باستثناء بعض الخطوات القليلة التي عبر فيها اصحابها عن وعي بخطورة الموقف من بينها مثلا قرار قلة قليلة من المؤسسات الخاصة منح العاملين عطلة خالصة الأجر لفترة محددة، توقيا من الاصابة بفيروس كورونا المستجد الذي يلتهم الأرواح بسرعة جنونية، والذي لا يمكن وفق التجارب العالمية مقاومته إلا بفرض عزلة شاملة وجعل الجميع يعتكفون داخل البيوت لفترة لا تقل عن اسبوعين، فإنه ليس هناك ما يؤكد أن الفاعلين السياسيين والاقتصاديين في البلاد قد حسموا أمرهم واختاروا بين أمرين اثنين لا ثالث لهما اليوم وهو إما المراهنة على البشر أو المراهنة على الحجر. فالملاحظ ومنذ أن طرحت بلدان اوروبية من بينها فرنسا مثلا، توقيف العمل إن اضطرت البلاد إلى ذلك، في حربها ضد الوباء المنتشر، أن هناك تململا في صفوف أصحاب المؤسسات ولدى منظمة الأعراف في علاقة بما يمكن اتخاذه من اجراءات لحماية العمال والموظفين بالمصانع والشركات. وهم مثلما فهمنا لا يحبذون فكرة توقيف العمل مع الالتزام بمنح الأجراء رواتبهم، حتى وأن هم في الاصل يخشون من تفشي العدوى بين العمال وذلك خوفا مما يعتبرونه تعطيلا للدورة الاقتصادية وتجنبا للخسائر وهم بطبيعة الحال ينتظرون ضمانات قوية من الدولة تسمح لهم باللجوء إن اقتضى الأمر إلى غلق المصانع والشركات والمؤسسات مؤقتا، مع الاطمئنان على مستقبلها. المصلحة الوطنية تتطلب قرارات تتجاوز الاشخاص والتكتلات واللوبيات وإذ نتفهم أن عقلية رجال الأعمال وحياتهم كلها حسابات وطرح وجمع (جلهم على الأقل)، فإننا نعتقد أنه من المفروض أن لا يكون القرار بيديهم فقط. فالأمر يتعلق اليوم بالمصلحة الوطنية التي تتطلب اتخاذ قرارات وطنية اقوى من اللوبيات والتكتلات والمصالح الخاصة مهما كانت كبيرة. لذلك أشرنا اليوم بأنه لا خيار لنا إلا بين أمرين وهو المراهنة على البشر أو على الحجر. فإن اخترنا المراهنة على البشر، فإنه لا بد من اتخاذ قرارات قوية وقبول مبدأ التنازل عن جانب كبير من الانانية وعن منطق الربح في كل الأحوال. فاليوم إن حدث وخسرت بلادنا المعركة ضد وباء الكورونا، وهو أمر وارد، إن لم تكن المواجهة على كل الجبهات، فإنه لن يخرج منها أحد، رابحا. لا نخال أن الوضع اليوم يسمح بالاستسلام للمشاعر السلبية وبالتالي نطمئن رجال الأعمال واصحاب الثروات أنه يصعب أن تجد اليوم من يبذر طاقته في التفكير في أن يعد عليهم دنانيرهم أو أن يشكك في اسلوبهم في العمل وفي طرق جمع الأموال وتكوين الثروات، فكل التفكير منحصر اليوم في سبل البقاء والنجاة من الفيروس المتربص بالجميع، الفقير والغني على حد السواء، رغم ان جل التونسيين يعرفون أن الصفقات المربحة لا تتم دائما في تونس في إطار الشفافية التامة وان الأرباح لا تتحقق دائما باحترام حقوق العمال وباحترام عرق الشغالين بالكامل، لكن لكل زمان قانونه وقدر الاكثر حظا من بيننا اليوم ، أي اصحاب الأموال، أن يكونوا في صدارة الاهتمام. "أين المفر؟" قالها ابن زياد من قبل وترددها شعوب العالم اليوم هم اليوم معنيون أكثر من غيرهم بتقديم تنازلات، لأنه ليس من المعقول أن نطلب من العمال والموظفين أكثر مما طلب منهم إلى اليوم، وهو في حد ذاته كثير، وإن حدث وتمادت الدولة في تعويلها على الأجراء، فإننا لا نضمن أن يكون