هذا فحوى لقاء رئيس الجمهورية بمحافظ البنك المركزي..    رئيس الجمهوريّة يطّلع على عدد من ملفات الفساد خلال لقائه برئيسة لجنة الصّلح الجزائي    وزير السّياحة: تشجيع الاستثمار و دفع نسق إحداث المشاريع الكبرى في المجال السّياحي    بالثقافة والفن والرياضة والجامعة...التطبيع... استعمار ناعم    أبو عبيدة يتحدّى بالصورة والصوت    حركة النهضة تصدر بيان هام..    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تراجع الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    القبض على 24 منفّذ "براكاج" بالأسلحة البيضاء روّعوا أهالي هذه المنطقة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    السجن ضد هذه الإعلامية العربية بتهمة "التحريض على الفجور"    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    كرة اليد: الترجي في نهائي بطولة افريقيا للاندية الحائزة على الكؤوس    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    وزارة التعليم العالي: تونس تحتل المرتبة الثانية عربيًّا من حيث عدد الباحثين    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    كاردوزو: سنبذل قصارى جهدنا من أجل بلوغ النهائي القاري ومواصلة إسعاد جماهيرنا    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    وفد "مولودية بوسالم" يعود إلى تونس .. ووزير الشباب والرياضة يكرم الفريق    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    جندوبة: 32 مدرسة تشارك في التصفيات الجهوية لمسابقة تحدي القراءة العربي    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    روح الجنوب: إلى الذين لم يبق لهم من عروبتهم سوى عمائمهم والعباءات    لعبة الإبداع والإبتكار في رواية (العاهر)/ج2    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    المهدية : غرق مركب صيد على متنه بحّارة...و الحرس يصدر بلاغا    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    أنس جابر تستهل اليوم المشوار في بطولة مدريد للماسترز    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 25 أفريل 2024    بنزرت: الاحتفاظ ب23 شخصا في قضية سرقة وتخريب بمصنع الفولاذ    كأس ايطاليا: أتلانتا يتغلب على فيورينتينا ويضرب موعدا مع جوفنتوس في النهائي    هام/ بشرى سارة للمواطنين..    الترجي يطالب إدارة صن داونز بالترفيع في عدد التذاكر المخصصة لجماهيره    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب..ما القصة..؟    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"جرائم الشارع.. ما حجمها وأي خطط للتوقي منها؟"
نشر في الصباح نيوز يوم 05 - 03 - 2020

أجمع المشاركون من خبراء وممثلين عن الوزارات ومجلس نواب الشعب في أشغال المائدة المستديرة التي انتظمت بالاشتراك بين المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومؤسسة «دار الصباح» تحت عنوان: «جرائم الشارع: ما حجمها وأي خطط للتوقي منها؟ّ»، على أن ظاهرة العنف وجرائم الشارع باتت ظاهرة مقلقة ومرهبة ومخيفة خاصة خلال الأشهر القليلة الماضية ما دفع بالتونسيين إلى شنّ حملات واسعة خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن في المقابل دعا المشاركون في المائدة المستديرة التي انتظمت الجمعة 28 فيفري 2020 إلى ضرورة التنسيب في قراءة الأرقام والإحصائيات.
اشكالية كبرى يواجهها التونسيون تجاه تصاعد ظاهرة العنف في الشارع، وفق القراءات الانطباعية للارقام ووفق ما يتمّ تداوله بشكل يومي عن هذه الجرائم المرتكبة، ما دفع بالمركز إلى تنظيم المائدة المستديرة وطرح العديد من التساؤلات والاشكاليات، حيث أكّد ممثل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بتونس عادل العياري أنّ موضوع «جرائم الشارع» يستوجب الحديث عن ثلاثة محاور أساسية أوّلها «كيفية قراءة الإحصائيات الواردة علينا والتي عليها العديد من المؤخذات وتتناقض أحيانا والحال أنّنا نعرف جميعا أنّ جهات مسؤولة هي الوحيدة التي تمدنا بهذه الإحصائيات، ثمّ ماذا تعني هذه الأرقام التي تدلّ صراحة على التزايد المرعب والمخيف للجريمة والعنف في الفضاء العام وفي جميع الفضاءات، والمحور الثالث الأسباب والسياقات التي ينشأ فيها العنف والجريمة وتزداد حتى أصبحت تُغذي سلوكات اجتماعية فيها الكثير من الرهبة والخوف وأثرت حتى في سلوكات الناس اليومية خاصة وأنّ المؤشرات الاحصائية العامة للسنة القضائية 2017 -2018 كشفت أنّه تمّ تسجيل قرابة 300 ألف قضية».
من بين النقاط الهامة التي تمّ الاشارة إليها أنّ «انتشار العنف هو نتاج لسياقات ولبيئة حاضنة ولخلل وظيفي لدى المؤسسات الاجتماعية والرسمية ورغم أنّ الاجرام ظاهرة خطيرة ولكن يجب مع ذلك تنسيبها وفهمها ومعرفة تطوراتها الاجتماعية».
وبالتالي فإنّ «المسألة العلمية ضرورية لتناول ظاهرة العنف أو بقية الظواهر ذات الطابع الاجتماعي. فدراسة الظاهرة يجب أن يكون لها سند علمي وسند إحصائي حتى تكون هناك قراءة دقيقة»، وفق ما أكّده محرز الدريسي ممثل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
أضاف الدريسي أنه «لا يمكن التعامل مع العنف وكأنه انتاج أو منتوج نهائي، فالعنف هو مسار ينطلق من بين الحلقات المختلفة أي الأسرة والمدرسة والشارع والصداقات والأقران، وكل هذه الفضاءات تساهم في إنتاج هذه الظواهر من العنف، وتضخم أشكال العنف هو الذي أفرز نوعا من التخوف من انتشار هذه الظاهرة التي أصبحنا نشعر بها بشكل يومي مما يعني أن العنف مثل ما نسجله في المدرسة نسجله خارجها فلا يمكن تناول مسألة العنف إلا في الداخل والخارج».
