التنازلي مع نظرائها في بلدان الربيع العربي". وفي خلاصة حديثه عن مشروع الدستور الجديد، أبرز أن المطروح ليس كتابة دستور جيد فقط بل المطلوب هو تطبيق جيد لهذا الدستور ويقتضي التطبيق الجيد مؤسسات مستقلة وميكانيزمات شفافة ومجتمع حر واعلام ذو مصداقية وثقافة قوامها التسامح و الاعتدال و التضامن المجتمعي، مضيفا : "وهي شروط لا أتصورها صعبة التحقيق في مجتمعنا التونسي حاليا مجتمع أثبت عبر تاريخه انه يتأثر ويؤثر في الحضارات" . وحول ما تشهده البلاد من مظاهر التطرف والتعصب والانغلاق قال إنّها حالات عابرة ستزول بزوال أسبابها , وسيتصدى التونسيون لمن يريد أن يسرق ثورتهم ويُغيّر أهدافها الحقيقية التي قامت من أجلها. وعبّر علية العلاني عن أمله في أن تطوى سنة2013 صفحة الاحتقان وتعود عجلة الاقتصاد الى الدوران وتصبح العدالة الاجتماعية واقعا لا شعارا ويسود التونسيين شعور الأخوة الحقيقية ويعود للتعليم توهجه و للسياحة تألقها ويصبح الدستور ضامنا لحياة ديمقراطية حقيقية وعندها فقط تكون الثورة التونسية قد نجحت، قائلا : "وكما أن تونس كانت أول دولة شهدت دستورا في العالم العربي فإنها يمكن أن تصبح أول دولة عربية تطبق الديمقراطية بمعاييرها الدولية". همسة في أذن الغنوشي وعن دور راشد الغنوشي، قال : "اعتقد ان للغنوشي دورا هاما جدا في المرحلة الانتقالية فهو الوحيد القادر على إدخال تغيير جوهري في المنظومة الفكرية لحزبه ويمكن أن يستغل حضوره الكارزمائي لتوجيه حزبه في اتجاه تنظيم مدني لا يوظف الفضاء الديني في الفضاء السياسي ولا يخلط بين المقدس والبشري أي أن يصبح حزب حركة النهضة ذو مرجعية مدنية صرفة لان المرجعية الإسلامية هي من تراث التونسيين وليس من حق أي حزب اعتمادها كأرضية للعمل السياسي. وأضاف بأن الغنوشي قادر على أن يصبح من رجال الإصلاح التونسيين في القرن 21 إذا عرف كيف يقطع نهائيا مع ايدوليوجية تيار الإسلام السياسي التي تكاد تعصف بالاستقرار في مصر وتهدد كيانها كدولة، وينخرط في نمط مجتمعي ونظام سياسي تكون فيه الدولة راعية للأديان بحيادها لا بتوظيفها، قائلا : "ولنا في التجربة التركية خير مثال فعند زيارتي الأخيرة الى اسطنبول منذ أسبوعين رأيت المساجد مليئة بالمصليين من كل الاعمار وسمعت الإمام يخطب في اتجاه تجذير قيم التحابب والاخوة و التضامن، ودخلتُ المقاهي فوجدت المحجبة والمنتقبة و المرتدية للباس القصير ولا أحد يتحرش بالأخر ، فهل فقدت تركيا هويتها عندما رفضت الخلط بين الدين و السياسة؟ ليت الغنوشي يدرك ان النموذج التركي هو الأقرب الى تونس مع إضفاء بعض الخصوصيات عليه". وحول الخطى التي على النهضة أن تسلكها، قال : "مازال عندي أمل في أن تصبح حركة النهضة حزبا يتخلى عن كل دغمائية لو تعجل الخطى نحو إصلاحات أساسية في مقدمتها : أولا : عدم اقحام الدين في السياسة وثانيا: التخلي عن عقلية الاقصاء من خلال سحب مشروع قانون تحصين الثورة لان الذي يبدأ بالإقصاء يكون ضحيته مستقبلا و ثالثا : حل رابطات حماية الثورة المورطة في عديد من المآسي لأنّ وجودها يسيء إلى المشهد الديمقراطي المراد بناؤه ويسيء كذلك إلى النهضة بنفسها كطرف هام في اللعبة السياسية". كما أضاف : "إنّ هذا المشهد سيحمل لتونس كل الخير وسيقي البلاد ويلات الانفلاتات الأمنية وسيجعل حدود تونس أكثر أمنا، وسيدفع بالتعاون المغاربي في سكّته الإنمائية الحقيقية لا سكّته الأمنية المخابراتية فحسب". وقال في نهاية حديثه مع "الصباح نيوز" : "أعرف أنّ الرهان كبير ولكن الرجال يُعرفون عند الأزمات وفي الأوقات الصعبة ولن تُعدم تونس من المصلحين، فهل يقدر أن يكون الغنوشي أحدهم؟ وهل يقدر رموز التيار الليبرالي واليساري المساهمة في الحركة الإصلاحية الجديدة بمقارباتهم وأطروحاتهم حتى يصبح شعار "تونس للجميع" واقعا ملموسا وتوجها استراتيجيا، وحينها تقل كثيرا الطيور المغردة خارج السرب ونصل بتونس إلى شاطئ الأمان، شاطئ الديمقراطية والرفاهية والإبداع والتنمية الشاملة.