رغم أن تونس لا تعد من البلدان الصناعية الكبرى في العالم، ولا تعاني من الكثافة السكانية المرتفعة، الا أن معدلات التلوث البيئي تبقى مرتفعة في بلادنا، وجاءت الحملة التطوعية الأخيرة للنظافة في مختلف جهات الجمهورية لتكشف حجم هذا التلوث في شوارعنا وفضاءتنا العامة والخاصة، حيث تشير آخر الاحصائيات إلى أن كمية النفايات المنزلية في تونس تقدر سنويا ب 3 ملايين طن يتم ردم أغلبها أو نقلها إلى المصبات العشوائية في ظل غياب منظومة للتصرف في النفايات نتيجة التكلفة العالية لتثمين النفايات والتي تصل كلفة الطن الواحد من النفايات المنزلية إلى 90 دينارا، كما تفيد معطيات نشرها موقع "Numbeo . com" أن تونس احتلت المرتبة 27 عالميا بنسبة تلوث تقدر ب 75.12 بالمائة والثالثة إفريقيا، ورغم المحاولات المتكررة لمجابهة التلوث البيئي في تونس إلا أن كل المؤشرات والمعطيات تؤكد أن المشكل الأساسي يتجسد في ضعف منظومة النظافة وغياب آليات الردع وقلة الإمكانيات. وكانت وزارة البيئة أعلنت سنة 2013 عن برنامج استعجالي لمكافحة تفاقم التلوث في تونس عبر تجميع النفايات البلاستيكية من الطرقات وإزالة المصبات العشوائية لكنه لم يف بالحاجة، كما تم إحداث سلك الشرطة البيئية الذي يقوم بتطبيق التشريعات والقوانين المتعلقة بالبيئة، ورغم انتظارات البعض من أن يكون هذا السلك الجديد انطلاقة للقضاء على هذا الخطر الداهم، إلا أن الوضع البيئي مازال يمثل خطرا يهدد حياة التونسيين. فشل السياسات الحكومية للتصدي للتلوث البيئي يعود إلى جملة من العوامل، على غرار غياب التنسيق بين المتدخلين في الشأن البيئي ما أدى إلى تدهور الوضع البيئي والصحي في تونس بعد الثورة بسبب تراكم النفايات والفضلات في المناطق السكنية والصناعية والفلاحية وحتى السياحية، اضافة إلى ضعف الإطار المؤسساتي وغياب المتابعة من قبل البلديات، كما أن عمل جهاز الشرطة البيئية لم يكن في حجم التطلعات وحاد عن دوره الاساسي في العديد من المناطق والجهات، وذلك رغم صرامة القوانين المنظمة، وفرض عقوبات على إلقاء الفضلات في الأماكن العمومية بين 30 و60 دينارا وتصل هذه العقوبات إلى الجنحة في صورة إلقاء الفضلات في الأودية والسباخ أو حرق النفايات حينها يتم تسلط خطايا مالية تتراوح بين 300 وألف دينار، فان هذه الاجراءات والقوانين لم تأت أكلها ولم تنجح في تخفيف وطأة التلوث الذي أصبح يمثل خطرا حقيقيا يجب أخذه بعين الإعتبار، خاصة في الحوض المنجمي بولاية قفصة وفي المناطق الصناعية في قابس وصفاقس وبنزرت، التي تعتبر مناطق سوداء تهدد مستقبل الاجيال القادمة في ظل إنعدام التوعية والوعي بأهمية البيئة السليمة، وتأثيرها الكارثي على مصدر أساس للحياة وهو مياه الشرب ومياه الري. الحكومة مازالت عاجزة عن تنفيذ قراراتها وفرضها على الشركات الملوثة والإيفاء بوعودها، وباستثناء تفعيل قرار غلق معمل السياب بصفاقس الذي اتخذته الحكومة الحالية، فان معاناة أهالي قابس وبنزرت وقفصة مازالت متواصلة بسبب عدم ايفاء السلطة بتعهداتها كما أن الحلول المقترحة لم تنه التلوث بصفة نهائية وإنما نقلته من منطقة إلى أخرى استجابة في كل مرة للضغط المجتمعي، وهي حلول اصطدمت باحتجاجات عمالية ترفض غلق المصانع التي تستوعب عددا هاما من الإطارات والعاملين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهو ما وضع الحكومات أمام معادلة صعبة بين المحافظة على مواطن الشغل وبين القضاء على التلوث، وهي معادلة لم يخل منها الدستور الذي تطرق في عدة مواضع الحق في البيئة وخاصة في الفصل 45 منه الذي جاء فيه: "تضمن الدولة الحق في بيئة سلمية ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ، وعلى الدولة توفير الوسائل الكفيلة بالقضاء على التلوث البيئي"، والذي يقرن بين البيئة والاستدامة ما من شأنه أن يغلب المقاربة الاقتصادية على المقاربة البيئية الصرفة، كما أن "هيئة التنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال القادمة" التي نص عليها الفصل 129 من الدستور، لم يقع إحداثها بعد ولم تتم المصادقة على قانون أساسي خاص بها، علاوة على صلاحياتها الاستشارية المحدودة في مشاريع القوانين المتعلقة بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وفي مخططات التنمية. آخر الاحصائيات الخاصة بتونس فيما يتعلق بتأثير التلوث على حياة التونسيين، جاء في موقع "ستايت اوف قلوبال آر" ان كشف في تقريره الصادر في 2017 حول تقييم وضع التلوث الهوائي في العالم ان 4500 تونسي توفوا خلال 2015 بسبب التلوث الهوائي فتونس تظهر في الخارطة التي نشرها الموقع ضمن اكثر الدول الملوث هواؤها في العالم إذ تسجّل اعلى معدلات تركز للجزئيات الملوثة في الهواء مقارنة بعدد السكان، وإن لم تبلغ تونس مستوى التلوث في الدول الصناعية الكبرى، الا أنها تحتل مرتبة عالمية متقدمة من حيث التلوث البيئي و الهوائي، اضافة إلى احتلالها مراتب متقدمة من حيث التلوث البحري وتلوث التربة مقابل عجز رسمي على صياغة استراتيجية فعالة لحماية البيئة. وجيه الوافي