في مقابل الشعور بتنامي ظاهرة العنف وانتشار جرائم الشارع، كان لوزارة الداخلية رأي مخالف، إذ أكّد ممثل الإدارة العامة للحرس معين العوادي أنّه «على مستوى الإحصائيات لا يوجد تطور كبير للظاهرة، فمنذ سنة 2015 إلى حدود سنة 2019 سجلنا تقاربا في الأرقام، أما خلال هذه السنتين الأخيرتين كان هناك تراجع. وفي بقية السنوات سجلنا نفس الإحصائيات ما عدا في سنة 2017 كان هناك ارتفاع ملحوظ».
وأضاف بالتالي «لا يوجد ارتفاع في عدد جرائم الشارع، لكن تعاطي مواقع التواصل الاجتماعي والاعلام مع هذه القضايا هو الذي يختلف حسب نوعية الجريمة.
فعدد البراكاجات التي تمّ تسجيلها على مستوى الحرس الوطني كانت 1222 سنة 2018, و1145 «براكاجا» سنة 2019، أما فيما يهمّ النشل سجلنا 175 سنة 2018 تراجعت إلى 117 سنة 2019، السرقة «بالنطر» تمّ ضبط 350 سنة 2018 ارتفعت إلى 399 سنة 2019. أما بالنسبة للسطو على المؤسسات فكانت 17 حالة سنة 2018 تطورت إلى 23 سنة 2019».
كما أثبتت الإحصائيات، وفق قوله، أنّ «الفئة العمرية التي ترتكب هذه الجرائم هي ما بين 18 إلى 30 سنة بغض النظر عن جنسهم.
أما الأطفال الذين أعمارهم أقل من 17 سنة فتتمثل نسبتهم ما بين 2 و3 بالمائة ولكن جرائمهم المرتكبة تمثل أقل خطورة من إجمالي هذه القضايا».
* د. سليم المصمودي (أستاذ علم النفس المعرفي بجامعة تونس): سياسة عامة للتخفيف في زمن الحياة وإرجاع الدور المركزي للأسرة
◄ المثال الهولاندي وكيفية إغلاق 19 سجنا تجربة جديرة بالدراسة
لا تكفي قراءة الأرقام بل يجب استقراء ما وراءها واستنباط ما بعدها من حلول. ويرى الملاحظ المتمعن في هذه الأرقام أن حجم ظاهرة جرائم الشارع، حيث أنها يمكن أن تعدّ ظاهرة بكل المقاييس الاجتماعية والسوسيونفسية، هو حجم كبير من حيث التبعات على الأفراد والمجموعات وعلى استقرار المجتمع.
وجرائم الشارع هي شكل من أشكال العنف المادي الذي يعكس العنف المنتشر في المجتمع، بنوعيه المادي واللامادي. وهي تترجم بكل وضوح عن اختلال وظيفي مجتمعي وعن ضعف ما أسمّيه بالصمود المرن Résilience لدى المجتمع عموما والمجتمع المحلي والأسرة. وقبل الخوض بعمق في الأسباب والحلول، لنذكر ثلاث حقائق لها دلالة وعمق.
-الحقيقة الأولى تتمثل في المثال الهولندي في غلق السجون لوجود استراتيجية وطنية للوقاية من العودة، والحقيقة الثانية تتمثل في المثال الأمريكي في استثمار الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالجريمة، والحقيقة الثالثة تتمثل في المثال التونسي للحديث عن فشل الدولة في تفعيل دور الأسرة كأول خلية وقائية منيعة وتفعيل آليات الصمود-المرن المجتمعي وغياب استعمال علوم البيانات الضخمة للاستقراء والتنبؤ.
فكيف تمكنت هولندا من إفراغ سجونها؟ الملاحظ أنه منذ عام 2003، تم إغلاق 19سجنا في هولندا فعليا، وسوف تغلق 8 سجون أخرى بحلول عام 2021. وإن الاستراتيجية الوطنية الهولندية للوقاية من العودة ودمج السجناء في الحركة الفعلية المنتجة للمجتمع في إطار الوضع تحت المراقبة هي التي مكنت جزئيا من تقوية الصمود المرن للسجناء المسرّحين. ولكن ليس هذا فقط، فإن العمل على تقوية الروابط الأسرية في المجتمع وتمكين الأسر autonomisation هو الجانب الثاني من الاستراتيجية. أما الحقيقة الثانية فهي تتمثل في توصل الولايات المتحدة إلى تفعيل الشراكة بين الباحثين في علوم البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي من أجل وضع نظم معلوماتية قادرة على التنبؤ بوقوع الجرائم في جهات مختلفة. وهو ما يمكن من القيام بعمليات استباقية لمنع حدوثها.
والحقيقة الثالثة تتمثل في أمرين مترابطين في السياسة العامة للبلاد. الأمر الأول يتمثل في فشلنا في تونس في تفعيل دور الأسرة كأول خلية وقائية منيعة وتفعيل آليات الصمود-المرن المجتمعي.
ولكن كيف لم يفعل دور الأسرة، رغم وجود وزارة مختصة؟ المسألة بسيطة جدا. فالدولة، من خلال آليات تراكمت عبر عقود، جعلت الرجل والمرأة يشتغلان كامل اليوم ومنشغلين إما بتحصيل القوت (في العائلات الفقيرة والمتوسطة) أو بمراكمة المال (في العائلات التي تعيش في رفاه).
أضف إلى هذا جعل المرأة والرجل كمواطنين مستنزفين معرفيا ووجدانيا في ضغط يومي لعدم تسهيل الحياة لهم. وبهذا تفتت الأسرة وصار أفرادها منفصلين ومتوترين إذا اجتمعوا. وهذا ما أضعف كثيرا دور الأسرة. وهو ما قوّى الهشاشة المعرفية والانفعالية والدافعية (vulnérabilité cognitive, émotionnelle, motivationnelle) لدى الأطفال والشباب، الذين يمثلون الفئة الأكثر تورطا في جرائم الشارع.
