منذ أن أصدرت دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف بتونس بطاقة إيداع ضد المدعو سامي الفهري(*) صلب قرارها القاضي بإحالته على المحكمة الجنائية المختصة سارعت بعض وسائل الاعلام في إطار حملة ممنهجة بالزعم بأن ذلك القرار يدخل ضمن تصفية حسابات شخصية بين أطراف سياسية وأخرى إعلامية . وتسارعت الحملة الاعلامية وقويت وتيرتها بعد صدور القرار التعقيبي الأول عدد 7212 بتاريخ 28/11/2012 والقاضي بنقض القرار المطعون فيه وإرجاع القضية إلى محكمة الإستئناف بتونس لإعادة النظر فيها مجددا بهيأة أخرى وحاولت الأطراف المشاركة في تلك الحملة إيهام الرأي العام بأن محكمة التعقيب أصدرت قرارا بالإفراج عن المتهم سامي الفهري من سجن إيقافه وأن النيابة العمومية رفضت تنفيذ ذلك القرار بتأثير من السلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل. ولتسليط الضوء على هذا الطرح الإعلامي للأحداث ومعرفة مدى صدقيته يجب بادئ الأمر عرض المسألة المتعلقة بوضعية المتهم سامي الفهري من الناحية القانونية وبيان المواقف القضائية عبر مختلف المراحل التي مرت بها القضية إلى حد الآن (أ) لمعرفة مدى صحة الإتهام الموجه للنيابة العمومية في علاقتها مع وزارة العدل والأسباب الحقيقية الكامنة وراء ذلك الإتهام (ب). أ- حقيقة الإشكال القانوني والمواقف القضائية المتّخذة بشأنه لا شك أن وضعية المدعو سامي الفهري أثارت إشكالا قانونيا بعد صدور قرار النقض الأول(1) تناولته المحاكم بمختلف أصنافها بالتحليل من وجهات مختلفة يتعين ابداء الرأي بشأن مواقفها(2) 1- حقيقة الإشكال القانوني المطروح:
(*)المتّهم بجريمة المشاركة في مخالفة موظف عمومي للتراتيب المنطبقة على ما كلّف به بمقتضى وظيفه من شراء مكاسب لتحقيق فائدة لا وجه لها لغيره والإضرار بالإدارة طبق أحكام الفصول 32 ، 82 ، 96، 98 من المجلة الجزائية.
لتوضيح المسألة من الجانب القانوني ودون الخوض في الوقائع بحكم أن القضية لا تزال محل نظر الجهات القضائية تجدر الإشارة إلى أن أسباب الإشكال المطروح تعود بالأساس لكون بطاقات الايداع غالبا ما تصدر في الطور التحقيقي وأحيانا في مستوى دائرة الاتهام عندما تكون الأبحاث جارية ونادرا ما يكون صدور بطاقة الايداع في نفس قرار الإحالة على المحكمة المختصّة مثلما هو الحال في قضية "سامي الفهري"، فإذا ما نقضت محكمة التعقيب قرار الإحالة فهل يطال ذلك النقض حالة المتهم الموقوف ويترتب عنه إطلاق سراحه عملا بأحكام الفصل 273 من مجلة الإجراءات الجزائية والذي ينص صراحة أن "القرار الذي تصدره محكمة التعقيب بالنقض يرجع القضية للحالة التي كانت عليها قبل الحكم المنقوض وذلك في حدود ما قُبِل من المطاعن"؟ و بشكل أدق هل أن قرار النقض الذي أصدرته محكمة التعقيب بتاريخ 28/11/2012 يفضي بصفة آلية وغير قابلة للنقاش إلى إطلاق سراح سامي الفهري أم أن الموضوع يحتاج إلى نظر وتدقيق؟ للجواب عن هذا التساؤل يتعين الانطلاق أولا من وضع مسألة قانونية بديهية في الحسبان تعتبر من الثوابت مفادها أن محكمة التعقيب بوصفها محكمة قانون لا تنظر مبدئيا في مطالب الطعن إلا إذا كانت مؤسسة على أحد الأسباب التالية: - عدم الاختصاص - الافراط في السلطة - خرق القانون أو الخطأ في تطبيقه (الفصل 258 م أ ج). وأن القرارات التي تصدرها تكون إما بالرفض أو بالنقض والاحالة أو بالنقض دونها. ومن هذا المنطلق فان النيابة العمومية لدى محكمة التعقيب لا علاقة لها بتنفيذ الأحكام القضائية التي هي من مشمولات محاكم الموضوع. إلا أنه وبصفة استثنائية وباعتماد تحليل منطقي مبني على المزاوجة بين أحكام الفصلين 265 و273 من مجلة الاجراءات الجزائية (*) فانه إذا كان من آثار النقض ارجاع القضية للحالة التي كانت عليها قبل الحكم المنقوض بما يعني الغاءه كليا أو جزئيا فمن البديهي الغاء النتائج المترتبة عنه ومنها تنفيذ العقوبة التي قضى بها. ففي مثل هاته الحالة يكون من واجب النيابة العمومية أن تأذن بسراح المحكوم عليه عند توفر الشروط التالية: - أن تصدر محكمة التعقيب قرارا بنقض الحكم المطعون فيه. - أن يكون الحكم المنقوض قاضيا بعقوبة نافذة. - أن يكون المحكوم عليه قد أودع السجن تنفيذا للحكم المنقوض. أما اذا كان المتهم موقوفا بمقتضى بطاقة ايداع صادرة عن جهة قضائية أصلية فلا يسوغ قانونا للنيابة العمومية ولو في صورة نقض الحكم المطعون فيه أن تأذن بالافراج عنه من سجن ايقافه للأسباب التالية: - عدم وجود سند قانوني: ذلك أن الأثر القانوني للنقض المنصوص عليه صلب الفصل 273 م أ ج لا ينسحب مباشرة على المحكوم عليه بدليل أنه يظل موقوفا ولو في صورة النقض إذا لم يكن وجوده بالسجن تنفيذا للحكم المنقوض. - بطاقة الايداع مسألة موضوعية: لأنها من خصائص قضاة الأصل تتخذ في الجنايات والجنح المتلبس بها وكذلك كلما ظهرت قرائن قوية تستلزم الايقاف باعتباره وسيلة أمن يتلافى بها اقتراف جرائم أخرى أو ضمانا لتنفيذ العقوبة أو طريقة توفر سلامة سير البحث (الفصل 85 م أ ج) فان بطاقة الايداع تعتبر من المسائل الواقعية الخاضعة لمطلق اجتهاد قضاة الأصل في تقدير تلك الحالات لا رقابة لمحكمة التعقيب عليها طالما كان اجتهادها مؤسسا واقعا على ما له أصل ثابت بأوراق القضية ومعللا تعليلا سليما. - بطاقة الايداع اجراء وقتي : لأنها تمثل وسيلة تحفظية استثنائية (الفصل 84 م أ ج) يلتجأ إليها عندما تتوفر الشروط الواقعية المشار إليها آنفا ويمكن الرجوع فيها والاذن بالسراح المؤقت بضمان أو بدونه كما يجوز اصدارها من جديد ولو بعد السراح بسبب عدم الحضور أو ظهور ظروف جديدة وخطيرة (الفصل 88 م أ ج) فان لبطاقة الايداع صبغة وقتية لا تأثير لقرار النقض فيها لأن مجال تأثيره في القرارات والأحكام الصادرة في الأصل نهائيا ولو تم تنفيذها (الفصل 258 م أ ج) (*) الفصل 265 :" الطعن بالتعقيب لا يوقف تنفيذ الحكم المطعون فيه ... ". الفصل 273 :" القرار الذي تصدره محكمة التعقيب بالنقض يرجع القضية للحالة التي كانت عليها قبل الحكم المنقوض و ذلك في حدود ما قبل من المطاعن".
