أكثر من 80 بالمائة من المصانع التونسية تشتغل في قطاعات "ملوثة". لكن الأخطر هو ما وصفه الخبراء بكارثة إلقاء الفضلات السامة في الطبيعة في نسبة كبيرة من هذه المصانع مما يهدد بكوارث بيئية وصحية. فما هي حقيقة كابوس التلوث الصناعي في تونس. تونس الشروق: ابتسام جمال معظم الناشطين في النسيج الصناعي في تونس لا يراعون الشروط ولا المواصفات المتعلقة بمقاومة التلوث، وهي مؤسسات ملوثة ومفرزة لمواد خطيرة.. تلك هي فحوى صيحة التحذير التي ألقاها منذ أيام خبراء ونشطاء في البيئة داعين إلى مزيد من المراقبة والصرامة، وإلى انتهاج الحلول المتوفرة والتي تتضمن تقنيات عالمية جديدة تنتهجها البلدان التي تحترم حقوق مواطنيها والأجيال القادمة في الصحة والبيئة السليمة. تحذيرات وكوارث مسح قامت به جمعية ''إيكولوجيا تونس'' في 121 منطقة صناعية، بين أن نسب التلوث الصناعي في بلادنا تتراوح بين 9 و42 بالمائة حسب المناطق، وحسب نوعية النشاط الصناعي. ولئن تعتبر ولاية المنستير الأعلى في نسب التلوث المسجلة من مصانعها، فإن ولايتي قابسوصفاقس تعتبر المناطق الأكثر خطورة من حيث نوعية التلوث. الدراسة قامت بوضع خارطة للتلوث تشير إلى وضع قاتم في البلاد، حيث نجد أن 15 بالمائة فقط من المؤسسات المصنفة ملوثة في البلاد يقومون برسكلة نفاياتهم. مع العلم أن 80 بالمائة من المؤسسات الصناعية تنشط في قطاعات ملوثة بدرجات متفاوتة. وهو ما يعادل 4 آلاف مؤسسة من بين أكثر من 5300 مؤسسة تنتمي للنسيج الصناعي. وتسبب إلقاء الملوثات الصناعية في البحر، منع السباحة سنويا في شواطئ يتراوح عددها سنويا بين 17 و23 شاطئا بعد تحاليل مخبرة للمياه تقوم بها مصالح إدارة حفظ الصحة ورعاية المحيط. كما يتسبب التلوث الصناعي في الإضرار بنوعية الهواء وتلوثه. ويذكر أن تقارير دولية أشارت إلى أن الهواء مسؤول في تونس عن مقتل 4500 شخص ويشير الخبراء إلى تفاقم ظاهرة تلوث الهواء، والتي يساهم التلوث الصناعي فيها، وتتسارع في مؤشرات تلوث الهواء عالميا مما يرشحه إلى أن يكون القاتل الأول مستقبلا. وتحتل تونس المرتبة ال27 عالميا في مجال التلوث، والثالثة إفريقيا. ويتسبب تلوث الهواء في جملة من أمراض الجهاز التنفسي منها الربو والحساسية وأمراض القلب والشرايين. جرائم وحلول رغم إمضاء تونس على جملة من الاتفاقيات المتعلقة بمقاومة التلوث وحماية المحيط فإن الإحصائيات تشير حسب مجموعة من الدراسات منها الوكالة الوطنية لحماية المحيط ووكالة حماية وتهيئة الشواطئ، إلى معدلات تلوث تصل في بعض الأقطاب الصناعية إلى 42 بالمائة، وهي ملوثات تحتوي مواد سامة وقاتلة يتم الإلقاء بها في الطبيعة. وتوجد هذه الملوثات خاصة في الصناعات الكيميائية وصناعة المواد الغذائية واستخراج المعادن والبترول، وهي قطاعات ترتفع فيها الجرائم البيئية والتجاوزات التي تهم انتهاكات البيئة والتلوث. ويبدو أن المؤسسات الصناعية قد انتهزت فرصة تراجع الرقابة المستمرة على المؤسسات الصناعية في النقاط المتعلقة باحترام شروط البيئة ومقاومة التلوث. وعلى سبيل المثال يتم في خليج قابس، حيث المصانع الكيميائية، إلقاء 360 كيلوغرام من الفضلات الملوثة كل ثانية، وهو ما يعادل 28 ألف طن يوميا. كما تقوم وحدات إنتاج الفسفاط بإلقاء ما بين 10 و12 ألف طن من الفضلات الخطيرة جدا، بل والكارثية. لكن وفي المقابل تجدر الإشارة إلى أنه ومن الأسباب التي جعلت عددا من الصناعيين "حائرين" في معالجة أزمة التلوث غلق مركز جرادو المختص في معالجة النفايات الصناعية والخاصة. وحسب الخبراء فإن الصناعيين اضطروا إلى تصدير النفايات