ومع إضعاف دور الأسرة، لم نكتف بهذا، بل قمنا بفتح الفضاء السيبرني على مصراعيه لأشخاص يتصفون بالهشاشة النفسية الاجتماعية في أحد وجوهها أو أكثر. وكمكملات لهذا الخلل المجتمعي، نجد مدرسة منتجة للعنف المادي واللامادي وغير مدعمة للصمود المرن الواقي لأطفالنا ولشبابنا. وبهذا تكتمل المعادلة لإنتاج مجرمي شوارع لا يمثل الردع فيها عامل قوة.
أما الأمر الثاني فهو يتمثل في غياب استعمال علوم البيانات الضخمة للاستقراء والتنبؤ. وهو ما يعكس غياب الرؤية الأمنية عند آخذي القرار رغم وجود غليان علمي وطفرة في الذكاء الاصطناعي في مخابرنا وفي مؤسسات ناشئة تعنى بتثمين نتائج علوم البيانات الضخمة وأدواتها.
والجامعة التونسية لا تنقصها الكفاءات لتفعيل شراكات ناجعة بين علوم السلوك والمعرفة وعلوم البيانات الضخمة. وختاما، ألا يوحي التحليل السالف للأسباب بالحل الأنسب لنا؟ ألا يجب أن يكون الحل قطعيا solution de rupture؟ فالحل في نظري يجب أن يكون التخفيف ب 50 % من زمن النشاط الحياتي حتى تستعيد الأسرة روابطها وصحتها ودورها ليقوى صمودها المرن، وحتى يتنفس المواطن حرية تمكنه من إعادة التفكير في حياته، وحتى يستعيد الكل شغفا بالعمل والإنتاج أضاعوه حين أضاعوا الإحساس بالزمن.
* جرائم الشارع والحق في الأمن الاجتماعي
يدرك المختصون في الدراسات الاجتماعية والإنسانية دون عناء كبير أن الانعطافات الكبرى التي تمر بها المجتمعات على غرار الثورات والكوارث الطبيعية والحروب ترافقها في الكثير من الأحيان موجات عنف معمم تشمل الفضاءات الخاصة والعامة.. تتحلل المعايير وتتمزق أنسجة المجتمع بشكل أو بآخر فتصاب المجتمعات بحالة اختلال وانفلات جماعي يأتي فيها الافراد أفعالا منحرفة تصل الى ذروة العنف وأعلى درجاته. تفقد الأطر الاجتماعية على غرار الأسرة والجماعات قدرتها على مراقبة تصرفات الأفراد وضبطهم الاجتماعي ويصبح الشارع مسرحا للعنف لا يخلو أحيانا من تشف وتنكيل عبثي بالضحايا.. لم تشذ بلادنا على هذه القاعدة وعرفت بدورها منذ سقوط النظام،بداية سنة 2011، حالات عديدة من العنف والتدمير الذاتي (أشكال متعددة من الاعتداء على الذات والانتحار الخ...). يتفطن الملاحظ في الأشهر الأخيرة الى ما تثيره «جرائم الشارع la criminalité de rue من جدل واسع اكتسح بلا استثناء مختلف الفضاءات. تمددت هذه الجرائم لتنال من كل ما يعترضها من أفراد ومجموعات ومؤسسات: المدارس وتلاميذها، وسائل النقل العمومية والخاصة ومستعمليها، مرتادي المقاهي والمطاعم والنزل، المساجد ومؤميها... وشملت في ذلك الأحياء الفقيرة والراقية، المدن والأرياف الخ ولم تتمكن الإجراءات المتخذة بقطع النظر عن فاعليتها وجاهزيتها في وقف هذه الآفة الا قليلا.. يحدث كل هذا في سياق مجتمعي أصبحت الجريمة فيه تشكل خلال السنوات القليلة الماضية احدى سمات التحولات الاجتماعية المتسارعة فيما يشبع التطبيع معه.
استفحل عنف الشارع وارتفع منسوبه وتنوعت أشكاله منفلتا من كل المعايير فغدى «عبثيا» لتفاهة «مسبباته» وأغراضه ووحشية تنفيذه (التنكيل بالضحية، منع محاولات الانقاذ والاسعاف والتوسط..) ولا يخجل البعض من عرض ذلك في الشبكات الاجتماعية للتواصل. أكدت عديد التقارير التحليلية والاحصائية أن العنف عموما تصدر المركز الأول في لائحة الجرائم حتى كادت جرائم الاعتداء والسطو المسلح و»البراكاجات» والنشل و»النطرة» علاوة على عنف حركة المرور أن تصبح جزءا من مشهد حياتنا اليومية. هذه الوقائع قد تتضاعف في ادراكات الناس خصوصا في ظل تهويل يصدر من هذا المنبر أو ذاك عن قصد أو غير قصد.
هذه الأرقام على نسبيتها والتباسها أحيانا تدل من خلال جملة المؤشرات الأخرى على تصاعد موجات عنف الشارع خاصة مما جعله في ظل الأوضاع الأمنية الهشة باعثا على حالة من انتشار الخوف وانعدام الشعور بالأمان لدى عامة الناس يغذي ذلك انتشار الاشاعات المخيفة، وتحولها إلى هاجس وهلع يؤرقان المواطنين في حياتهم اليومية مما يخفض من نسق الحركة في المدينة: تنقلات ليلية محدودة، القلق على السلامة الجسدية لأفراد العائلة خارج المنزل وذلك ما ينمي حالة الخوف الجماعي التي قد تصل الى هوس مشل للحركة والخيال والارادة.