و يكفي لابراز الصبغة الوقتية للقرارات المتعلقة ببطاقات الإيداع وعدم إقترانها بالقرارات و الأحكام الأصلية أن نضرب مثالين: الأول : عندما يتسلط النقض على قرار إتهامي أو حكم قضائي تخلت فيه محكمة الموضوع عن النظر في القضية لعدم اختصاصها وإبقاء بطاقة الايداع الصادرة ضد المتهم سارية المفعول فهل في هذه الحالة يفرج عن المتهم بمجرد صدور قرار بالنقض ؟ الثاني : عندما يتسلط النقض على قرار اتهامي قضى بحفظ التهمة المنسوبة للمظنون فيه و ترك سبيله فهل يودع من جديد السجن إعتبارا لحالته قبل الحكم المنقوص. الاجابة تكون قطعا بالنفي لكون النقض لا يتسلط إلا على القرارات والأحكام الأصلية ولا يؤثر سوى في أعمال التنفيذ المتعلقة بها، أما القرارات الوقتية ومنها بطاقة الإيداع والتي هي من الاختصاص الدائم والعام لدائرة الاتهام (الفصل 117 م أ ج) يجوز لها اصدارها ولو صلب قرارها الأصلي القاضي بالاحالة على المحكمة المختصة، غير خاضعة لرقابة محكمة التعقيب. فهل انتهجت هذه المحكمة عند نظرها في الطعن المرفوع من قبل نائب المتهم سامي الفهري هذا المنحى واعتمدت تأويلا قانونيا يتلاءم ومقاصد المشرع؟ 2 المواقف القضائية المتخذة بخصوص الاشكال القانوني: بالاطلاع على القرار التعقيبي الأول يتّضح أن الدائرة التي أصدرته أسست نقضها لقرار دائرة الإتهام على مخالفتها للفصل 114 من مجلة الإجراءات الجزائية فبعد إستعراضها لأحكامه والتي توجب على دائرة الإتهام البت في القضية في الأسبوع الموالي ليوم اتصالها بها بمحضر الادعاء العام وبدون حضور الخصوم تقر المحكمة بأن دائرة القرار المنقوض اتصلت بملف القضية مصحوبا بطلبات النيابة العمومية يوم 20 أوت 2012 وبأنها أصدرت قرارها يوم 24 أوت 2012 أي في نفس الأسبوع لتستخلص- بطريقة لا تمت للمنطق السليم بأية صلة وفيها انحراف حاد في تطبيق النص القانوني- بأن دائرة الإتهام لم تحترم الأجل المنصوص عليه بالفصل 114 واعتبرت بأن ذلك يشكل خرقا صريحا للإجراءات. لا يختلف اثنان في ان الاسباب التي بنت عليها محكمة التعقيب قرارها الاول بالنقض واهية لاعتمادها على تطبيق سيئ لمقتضيات الفصل 114 المشار اليه على المعطيات الواقعيّة المعروضة عليها يتعارض مع وظيفتها الاساسيّة كمحكمة قانون يمكن وصفه بالخطأ البيّن اذ لا يحتاج القارئ العادي لأسانيد النقض إلى دراية قانونية للوقوف على وهن ذاك التأويل. و بصرف النّظر عن مدى صحّة الأساس القانوني الّذي اعتمدته محكمة التعقيب عند نقضها لقرار دائرة الاتّهام و الكيفية الغريبة التي نزلت بها الأحكام القانونية العامة على الأسانيد الواقعية الخاصة بالقضية ، فانّ ما يمكن استخلاصه من خلال أسانيد النقض أن المطاعن التي حَضيت بالقبول من قبل الدائرة التعقيبية إنحصرت في مسألتي خرق أحكام الفصل 114 من مجلة الإجراءات الجزائية وهضم حقوق الدفاع ولاعلاقة لها