إلى شركات خاصة بالخارج بتكاليف مرتفعة. ويقوم صنف ثاني من الصناعيين بإلقاء الفضلات في المياه والبحر والأودية والتربة فيما يحتفظ آخرون بفضلاتهم في انتظار الحل. وقد طرحت جمعية إيكولوجيا تونس حلولا قالت إنه بإمكان الصناعيين تطبيقها عوض دفع أموال طائل بالعملة الصعبة لمعالجة أزمة النفايات. ويمكن جعل سوق النفايات سوقا تنافسية وخاضعة للمواصفات البيولوجية الدولية وبتكاليف أقل. كما يمكن للصناعيين في صفاقسوقابسوبنزرتوالمنستير استغلال طرق حديثة في مقاومة تلويث البترول والمواد الأخرى وإزالتها وإزالة المواد الخطرة بطرق بيولوجية. أين الرقابة ؟ تجدر الإشارة إلى أن مراقبة عمليات التلوث تحتاج إلى مهندسين وخبراء من درجة عالية باعتبار أن تصنيف الفضلات ودرجة خطورتها، غير ممكن بالعين المجردة. كما أن الإفرازات تتنوع بين غازات وسوائل ومواد جامدة. ورغم توسع النسيج الصناعي في تونس فإن الوكالة التونسية لحماية المحيط ليس لها غير 36 خبيرا مختصا، قد ينضاف إليهم خمسة جدد سيعززون عمل المراقبين المختصين. وهم مسؤولون على احترام القانون وتطبيق كراس الشروط ومتابعة وضعيات المصانع، وهو ما يجعل معالجة إشكاليات التلوث الصناعي صعبة بهذه الإمكانيات. أما ما زاد الوضع سوءا فهو غلق مصنع جرادو منذ 8 سنوات في ولاية زغوان. وكان هذا المصنع الذي يشتغل في إطار تعاون تونسي ألماني يمكن من معالجة 120 ألف طن من النفايات الصناعية الخطيرة، أي ما يقارب من نصف النفايات التونسية. في المقابل عبرت مصادر من وزارة البيئة المختصة في المجال الصناعي أن هناك وعي بإشكاليات التلوث الصناعي في تونس. ويتم العمل عل وضع استراتيجيات عملية للتصدي له. وأن الوزارة تقوم بعمليات التشخيص والمراقبة في الأقطاب الصناعية الكبرى. كما أن هناك عمليات متابعة ومخالفات وغلق للوحدات الصناعية الملوثة بصفة مرحلية. ومن بين استراتيجيات مقاومة التلوث نجد رصد 90 مليارا لاستصلاح بحيرة بنزرت على مدى خمس سنوات. كما تم تنظيف سواحل صفاقس من مادة الفوسفوجيبس، وحصر مادة الزئبق (mercure) في ولاية القصرين وتنظيف المنطقة من هذه المادة الخطيرة. وذكرت مصادرنا بأن هناك منح ودعم وتسهيلات من الدولة لمقاومة التلوث. ويبقى موضوع التلوث الصناعي "كارثة" تحتاج إلى دعم أكبر إلى الأجهزة الرقابية وأجهزة حماية البيئة والبحث العلمي، فالعواقب وخيمة على الصحة والفلاحة ومحيط العيش. البحر «يموت» والتربة «عقيمة» والأمراض بالجملة يشير عدد من الخبراء في مجال البيئة إلى تسبب مصانع عديدة ومنها المصنع الكيميائي بقابس في انعدام مختلف أشكال الحياة البحرية من نباتات وأسماك وغيرها. وهو ما أضر بالتنوع البيولوجي بخليج قابس. كما تتسبب المواد السامة للمصنع في عدد من أمراض الكلى والسرطان والعقم. ويستنزف المياه. ويتسبب ثاني أكسيد الكبريت في إزالة الغابات وإتلاف الواحات. أما الحامض الكبريتي فيحول الأمطار إلى حمضية تتسبب في دمار المناطق المحيطة. ويتسبب التلوث بصفة عامة في تسميم الهواء والماء والتربة وهو ما ينجر عنه عدد من الأمراض مثل احتقان الأنف، واحمرار العيون. كما يتسبب في أمراض الجهاز التنفسي وأمراض القلب وأمراضا خطيرة مثل السرطان وتلف الكبد وقصور الرئة وأمراض القلب. وتحتوي الملوثات على مواد تتسبب في زيادة نسبة الألومنيوم الذي يخلف أمراضا مثل هشاشة العظام وفقر الدم. كما قد تتسبب في زيادة نسبة الرصاص في عدد من المواد المستهلكة وهو ما يساهم عدد من الإعاقات وآلام المفاصل والرأس والأمراض الأخرى. أغلب مصانعنا ملوثة.. وهناك تقنية بيولوجية جديدة توفر الحلّ تصاعدت في الفترة الأخيرة تحذيرات من جمعيات بيئية حول تلويث المصانع وخطرها في تونس، فما حقيقة الوضع في بلادنا ؟ لقد تفاقم الوضع بعد الثورة على ما كان عليه قبلها، وقد لاحظنا تراجع الاهتمام بالجانب البيئي. من المهم أن تعتني الدولة بالجانب الاجتماعي ومقاومة الفقر والبطالة، لكن الجانب البيئي والذي يهم صحة المواطن له أهمية أيضا. يجب أن نحترم أرضنا وتربتها وهواءها وبحرها. من المحزن أن يتسبب الوضع البيئي الناجم عن تلويث المصانع في وجود 19 شاطئا ملوثا جدا وتمنع فيه السباحة بسبب مياهه الملوثة، منهم 6 في تونس الكبرى، إضافة إلى تلويث في التربة وفي الهواء. الأرقام التي لدينا ايضا تثير أكثر من نقطة استفهام حول عدم احترام المصانع لشروط السلامة فهي مصانع ملوثة. من ذلك وعلى سبيل المثال لدينا بين مصانع الصناعات الغذائية 1082 مصنعا، منها 206 مصنعا فقط لها شهائد لمطابقة المعايير، أما مصانع الإلكترو منزلية، فنسبة احترامها هامة تناهز 54 بالمائة. فيما نجد أن 5 بالمائة فقط من مصانع الجلود والأحذية تحترم الشروط. أما في ما يتعلق بالمصانع الكيميائية فلدينا 572 مصنعا منها 186 أي 36 بالمائة يحترمون الشروط، وهو ما يشكل خطرا على صح المواطنين، وكذلك هناك نسبة متدنية للمصانع التي تحترم الشروط في اختصاص البلور والسيراميك وهي تناهز 4 بالمائة فقط. للأسف كثير من المصانع تبحث على جني الأموال دون مراعاة لصحة، فتقوم بالتصنيع دون احترام للصحة. أي دور للمراقبة في التصدي للمصانع الملوثة ومخالفتها ؟ عملية المراقبة تتطلب خبراء من المهندسين العارفين بأخطار المواد المستعملة وفضلات المصانع، فهناك ملوثات غير مرئية ولا يمكن لغير الخبراء ملاحظتها. لحسن الحظ وزارة البيئة انتدبت مؤخرا 5 خبراء جدد لتدعيم عمليات المراقبة والفحص وهي عمليات دقيقة، ولا بد من الاستثمار في هذه الخبرات. تم القيام بحوالي 6351 عملية مراقبة وتحرير 641 محضرا من وكالة حماية المحيط. أي أنه وبين المصانع التي تمت مراقبتها 10 بالمائة منها ملوثة ولا تحترم المواصفات، كما نجد بين 5 موانئ تونسية اثنين منها ملوثة رغم أنها ملك الدولة. عموما توجد 121 منطقة صناعية في تونس. وهناك اعتراف في هذه المناطق بأنها ملوثة، ويجب احترام كراس الشروط. تقوم هذه المصانع كل سنة بإلقاء 254 الف طن من النفايات الخطيرة. ونلاحظ في خارطة تعامل هذه المصانع مع نفاياتها ثلاثة أنواع من المعاملات. هناك مؤسسات تحترم المواصفات ولها تعاملات مع مؤسسات أجنبية تقوم بالتصرف في هذه النفايات، وهناك من يقوم بمحاولة معالجة أزمة النفايات من خلال استغلال دعم الدولة، وهناك صنف ثالث يقوم بإلقاء الفضلات السامة في الأودية والمياه والبحار وفي التربة. كما أن هناك مؤسسات قامت بتجميع فضلاتها في صهاريج ومعلبات في انتظار أن تجد الحل. ما هي الآليات الموضوعة والحلول الجديدة لإزالة التلوث ؟ هناك قروض ومنح من الدولة لمجابهة التلوث. وهناك صندوق لإزالة التلوث تعطل للأسف بعد الثورة، لكن ما يفرح أن وزارة البيئة أعادت تفعيله مؤخرا. علينا أيضا أن نشدد على الجانب الردعي الذي يوفر بفضل الخطايا التي تفرضها المحاكم التونسية أموالا يمكن استغلالها في مقاومة التلوث. أما في ما يتعلق بالحلول، فالتكنولوجيا تتقدم عبر العالم وكانت البحرية الأمريكية قد اخترعت سائلا جديدا قادرا على تعقيم الملوثات وقد انتقلت هذه التكنولوجيا إلى فرنسا وبلجيكا. زارنا أربعة خبراء من هذه البلدان وتحدثوا عن الطريقة البيولوجية الجديدة التي تزيل التلوث وتحمي التربة والماء، وهي طريقة أثبتت نجاعتها في 20 دولة.