تقرع جرائم الشارع جرس الانذار وذلك ما دفع المركز ومؤسسة «الصباح» الى استضافة ثلة من الجامعيين والمختصتين لتدقيق حجمها دون مبالغة أو هلوسة وتحليل أسبابها والتفكير في الحد منها فما يهمنا من كل ذلك رغم بعض المبالغة أحيانا النظر معا في الظاهرة ثم رسم سبل التصدي والوقاية منعا لحالة التطبيع مع العنف والحيلولة دون انتقاله إلى سمة قارة في سلوكنا اليومي.
تهدف هذه المائدة المستديرة التي تنعقد شراكة بين المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تونس ومؤسسة «دار الصباح» إلى وضع المسألة على طاولة النقاش الرصين بعيدا عن الاستهانة أو التهويل. لاشك ان المقاربات كانت مختلفة ومتعددة الاختصاصات جمعت بين التناول النظري والاستحضار الامبيريقي للوقائع والأحداث. وهي نجحت في ان تجمع حولها جل الأطراف المتدخلة : سلطات عمومية على غرار ممثلي وزارة الداخلية، المؤسسات العقابية، المجتمع المدني والجماعات العلمية.
فؤاد العوني (المدير العام للمرصد الوطني للشباب): مسألة العنف مرتبطة بظواهر سلوكية خطيرة
مسألة العنف والجرائم تتطلب التعمق في دراستها وفي تناولها وضرورة إيجاد الحلول سريعا لمكافحة هذه الظاهرة، فالعنف هو مرض خطير وهو حالة مركبة من حيث الظهور ومن حيث أنّها تجربة نفسية واجتماعية من تجارب إيذاء الأخر.
فهذه الظاهرة غير منفصلة عن واقع المعاش ولا عن التغيرات الحاصلة في المجتمع وفي البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكن ما يلاحظ هو ارتفاع منسوب العنف وهذا على المستوى الانطباعي بشكل لافت في السنوات الأخيرة. وهذا مرتبط بالفئة التي تعبر «الفرصة الديمغرافية» التي بقدر ما تبهر ما تسبب إشكاليات في المجتمع.
مختلف الدراسات تشير اليوم إلى أنّ العنف اكتسح كلّ الفضاءات لاسيما العنف اللفظي حيث أصبح هناك تطبيع معه في العائلة، في المؤسسات العمومية، في الشارع، وفي الملاعب وفي المؤسسات التربوية بالكتابة على الطاولات والسبورات وعلى الجدران. وعادة العنف اللفظي هو مقدمة للعنف المادي.
فالإحصائيات تشير إلى أنه سنة 2018 بلغ عدد القضايا 200 ألف تشمل القتل والاغتصاب والسرقة والاعتداءات وغيرها من الجرائم، والملفت أنه 73 بالمائة من هذه الجرائم ارتكبها اليافعون والشباب.
ولما نتحدث عن هذه النسبة نعتبر أنّ مسألة العنف مرتبطة بظواهر سلوكية خطيرة منها الإدمان واستهلاك المخدرات ومنها حتى الاعتداء على الذات بالتشليط، والانتحار.
هذه المؤشرات تدعو الجميع إلى استعمال مقاربة تفاهمية لتفكيك هذه الظاهرة لدى فئة الشباب، ويجب في هذا السياق أن كون واعين بالخصائص النفسية لهذه الفئة التي تتميز بالحماسة والحساسية والجرأة والنزوع نحو الاستقلالية وبالمثالية المفرطة وأيضا بالحدة وبالشدة لأن الشاب في هذه الفترة يتعرض إلى العديد من الضغوط العاطفية والنفسية والاجتماعية.
بلقاسم حسن (عضو مجلس نواب الشعب ورئيس لجنة الشباب والشؤون الثقافية والتربية والبحث العلمي): جرائم الشارع.. أهمية التنسيب والتشخيص ومواجهة ظاهرة استفحال العنف
◄ لا غنى عن دور الأسرة والمدرسة والإعلام والمؤسسة الدينية والمجتمع المدني في معالجة ظاهرة جرائم الشارع
خلال الاطلاع على الأرقام والمعطيات المقدّمة والواردة في الإحصائيات، أصبحت هذه الظاهرة على ما يبدو مفزعة ومثيرة للانتباه خاصة في ظل ظروف الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد منذ فترة ليست بالقصيرة وأمام تصاعد غضب شرائح واسعة من المجتمع التونسي نتيجة ما تعانيه من مظاهر الفقر والبطالة والتهميش في ظل مجتمع أصبح ينحو أكثر فأكثر نحو ظاهرة المجتمع الاستهلاكي.
أهمية التنسيب
بالرغم من خطورة ظاهرة جرائم الشارع وانعكاساتها السلبية على المجتمع أفرادا وجماعات، لابد من التنسيب وعدم المجازفة بالأحكام الإطلاقية والباتة. إن الأرقام الرسمية المقدّمة تؤكد أنّ جرائم الشارع لم تستفحل بشكل غير عادي مقارنة بمعدلات السنوات الخمس الأخيرة، لكن إبرازها ونشرها في وسائل الإعلام هذه السنة كان لافتا مقارنة بما مضى. إن عمليات السلب والنهب وقطع الطرقات والاعتداءات بالضرب وتحويل الوجهة والاغتصاب والقتل ليست جديدة وليست خاصة ببلادنا، بل إنها ظاهرة عالمية لا تخلو منها بلدان نامية. مثل هذا التنسيب مهم، كما هو شأن تنسيب الإرهاب، لنحافظ من جهة على عقلانية التعامل وفهم الظاهرة ومن جهة أخرى للتصدي لها ومعالجتها.