ببطاقة الإيداع الصادرة ضد سامي الفهري والتي لم تكن بتاتا من ضمن المطاعن المثارة من قبل لسان الدفاع لذلك فان النقض في مثل هذه الحالة يصبح منحصرا في القرار القاضي بالإحالة ولا يتسلط على وضعية المتهم سامي الفهري الذي تظل بطاقة الايداع الصادرة ضده سارية المفعول نظرا لكونها تمثّل اجراءا مستقلا بذاته غير متّصل من حيث الآثار القانونيّة للنّقض بالقرار الأصلي. و لم يقف الأمر في سوء تطبيق القانون وتأويله عند هذا الحد من قبل الدائرة التعقيبية الأولى بل تعداه عند إصدارها لقرارالشرح بتاريخ 5/12/2012 بتغيير موضوع المطلب المقدم والرامي إلى البت في نزاع تنفيذي للتأثير على قواعد التعهد وخاصة عندما اعتبرت أن نقضها للقرار الإتهامي كان نقضا كليا وبما أن بطاقة الايداع تعد جزءا منه فان النقض يشملها أيضا. هذا الموقف الذي اتخذته الدائرة التعقيبية صلب ما سمي "بقرار الشرح" يتصف بخرق القانون المفضي الى تجاوز السلطة ويثير جدلا كبيرا حول ملابساته إذ من غير المعقول أن تستند محكمة التعقيب إلى نص قانوني تأخذ منه ما تشاء وتتغافل فيه عما تشاء وعوض أن تعود المحكمة إلى استعراض المطاعن المثارة في القضية وتبني على ما قبلته منها وتستخلص النتائح القانونية باعتماد منطق سليم تطبيقا لمقتضيات الفصل 273 من مجلة الإجراءات الجزائية والذي يحصر أثر إرجاع القضية للحالة التي كانت عليها قبل الحكم المنقوض في المطاعن المقبولة دون سواها فإنها راحت تشرح مقاصد قرارها بعيدا عن الأحكام القانونية الصريحة المعتمدة و المطاعن المقبولة مما أسقطها في التزيّد والقول بأكثر ممّا قضي في شأنه خلافا لإرادة المشرع المجسمة في النّص القانوني المتعلق بشرح الأحكام القضائية . كما أن ما يبعث على الإستغراب ما اعتبرته محكمة التعقيب من أن بطاقة الإيداع جزءا من القرار الاتهامي دون تمييز بين ماهو أصلي نهائي وبينما هو وقتي استثنائي و كذلك بين النّتيجة القانونيّة لقرار منقوض و بين الوسيلة التحفّظية الخارجة عن نطاق الأثر القانوني للنّقض. و في اتجاه تصويب تلك الاخطاء فقد توخّت الدائرة التعقيبيّة التي تعهدت بالنّظر في الطّعن للمرة الثّانية تحليلا قانونيّا سليما مؤسّسا على التّفرقة بين القرارات الوقتيّة التى تكتسي طابعا موضوعيّا و بين القرارات الأصليّة الخاضعة لنظر محكمة القانون صلب قرارها عدد 576 بتاريخ 5/4/2013 عند ردها على المطاعن المثارة من قبل نائبي المتهمين بوصفهم فاعلين أصليين والذين صدرت ضدهم بطاقات ايداع من قبل دائرة الاحالة بكيفية مطابقة لوضعية المتهم سامي الفهري مع اختلاف في التوقيت و قد جاء حرفيا باحدى حيثياتها ( السابعة ) .."