في المستقبل لا ثري ولا فقير. فالقضية لمن يحاول أن يدير ظهره للحقيقة، هي قضية وجود واستمرار في الحياة بالنسبة للجميع. لنفترض إذن أن بلادنا اختارت أن تراهن على البشر، وهو ما يفرضه المنطق، فإن ذلك يعني أن تكون كل فئات المجتمع وعلى راسها الفئات الميسورة على استعداد للتضحية بجزء من اموالها من أجل انقاذ البشر. فالإنسان في تونس مهدد اليوم أكثر من غيره في البلدان ذات الإمكانيات الكبيرة وجميع المتحدثين في علاقة بالحرب على فيروس كورونا وعلى رأسهم وزير الصحة، يؤكدون أنه إن تجاوز عدد المصابين بالفيروس الألف، فإن بلادنا ستفقد السيطرة عليه لسبب واضح وهو أننا لا نملك تجهيزات صحية بالقدر الذي يتيح لنا مجابهة الوباء والحد من انتشاره. ولو حدث، وهو ما نتوقع، أن لا أحد يتمناه، ان تسرب الفيروس بين نسبة كبيرة من الناس، فإنه لن يفيد حينها المال صاحبه ولن يكون هناك من مفر. فحدود البلدان مغلقة وجل الشعوب في عزلة عن العالم ولا طائرات ولا بواخر، ولا مكان آمن اليوم في شمال الكرة الأرضية وفي جنوبها وفي شرقها وغربها. فقد قالها طارق ابن زياد، فاتح الأندلس في يوم ما: أين المفر؟ ويرددها أحفاده اليوم بعد قرون من الزمن، ، بل شعوب العالم تردد اليوم هذا التحذير وهي واقفة في مواجهة عدو وحّد البشرية في الخوف من أن تكون قد بلغت نهاية الرحلة على الأرض... إن المراهنة على البشر في وضع مثل وضع الدولة التونسية يعني شيئا واضحا وبسيطا وهو وضع الأموال والبنايات والأجهزة وكل ما من شأنه أن يساعد على مجابهة الوباء وقطع الطريق أمامه، على ذمة الدولة. يعني الأمر كذلك أنه لا مجال لتقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة ولا مكان لمنطق الحسابات وامكانات الربح والخسارة على الطريقة التقليدية. فإما أن يربح الجميع أو تكون الخسارة للجميع. إما أن يربح الجميع أو تكون الخسارة للجميع قلنا إذن، أن الفاعلين في بلادنا وأساسا المسؤولين على رأس الدولة والفاعلين في المجال الاقتصادي أمام خيارين لا ثالث لهما وهو إما المراهنة على البشر أو المراهنة على الحجر. وحاولنا أن نبين ماذا نعني بالمراهنة على البشر. ونقول كي نلخص العملية، اننا نعني أنه لا بد من فعل كل ما من شأنه ان يحمي الإنسان على هذه الأرض وتقديم مصلحته على كل الاعتبارات المادية والحسابات المالية. بمعنى آخر، فليخسر من يخسر ولو تغلق المؤسسات، إن لزم الأمر، مادامت صحة المواطن مهددة، بل حياته مهددة، أما ما عدا ذلك فهو يصب آليا في الخيار الثاني اي المراهنة على الحجر. وهو وإن كان ليس خيارا بأتم معنى الكلمة، فإنه في نهاية الأمر نتيجة حتمية لفشل الخيار الأول، أي الاستهانة بالأزمة والاستهانة بحياة الإنسان. لا نتخيل أن هناك على الأرض كائنا طبيعيا وبكامل قواه العقلية، يحبذ أي شيء على استمرار حياة الانسان ووجوده، لكن انصاف الحلول والقرارات الفاشلة والاجراءات المنقوصة وقلة الامكانيات ستقودنا آليا إلى الفرضية الثانية، اي أننا سنكون قد هيأنا المناخ أحببنا أم كرهنا لهذا الكائن المجهري الصغير والفتاك، أي فيروس الكورونا، حتى يتعامل مع البشر في هذه البقعة الأرضية، على أنهم لقمة سائغة. ساعتها قد لا نجد حتى شعراء يتحدثون عن الأطلال وعن الزمن الذي كان. حياة السايب