أسباب ظاهرة العنف وجرائم الشارع
دون ترتيب بالأولوية من حيث الأهمّية أو مدى التأثير، نذكر بالخصوص: التهميش والإقصاء – الفقر والبطالة – الفشل والانقطاع المدرسيين – ضعف التربية الأساسية (العائلة – المدرسة – المجتمع) – الانحراف والإدمان – التقليد للجريمة كظاهرة سينمائية وإعلامية – رد الفعل على العنف المسلط في العائلة أو في المدرسة أو في المجتمع – ضعف الوازع الأخلاقي أو الديني أو الثقافي أو التربوي – تنامي ظواهر التعصب والأنانية والجهوية وعدم احترام القانون – تراجع هيبة الدولة – تنامي الفساد ..
المعالجات وطرق التصدي
أريد أن أؤكد على أهمية دور الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام والمؤسسة الدينية والمجتمع المدني في القيام بعمل إيجابي تربوي توعوي وتشخيص تحسيسي لمعالجة ظاهرة جرائم الشارع وتفاقم العنف، وذلك لمعاضدة مجهودات الدولة في استعادة هيبتها وتفعيل دورها في حفظ الأمن إلى جانب معالجة قضايا الفقر والبطالة والفساد والتهريب والإقصاء والتهميش وترسيخ مفهوم المواطنة ودولة القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان. كما على المؤسسة التشريعية الدعم بالقوانين ذات الصلة مثل قانون حماية الأمنيين وقانون الجرائم الإلكترونية والقيام بمبادرات تشريعية لمعالجة قضايا التشغيل والتنمية..
سامي الحبيب (خبير في قضايا الشباب والتوجيه المدرسي والتربية): ظاهرة في ارتفاع لكن دون تهويل أو تهوين
◄ تبقى مسؤولية المدرسة كبيرة في المساهمة في الحدّ من العنف
من المهم علميا ومن أجل فهم الظاهرة وأسبابها ومواجهتها أن نعرف حجمها الحقيقي بعيدا عن منطق التهويل أوالتهوين. وقد يكون هدف التهويل هو التحسيس بخطورة الأمر ودفع أصحاب القرار لمواجهته وقد يكون التهوين للطمأنة.
الواقع هو أن الظاهرة مُلفتة وتتطلب البحث فيها بجدية لأنها مُهدّدة لصحة الأفراد واطمئنانهم وأمنهم بل ومُهدّدة لوجودهم. والجليّ للعيان كذلك هو أن هناك ارتفاعا حقيقيا في منسوب العنف وتزايدا في عدد حالات التعدي على الآخر وعلى الممتلكات وظهور أشكال جديدة من الجرائم واتساع لفضاء ممارسة العنف ليطال فضاءات كانت محصنة، أو كانت تبدو لنا كذلك، أو كان يُمارس فيها عنف «مُنظّم» وفي اتجاه واحد مثل مراكز الشرطة التي كانت تحتكر العنف «الشرعي» وكان البوليس فيها هو الوحيد الذي يعنّف المواطن، أصبحت مُستهدفة.
وكذلك المدرسة التي كان يُمارس فيها عنف «تربوي» أو»تأديبي» ممنوع نصاّ لكنه يُبرر بمنطق المماثلة الأبوية أو المصلحة التربوية التي تقتضيه. هذه المدرسة شملها العنف المتبادل فأصبح التلاميذ فيها يُعنّفون المربي مثلما يُعنفون (8186 عنفا لفظيا وماديا خلال سداسي واحد من سنة 2017-2018 من بينها 119 عنفا ماديا تجاه أساتذتهم).
ومما لاشك فيه أن عدد الجرائم في تزايد، لكنه مرتبط في جزء كبير منه بارتفاع مستوى الإفصاح والإبلاغ. فقد كان عدد كبير منها في مجال المسكوت عنه أو المحظور من منطلق الخوف من جبروت الحاكم أو التوقي من الفضيحة مثل جرائم البوليس خلال التحقيق أو الاغتصاب داخل الأسرة أو التحرش في المدرسة..
تكمن وراء هذه الجرائم أسباب عديدة منها الفقر والبطالة والجهل. ولا شك في أن الخطة الممكنة للحد من الظاهرة متعددة المستويات، أمنية وتنموية وثقافية وتربوية... لكن تبقى مسؤولية المدرسة كبيرة في المساهمة في الحدّ منها.
التواصل للحدّ من العنف
تُتهم المدرسة بالتقصير في أداء دورها التربوي واُعتبر غياب التواصل داخلها من بين الأسباب المفسّرة لارتفاع نسبة العنف داخلها وفي المجتمع عامة.
فما يزيد عن مائة ألف منقطع عن الدراسة سنويا، تلفظهم مدرستهم فتلتقطهم مشارب عدّة من بينها الجريمة. وآلاف المتمدرسين لاتربطهم بمؤسساتهم سوى فترات الراحة وما هو خارجها من «مُتع». آلاف من المعتدين على زملائهم ومربيهم وعلى المارة هم «أطفال» يرتدون الميدعة، عشرات «زيارات التعنيف» يتبادلها تلاميذ المؤسسات المتجاورة في أشكال احتفالية مرفوقة بالأغاني المستجلبة من فضاء الملاعب وعلى أوزانها. وهي ظواهر عنف مستجدّة في محيط المدارس يقودها تلاميذ متمدرسون ومنقطعون، وهو ما يتطلب الانتباه لما يقع في المدرسة وإصلاحه وخاصة في مستوى تطوير الجانب التواصلي وتفعيل الحوار وتوفير الآليات الضامنة له. ومن شروط ذلك أن تكون مدرستنا:
- مدرسة تُربي على ثقافة التسامح واللاعنف
- مدرسة تُصغي إلى أبنائها وتحاورهم، تحقيقا لتوازنهم النفسي و تجاوز صعوباتهم.
- مدرسة تحتضن أبناءها فتحقق الانتماء فلا يغادرها تلاميذها مسرعين نحو الفضاء الخارجي المنتج للعنف والانحراف.