و خلافا لما ورد بمستندات الطعن فقد اقتضى الفصل 117 من مجلة الاجراءات الجزائية أنه يجوز دائما لدائرة الاتهام ان تصدر بطاقة ايداع ضد المظنون فيه بدون معقب عليها اذ أن ذاك يرجع فيه لتقدير الوقائع و ظروف القضية و خطورتها ومصلحة سير العدالة وهي أمور أوكلها القانون لاجتهادها المطلق باعتبارها دائرة احالة ثانية و أنه و عملا بأحكام الفصل 258 من مجلة الإجراءات الجزائية فان هذه المحكمة بوصفها محكمة قانون لا تنظر في القرارات الوقتية التي لا تهم الأصل طالما كانت مطابقة للنص القانوني و لم تمس بمصلحة المتهم الشرعية فضلا عن أن ما يترتب على ذاك من أثار قانونية من مشمولات جهة التنفيذ و اتجه الالتفات عن هذا الدفع ." لكن ما يبعث عن الاندهاش أنّ نفس تلك الدّائرة وعند نظرها في المطاعن المثارة من قبل نائب المتهم سامي الفهري اتخذت اتجاها معاكسا تماما أورث قضاءها تضاربا في المستندات لا نجد له أي تبرير فعوض تصحيح الخطأ الذي وقعت فيه الدائرة التعقيبية الأولى بخصوص وضعية المتهم سامي الفهري و التمسك بنفس التحليل الذي اعتمدته عند ردها على المطاعن المقدمة في حق المتهمين الأخرين حفاظا على سلامة التمشي في تطبيق أحكام الفصول 85 ، 117 ، 269 ، 273 من مجلة الاجراءات الجزائية فإنّها تبنت الخطأ السابق و بنت عليه قرارها بقبول مطلب تعقيب سامي الفهري شكلا و أصلا معتبرة أن ابقاءه تحت مفعول بطاقة الايداع السابقة رغم نقضها من طرف محكمة القانون فيه مس بحقوقه و انتهاك لحرمته الجسدية . وكنتيجة لذلك القرار أحيلت القضية مرة أخرى على دائرة الاتهام لإعادة النظر فيها من جديد بهيأة مغايرة و من الطبيعي أن تتمسك دائرة الاحالة الثانية بموقفها الرافض لما ذهبت اليه محكمة التعقيب باستعمال أسلوب قائم على الرد على أسباب النقض معتبرة أن إيقاف المتهم سامي الفهري كان تحفظيا بمقتضى بطاقة ايداع وليس بمقتضى حكم نهائي قاض بعقوبة بدنية نافذة يترتب عن نقضه تعقيبيا وجوبا سراحه وإرجاعه للحالة التي كان عليها قبل صدور الحكم المنقوض كما أن الفرع من القرار الإتهامي المتعلق ببطاقة الايداع لم يكن محل طعن من قبل لسان الدفاع و بحكم استقلاله عن الفرع الأصلي القاضي بالاحالة على المحكمة المختصة فلا مجال لاعتباره محل نقض وانتهت الى إعتبار بطاقة الإيداع الصادرة ضده سارية المفعول. إذا فرغما عن قراري النقض الصادرين لمصلحة المتهم سامي الفهري فان بقاءه بالسّجن قانوني و أنّ عدم الافراج عنه من قبل النّيابة العموميّة لا يشكّل امتناعا عن تنفيذ قرار قضائي باعتبارأنّ القرار المنقوض قاض بالاحالة على المحكمة المختصّة و ليس بعقوبة نافذة و أنّ وجوده داخل السّجن بموجب بطاقة ايداع و ليس تنفيذا لحكم قضائي و بذلك فانّ وضعيّة المتّهم المذكور لم تحسم بعد وهي لاتزال محلّ سجال قانوني بين قضاة الأصل وقضاة التعقيب لا دخل للجهة المكلّفة بالتّنفيذ فيه يمكن وضع حد له بعرضه على الدوائر المجتمعة متى توفّرت الشّروط القانونيّة لتقول كلمة الفصل فيه بعيدا عن المزايدات السياسية والمهاترات الإعلامية. ب- مدى صحة الإتهام الموجه للنيابة العمومية و وزارة العدل ومراميه المريبة بعد أن اتضح جليّا أنّ موقف النيابة العمومية لدى محكمة التعقيب- إزاء غموض قرار النقض الأول و عدم التنصيص صراحة صلب ما سمي بقرار الشرح على الاذن بالسراح وفق مقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 341 من مجلة الإجراءات الجزائية - مؤسس قانونا بدليل أن قضاة الاتهام أيدوه و ابقوا على بطاقة الإيداع سارية المفعول. الا أنّ بعض الأطراف الاعلاميّة أصرّت على اتّهام السّلطة التّنفيذيّة بالتّدخّل في الأحكام القضائيّة (1) فماهي الاهداف المنشودة من وراء ذلك (2) . 