- مدرسة تضمن استمرارية التمدرس ولا تحتاج إلى أن «تستعيد أبناءها» المنقطعين من شارع محفوف بالخطر والجريمة.. لأن المنقطع في الغالب «مشروع منحرف».
- مدرسة تحقق تكافؤ الفرص والعدالة، وتحدّ من شعور تلاميذ الأحياء الفقيرة بالغبن مقارنة بمؤسسات الرفاه بناية وتجهيزات ومدرسين ونتائج.
- مدرسة منفتحة على محيطها وعلى الأسرة في إطار علاقة تعاون وتواصل مع الأولياء للإحاطة بالتلاميذ وحمايتهم بتوزيع محكم للزمن والأدوار. وهو ما يتطلب الاعتراف بمكانة الولي طرفا داخل المدرسة لا زائرا غير مرحب به.
أنيس عون الله (مندوب حماية الطفولة): جرائم الشارع في علاقة بالطفولة
تتعدد الجرائم التي تشمل الذكور والإناث على حد السواء ومن مختلف الشرائح الاجتماعية حيث نجد على رأس القائمة جرائم الاعتداء بالعنف خاصة عندما يكون الأطفال من الفئات الهشة الذين يقضون فترات طويلة في الشارع. ويكون مصادر هذه الاعتداءات متنوعة وتتراوح بين أشخاص معروفين للطفل وآخرين غرباء عنه كما تتنوع أسباب هذه الاعتداءات بين مجرد خصومات إلى عمليات انتقامية نتيجة خلافات بين الأجوار.
في مرتبة ثانية نجد جرائم الاستغلال الاقتصادي كالإجبار على القيام بأعمال هامشية في الشارع أو التسول وهي جرائم أصبحت ترتقي لجريمة الاتجار بالبشر وفق القانون الأساسي عدد 61 لسنة 2017 المتعلق بمكافحة الاتجار بالأشخاص وهنا وجب التوضيح أن اغلب مرتكبي هذا النوع من الجرائم يكونون من المحيط العائلي بصفة مباشرة أو بتواطؤ منها.
في مرتبة ثالثة نجد جرائم الاعتداءات الجنسية بأنواعها التي تشمل التحرش الجنسي المنتشر بشكل ملحوظ في محيط المؤسسات التربوية الثانوية خاصة لتصل للمواقعة و المفاحشة أو الاغتصاب بالطريق العام والشواطئ والغابات خاصة.
أسباب جرائم الشارع
تتنوع الأسباب المؤدية لارتكاب هذه الجرائم لكن ما يمكن ملاحظته خلال التعهد ببعض وضعيات أطفال ارتكبوا جرائما بالشارع هو وجود عامل مشترك بين مختلف الحالات ألا وهو هشاشة الوضع الاجتماعي.
ورغم أن الفقر لا يعتبر سببا مباشرا لارتكاب هذه الجرائم إلا انه يؤدي في عديد الحالات إلى عجز الأبوين عن رعاية أبنائهم و بالتالي يفقد الطفل كل معني للسلطة الأبوية و يكون الشارع هو مدرسته ومكان تواجده وبذلك يكون حتما إما مرتكبا لجريمة أو ضحية لها.
من بين الأسباب أيضا انتشار ثقافة العنف واعتبار الجريمة طريقة مقبولة لفرض الذات ويقع تبريرها من خلال برامج إعلامية تقدم الشاب الذي يقوم باستهلاك المخدرات أو «البراكاج» بمظهر كوميدي طريف أو بمظهر ضحية المجتمع الذي تم دفعه دفعا للقيام بهذه الجرائم مما يؤدي حتى للتعاطف معه.
ضعف منظومة عدالة الأطفال
من جانب آخر وجب الإقرار بان ضعف منظومة عدالة الأطفال وضعف متابعة الأطفال المسرحين من مراكز الإصلاح أو الذين تم التدخل لفائدتهم عن طريق آلية الوساطة وذلك بتجنيبهم العقوبات البدنية قد أدي في عديد الحالات إلى تشجيع الأطفال على العود و ارتكاب جرائم أخري في غياب متابعة ناجعة أو حتي نتيجة إحساس الطفل بنوع من الحصانة عند ارتكابه لجرائم بالشارع وهو ما يشجع أيضا البعض على تحريض أطفال للقيام بجرائم.
طرق التصدي لجرائم الشارع بين الأطفال
إن الفعل الإجرامي بين الأطفال هو نتيجة لعوامل دفع و عوامل جذب وبالتالي فالتخفيض من حدة هذه الجرائم لا يتم إلا من خلال التخفيض في هذه العوامل، فتحسين مستوى التمدرس وإيجاد حلول للأطفال المنقطعين عن الدراسة وتطوير نظام قضاء الأطفال من خلال تأمين متابعة فعلية للأطفال الذين ارتكبوا جرائما بالإضافة إلى تسهيل وصول الأطفال في جميع المناطق لخدمات ترفيه وأنشطة كل هذا قد يؤدي إلي التخفيض في مستوى حدة هذه الجرائم ويبقى دور العائلة هو الأساسي وبدونه تبقى كل الحلول المذكورة أعلاه منقوصة خاصة وأن الحلول الأمنية والأحكام الجزائية مهما بلغت قسوتها غير قادرة علي التصدي لهذه الجرائم .
أ.صلاح الدين بن فرج (كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس): عنف الشارع.. الدوافع وسبل المعالجة
◄ الشارع تحول إلى فضاء تنظّمه قيم الثقافة الرماديّة المبرّرة للفعل الانحرافي بكلّ أشكاله باسم المظلوميّة والحقّ في العيش
لا ريب أنّ تزايد مظاهر العنف بصورة عامّة والمرتكب في فضاء الشارع بصورة خاصّة ولّد إحساسا مشتركا لدى عموم التونسيين بقطع النظر عن انتماءاتهم الطبقية أو الجهويّة بالخوف وانعدام الأمن بما دفع بالبعض إلى حدّ الترويج للأفكار التآمرية وفكرة الاختراق الأمني والتوظيف السياسي الخ...وهي مؤشّرات خطيرة تعكس دقّة المرحلة التي تعرفها العلاقة بين الدولة ومواطنيها بخصوص ثقتهم في قدرتها على تأمين واجبها الأساسي المتمثّل في حمايتهم والذي على أساسه تمّ التعاقد بينها وبينهم كمواطنين باعتبارها الضامنة لهذا الحق الأساسي والحيوي الذي يؤسّس لمرحلة الانتقال من مجتمع الو لاءات المتعدّدة بحسب الأطر الضامنة لذلك الحقّ سواء كانت ضيّقة كالعائلة أو الحومة أو أكثر اتساعا كالعروش والقبائل.
إنّ تلاشي دور النظم الاجتماعية التقليدية في تنظيم الوجود الاجتماعي القائم على أسبقيّة الجماعة وأولويّة التوحّد لتحقيق الحماية إضافة إلى تراجع قدرات الدولة الوطنيّة سياسيّا وأمنيّا في تعويض تلك النظم مع اختيارها تزامنا مع ذلك نهجا اقتصاديّا متبنّيا لقيم السوق على خلفيّة الكفاءة والمنافسة ترتّبت عنه مجموعة من النتائج لعلّ أهمّها:
-تراجع فاعليّة علاقات القربى التقليديّة -سواء كانت دمويّة أو غيرها- في تأمين الإحساس بالاطمئنان.
- فقدت الدولة -خصوصا في فترة ما بعد الثورة - صفة المتدخّل الحاسم الذي لا يقهر بما ولّد خصوصا لدى الفئات الاجتماعيّة المهمّشة و الناقمة رغبات تمرّدية لتحدّيها و الاستقواء عليها و استسهال ارتكاب الفعل الإجرامي بشكل غير مسبوق كمّا ونوعا.
-أضحى الشارع فضاءا «منفلتا» من كلّ أشكال المراقبة والالتزام الجماعي. فبعد أن كان منظّما وفق طقوس سلوكيّة صارمة تفرض الانضباط العامّ لقيم السنّ والجنس والحشمة أو الحياء «تحرّر» اجتماعيّا من كلّ إكراه. كما انفلت أمنيّا –خصوصا في السنوات الأولى بعد الثورة- بعد أن كان مسيطرا عليه وفق منطق الاختراق والخوف.
- بنسق متسارع تحوّل الشارع إلى فضاء تنظّمه قيم الثقافة الرماديّة المبرّرة للفعل الانحرافي بكلّ أشكاله باسم المظلوميّة و الحقّ في العيش و بالتالي الى مجال لتفريغ كلّ أشكال الكبت الاجتماعي والاعتداءات المتنوعّة والمتفاوتة الخطورة.
-دفع تنامي قيم المنافسة والأنانية والسعي المحموم لتحقيق الذات عبر النجاح بكلّ السبل إلى خلق مناخات تعايش غير آمنة شملت كل أطر التعايش المشترك بما في ذلك الأسرة والمدرسة وهو ما دفع بالأفراد لأن يعيشوا في تنافس مستمرّ وأوقعهم في الإحساس بأنّهم مهدّدين دوما بالمعاناة الناشئة عن صعوبة الملائمة بين تطلّعاتهم والوسائل المتاحة لإرضائها وهو ما يعرف "بالأنوميا الاجتماعية" التي طوّرها عالم الاجتماع الأمريكي ر.ك,مارتون.
-ستدفع الفئات الاجتماعيّة الأكثر هشاشة ثمن هذه التحوّلات المتسارعة وخصوصا منها الفئات الشبابيّة التي لن تقدر على مواكبة نسق المنافسة وفق القواعد السائدة، وسينخرط بعضها في إطار الانحراف المنظّم (سلب،بيع مواد مخدّرة، تسوّل، تهريب ...) ممّا سيترتّب عنه سيطرة جيل جديد من المنحرفين على الشارع غير معروف لدى الأجهزة الأمنيّة ويصعب التفاوض معه أو توظيفه (كما كان معمولا به سابقا) بحكم عدائه الشديد لكلّ ممثلّي السلطة الرسميّة خصوصا الأمنية منها. وتؤكّد كل التقارير المنشورة أنّ العنف بصورة عامة وفي الشارع بالخصوص هو ظاهرة شبابيّة بامتياز ولنا في العرض الذي قدّمه ممثلوا وزارة الداخلية اليوم الأربعاء 19 فيفري 2020، خلال جلسة استماع في البرلمان مع أعضاء لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية خير دليل على ذلك، إذ تضمّن العرض بعض المعطيات الإحصائية حول جريمة «البراكاجات».وأفادوا أنّ الشريحة العمرية للمورطين في هذه الجرائم تتراوح بين 13 و30 سنة، وتشمل بصفة خاصة العاطلين عن العمل والمنقطعين عن الدراسة.
وفي نفس السياق أفادت الأرقام التي نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعية في تقريره السنوي الصادر في شهر جانفي 2020 أنّ العنف الإجرامي احتلّ المرتبة الأولى بنسبة 36,3 بالمائة من جملة أشكال العنف المسجلة في تونس خلال سنة 2019. وحلّ العنف الانفعالي، خلال سنة 2019 في المرتبة الثانية بنسبة 23,2 بالمائة فيما جاء العنف الأسري في المرتبة الثالثة بنسبة 8,7 بالمائة في حين كان المرتبة الأخيرة للعنف الجنسي ب 7,5 بالمائة. كما تبيّن أنّ مختلف أشكال العنف هي أفعال فردية في اغلبها حيث بلغت نسبة العنف الفردي المرصودة خلال السنة الماضية 49,6 بالمائة مقابل 50,3 بالمائة للعنف الجماعي.