1- الأسباب المعلنة للاتهام : ان سلامة موقف النيابة العمومية لدى محكمة التعقيب من الناحية القانونية كفيل لوحده بإستبعاد الإتهام الموجه إليها من الإمتناع عن تنفيذ قرار قضائي ويقيم الحجة أيضا على بطلان ما تم ترويجه إعلاميا من وجود تدخل في الأحكام القضائية من قبل سلطة الإشراف على اعتبار تأثيرها المباشر في النيابة العمومية، كما أن ما حاول بعض الحقوقيين المسيّسين ترسيخه لدى العامة من أن ممثل النيابة العمومية مجبر قانونا على تنفيذ تعليمات وزير العدل يتجافى مع القانون و الواقع. فمن جهة القانون و بالرجوع الى احكام مجلة الاجراءات الجزائية فإن الإشراف المخول لوزير العدل على النيابة العمومية بموجب الفصل 22 من مجلة الإجرءات الجزائية (*) أو الفصل 15 من القانون المؤرخ في 14/07/1967 (*)لا يتعدى حدود إدارة ورقابة المرفق العام وأن مجال تدخله في الوظائف القضائية للادعاء العام ينحصر في الاذن: باجراء التتبعات في الجرائم التي يحصل له العلم بها و تقديم الملحوظات الكتابية التي يرى من المناسب تقديمها (الفصل 23 مجلة الاجراءات الجزائية) مع بقاء سلطة النيابة العمومية كاملة في ممارسة حق التتبع من عدمه تماشيا مع مبدأ ملاءمة التتبعات . بممارسة حق الطعن بالتعقيب (الفصل 258 سادسا مجلة الإجراءات الجزائية أو طلب إعادة النظر (الفصل 278 مجلة الاجرءات الجزائية) . علما و أنّ الاذن يجب أن يكون قانونياّ و أن ممارسة حقوق التتبّع أو الطّعن مكفولة للجميع . ولا يسوغ قانونا لوزير العدل بحكم خصوصية مرفق العدالة تعطيل أو ايقاف تنفيذ الأحكام و القرارات القضائية إلا عبر آلية السراح الشرطي بعد موافقة اللجنة المختصة وفق شروط قانونية محددة (الفصل 356 مجلة الاجرءات الجزائية) أو بصفة وقتية بخصوص مطلب اعادة النظر (الفصل 280 مجلة الاجرءات الجزائية) ولا حق له في صورة التأجيل الوقتي لتنفيذ العقاب المخول للوكيل العام لدى محكمة الاستئناف في الأحوال الخطيرة والاستثنائية (بموجب الفصل 337 من مجلة الاجرءات الجزائية) سوى أن يعلمه بذلك. أما على صعيد الواقع فلا شي يؤكد بأن لوزير العدل علاقة مباشرة أو غير مباشرة بقضية المتهم سامي الفهري وأن الاتهام بوجود تدخل في مسارها - وصفه البعض بأنه "سافر" في إطار توظيف سياسي مفضوح حتى من قبل بعض الجمعيات المدنيّة المهتمّة بشؤون القضاء دون اثبات أو دليل - مرتكز على قرينة ضعيفة مستمدة من الصفة الحزبية للوزير السابق سرعان ما اضمحلت عند تعيين شخصية مستقلة على رأس وزارة العدل و بقاء الحالة على ما كانت عليه بعد صدور القرار التعقيبي الثّاني بل أن الأخطاء المتلاحقة في مصلحة المتهم عند تطبيق نصوص قانونية صريحة وواضحة لا تحتاج الى أي اجتهاد أو تأويل دليل على عدم وجود أي تأثير في سير القضية من جانب سلطة الاشراف . و عليه فإن ما تمّ بثه من اتهامات ينطوي على مغالطة كبيرة و جهل أو تجاهل بحقيقة ومنطق الأشياء و يرمي بالأساس إلى غايات لا صلة لها باستقلالية القضاء أو بالانتقال الديمقراطي. 2 الغايات المريبة من وراء الاتهام الباطل: إتخذ المشهد الإعلامي المرتبط بقضية المدعو سامي الفهري والمروج له خاصة من قبل القناة الفضائية القريبة منه مواقف مضللة بعيدة عن الحقائق التي سبق بيانها، وبلغ الأمر ببعض
(*) الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف مكلف تحت اشراف وزير العدل بالسهر على تطبيق القانون الجنائي بكامل تراب الجمهورية . (*) قضاة الادعاء العام خاضعون لادارة و مراقبة رؤسائهم المباشرين و لسلطة وزير العدل.أما أثناء الجلسة فلهم حرية الكلام .
المنشطين إلى حد توصيف تلك المسألة القانونية وموقف النيابة العمومية منها بالفضيحة القضائية بأسلوب غير مهني ويفتقد للمصداقيّة. هذا التعاطي المبتذل المغيب للحقائق والمخالف لأعراف وأخلاقيات المهنة يثير عديد التساؤلات. أولا: لماذا تم التركيز إعلاميا على متهم وحيد من ضمن عدة متهمين شملتهم القضية والتغاضي عن الأفعال المنسوبة إليه والتي اعتبرها قضاة الاتهام تكتسي خطورة بالغة ولها مساس بالسلم والأمن الاجتماعيين عند تعليل قرار الإيقاف؟ ثانيا: لماذا اقتصرت المنابر الحوارية على إبراز مواقف مؤيدة للمتهم صادرة عن أطراف حزبية و حقوقية منهجها في التعامل " خالف تعرف "و استبعاد الأطراف المخالفة لهم و المعارضة للمتهم و بخاصة ممثّل المكلف العام بنزاعات الدولة ونواب بقية القائمين بالحق الشخصي؟ ثالثا: لماذا عرضت أراء بعض المتدخلين في شكل مرافعات مفتوحة موجّهة للرأي العام بطريقة تبسيطية شعبويّة والحال أنّ المسألة تكتسي طابعا قضائيّا صرفا ومكان الترافع الحقيقي بخصوصها هو قاعات الجلسات وأمام قضاة متخصّصين وفق إجراءات مضبوطة يراعى فيها مبدأ المواجهة بين الخصوم الذي يعتبر أساس كل محاكمة عادلة ؟ لا يمكن أن نجد أي تفسير للطريقة الّتي تعاطت بها بعض وسائل الاعلام مع قضية سامي الفهري سوى الرغبة الجامحة في اثارة الرأي العام و التاثير على القضاء والاستغلال الانتهازي لهشاشة الوضع الاجتماعي والسياسي وغياب الهيئة الرقابية الموكول إليها السهر على إحترام حقوق العموم في إعلام نزيه وموضوعي . ويبدو للأسف الشديد من خلال تقييم أوّلي أن معالم هذا التأثير بدأ يصل مداه الى رحاب المحاكم بتحول الأدوار والمهام فأصبحت محكمة القانون تنظر في المسائل الموضوعية باعتماد تطبيق خاطئ للنص القانوني و مستندات متناقضة ومحاكم الأصل تعارض و تنتقد أسباب النقض و تتمسك برأيها كانها مكلفة بالسهر على حسن تطبيق القانون و سلامة تأويله.