ولعلّه من المهمّ الإشارة الى أنّ القوات الأمنية نجحت في استعادة المبادرة في مواجهة عنف الشارع -وان كان بشكل مناسباتي- وقلّصت الى حدّ كبير من فرص نجاح سيناريوهات خطيرة تسيطر فيها العصابات على الشارع خصوصا في المدن الكبرى، ولكنّ دقّة الوضع تستدعي -وذلك بإقرار المؤسّسة الأمنية- عدم الاكتفاء بهذه المعالجة التي يجب أنّ تكون مسبوقة بخطط وسياسات اجتماعيّة هدفها استنفار وتأهيل كلّ مؤسّسات التنشئة الاجتماعيّة خصوصا منها الأسرة والمدرسة ودعوتها الى القيام بإصلاحات جوهريّة في أنظمتها لتكون أكثر شراكة وانفتاحا و تلاؤما مع انتظارات الشباب والتخلّي عن التقاليد التسلّطية المثيرة للمشاعر المؤسّسة لكلّ أشكال النقمة والتمرّد لدى الشباب، دفاعا عن مصالح ورهانات ضيّقة.
أمّا من حيث الخطط الأمنية فإننا نعتقد أنّ دمج عدد من المقاربات غير المتباعدة من حيث مناهج التدخّل يمكن أن يعطي نتائج أفضل كاعتماد المقاربة القانونيّة في تعديل التوجّهات الانحرافيّة بالتوازي مع اعتماد نظريّة البلّور المهشّم والوقاية الموضعيّة.
أميرة العروي (مختصة نفسية): العنف والجريمة في المحيط المباشر للمؤسسات التربوية
رغم التراجع العام على المستوى العالمي في بدايات القرن 21 فان تواتر الجريمة تواصل في البلاد التونسية ولاسيما بعد 2011. واستباحت مختلف الفضاءات العامة ومنها الوسط التربوي الذي مثل فريسة سهلة لغياب الحماية وخاصة الليلية مما جعل الكثير من المؤسسات أوكارا للانحراف والعربدة (استهلاك المخدرات والجلسات الخمرية...).
ومن مظاهر تطور الجريمة تفشي العنف بين التلاميذ او عليهم من قبل غرباء وجدوا ضالتهم لممارسة أعمال إجرامية كالسلب والقتل والنشل والعنف المادي والجنسي في ظل غياب الرقابة الكافية.
من ناحية أخرى اهتمت وزارة التربية بهذه المسالة وقد أكدت في دراسة قدمتها وشملت 3 آلاف مدير مؤسسة تربوية، أنّ نحو 16 بالمائة من المؤسسات التربوية تحوم حولها إشكاليات تخلّ بالنظام العام وتخالف المبادئ والقيم التربوية. ويمكن تصنيف هذه الإشكاليات وفق معياري التواتر والحدّة في ظهور السلوك العدواني لتشمل حالات العنف والجريمة، في هذا الاتجاه اخترت أن أقدم قراءة في موضوع الجريمة في الوسط التربوي من خلال تقديم الإطار المفاهيمي وطرح لأهم الأسباب من خلال ما نصت عليه أهم النظريات التي تناولته بالدرس والتحليل.
اكاديميا، عرّف محجوب (2011) المدرسة بالمؤسسة الإنتاجية التي تنظمها قواعد منها ما هو مضبوط بنصوص منظمة للحياة المدرسية ومنها ما هو يكاد يكون من قبيل العرف. وتتعرض هذه المؤسسة باعتبار خصوصيتها إلى اعتداءات متنوعة منها ما يتعارض والنظام الداخلي ومنها ما يرتقي إلى مستوى الجريمة. فبرغم وجه التشابه بين العنف والجريمة من خلال إلحاق الأذى والضرر بالآخرين وكلاهما سلوك عدواني، إلا أن هناك فروقا عديدة بين العنف والجريمة، وأهم هذه الفروق أن العنف- بأشكاله المتعددة والمختلفة- هو سلوك لا يخالف القانون، وبالتالي لا يترتب عليه مساءلة قانونية، ولكن الجريمة سلوك يخالف القانون، وبالتالي يتعرض من قام بهذا السلوك للمساءلة القانونية، فالعنف إذا ترتب عليه مسائلة قانونية لن يعد عنفاً بل يصبح جريمة. إضافة إلى ذلك يعتبر الطابع التنظيمي أحد الفروق الأخرى بين العنف والجريمة فغالباً ما يكون العنف فوضوياً في حين أن للجريمة طابعا تنظيميا.
وإذا كانت الجريمة في الوسط التربوي وخاصة المحيط المباشر للمؤسسة تمثل موضوعا ذا أهمية قصوى لدى السياسيين وكل الباحثين فذلك يعود إلى عدّة أسباب أولها سرعة استقطاب التلاميذ الذين يقضون ساعات طويلة أمام المؤسسة التربوية وثانيها إمكانية امتداد السلوكات إلى الفضاء الداخلي وتعطيل مهامها التعليمية والتربوية. وسعيا للتوقي من مختلف مظاهر الجريمة يكون ضبط ملامح الضحايا والفاعلين بجميع أصنافهم في صلب اهتمام المتدخلين في هذا الشأن ولا سيما الأخصائي النفسي.
فمن منظور علم النفس، تعددت العوامل المؤدية إلى ظهور الجريمة وفق نظريات كلاسيكية عرفت الجريمة كسلوك عدواني (النماذج النزوية ومنظورات إحباط- عدوان و منظور التعلم الاجتماعي والمقاربات المعرفية...) وأخرى أكثر تخصيصا ومنها نظرية ضعف السيطرة الذاتية ونظرية (Hirschi (1990 وGottfredson ونظرية موفت (1993). ومن شان مثل هذه النظريات والدراسات فهم مثل هذه الظواهر ومعالجة أسبابها العميقة وإعداد استراتيجيات وقائية وعلاجية تتجاوز سياسة إطفاء الحرائق.
ايمان عبد اللطيف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.