هل أضحى الانتحار حرقا عدوى يعبر من خلالها المنتحر عن البؤس الإجتماعي الذي يعيشه ويبررها بالمظالم التي يتعرض لها؟ أم أنه بات عنوانا لما يسمى بالربيع العربي؟ وهل تحوّل الإنتحار من تعبير عن اليأس والإنهزامية والفشل الى عمل بطولي وتجسيدا للأزمات السياسية والإقتصادية التي تعيشها بلادنا حيث بتنا كل يوم نسمع عن حادثة انتحار أسبابها متعددة ولكن نتيجتها واحدة.. جثث متفحمة بقسم الأموات بمستشفيات عدة وبقايا منتحرين يحاول الأطباء ترميم أجسادهم بمستشفى الحروق البليغة ببن عروس. "الصباح" حاولت البحث في هذا الموضوع وتحصلت على آخر الإحصائيات كما حملت بعض التساؤلات الى أخصائيين نفسانيين وإجتماعيين وعادت بالعمل التالي: من عليسة الى الثورة وحول الدوافع النفسية أفادنا الدكتور وحيد قوبعة الخبير في علم النفس أن التونسيين عرفوا الإنتحار حرقا منذ عليسة حيث أضرمت في جسدها النار وماتت محترقة هي وأطفالها بسبب شعورها بالهزيمة وهناك مثل يقول "النار ولا العار" أي أن الإنسان قد يلجأ الى النار لغسل العار والذل الذي يشعر به مشيرا الى أن هدف البعض من هؤلاء لفت انتباه الآخرين وإن العديد منهم يضرمون النار في أجسادهم ويظنون أنهم سينجون غير أن النيران سرعان ما تلتهم أجساد أغلبهم وحتى الناجين منهم ينجون بتشوهات في الوجه والجسد. وقال الدكتور قوبعة إن نسبة الإنتحار حرقا في الجزائر مثلا أقل بكثير من نسبتها في تونس لأن في تونس هناك خلفية ثقافية تعود الى تدمير قرطاج وانتحار عليسة حرقا كما سبق وأن ذكرنا. وحول هذا الموضوع أفادنا السيد يسري الدالي الأخصائي النفساني أن الانتحار ظاهرة نفسية اجتماعية وهو يدل على هشاشة نفسية وشخصية غير سوية وتعود أسبابة الى إضطرابات نفسية عميقة بالإضافة الى العوامل الإجتماعية كالفقر والتهميش والبطالة والمرض. وقال يسري الدالي إن محمد البوعزيزي لم يكن أول من انتحر حرقا جراء مظلمة فقد سبقه بعدة أشهر شاب بولاية المنستير أضرم النار في جسده أمام مقر الولاية وقبله بسنتين أحرق شخص نفسه أمام قصر قرطاج كما تكررت العملية خلال سنوات خلت. شخصية "سيكوباتية" حول طبيعة شخصية المنتحر حرقا أفادنا الدكتور الدالي أن هذه الشخصية تسمى شخصية "سيكوباتية" أي أنها شخصية رافضة للإلتزام بالقانون والنواميس الإجتماعية وهي شخصية سرعان ما تشعر بالإحباط وتسقط أمام أول عثرة في حياتها ولذلك فهذه الشخصية عندما تجد من يعارضها أو يقف ضدها تكون ردة فعلها عنيفة وتشعر بالغليان وبثورة داخلها وهؤلاء نوعا ماء مسرحيون يحبون البروز ولفت الإنتباه حتى عن طريق اختلاق المشاكل. "العدوان المرتد" وحول هذه الشخصية قال الدكتور يسري الدالي إن "السيكوباتية" في أغلب الأحيان مرتبطة بالفقر وأصحابها لهم شخصية عدوانية عندما تعجز عن رد الفعل توجه عدوانيتها الى نفسها لذلك نجد أغلب "السيكوباتيين" يشوهون أجسادهم ويعتدون على أنفسهم بشفرات حلاقة أو يطفئون السجائر في أيديهم لذلك يجب معاملتهم بحذر لأن هؤلاء عندهم نزعة عدوانية خاصة عندما يتعرضون للظلم والقهر والإحتقار أمام الآخرين فلا يمكن لأي كان أن يتصور ما يمكن أن يفعلوه وكيف سيترجمون سخطهم وغضبهم وفي أغلب الأحيان يعتدي "السيكوباتي" على نفسه بالحرق لأن في ذلك عملية تنفيذية فيها مسرحية وهناك متفرجون ولما تمتزج كل هذه المعطيات وتكون هناك أرضية نفسية مهيئة لذلك لا يمكن أن تولد غير الإنتحار بتلك الطريقة وذلك يسمى "العدوان المرتد" الذي يكون موجها نحو الذات ويكون في شكل مسرحي فرجوي وكأن المنتحر ينتقم لنفسه من المجتمع وكأنه يريد أن يثبت ذاته حتى في طريقة موته. وبالنسبة لانتشار عدوى الإنتحار حرقا وما شهدته تونس من حالات مشابهة لحالة البوعزيزي بعد الثورة والى يومنا هذا وانتشار تلك الحالات ببلدان الربيع العربي أفادنا الأخصائي النفساني يسري الدالي أنه عندما تنتقل العدوى من أحد إلى آخر فهذا يعني أن الشخصية الأساسية موجودة وهؤلاء المنتحرين حرقا تربطهم نفس مكونات تلك الشخصية من حيث الميل الى لفت الانتباه والعدوانية نحو الذات. العوامل الإجتماعية قال الأستاذ يسري الدالي إن الانتحار من الناحية الإجتماعية هو ظاهرة تعكس النسيج الإجتماعي الذي يعيش فيه الفرد وهنا يمكن أن نتساءل عن دور المؤسسات فمثلا لو أن الوالي خرج لمحمد البوعزيزي وأصغى إليه واستمع الى مشكلته ولم يتجاهله لما أضرم النار في جسده. وأشار الي أن الوضع لم يتغير بعد الثورة إذ بات تركيز الهياكل والمؤسسات منصب على مصالحهم واللهث وراء المناصب والكراسي ولم يعد المسؤولون متحمسين لما هو إجتماعي، كما ساهمت المعارضة في إشعال الفتنة وتجييش المنتحرين وكان من المفروض وبعد مرور ثلاث سنوات على اندلاع الثورة ألا نرى مثل هذه الحوادث ولكنها للأسف تفاقمت وكأنها عملية ممنهجة. ان عدوى الإنتحار حرقا لم تقتصر على إصابة بعض البلدان العربية فقط بل شهدت بلدان أوروبية حوادث مماثلة عبر من خلالها أصحابها عن رفضهم للواقع واحتجاجهم على الظروف الإجتماعية والإقتصادية السيئة وآخرها إقدام كهل على سكب البنزين على جسده وإضرام النار فيه في ساحة القديس بطرس في مدينة الفاتيكان، ولكن يبقى من المحزن أن يضطر الإنسان الى اختيار الحلول اليائسة التي يحرّمها الشرع ويرفضها المجتمع. أعلى نسبة للشباب وأقلها للمراهقين حول آخر الإحصائيات التي سجلتها الحماية المدنية أفادنا الرائد منجي القاضي أنه خلال الفترة الممتدة بين17 ديسمبر2010 و26 ديسمبر2013 تم تسجيل 193 حالة أي بمعدل 5 حالات كل شهر، وقد سجلت أعلى نسبة انتحار حرقا بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين20 و40 سنة حيث أقدم117 شخصا على وضع حد لحياتهم حرقا، وأما الفئة التي لم تتجاوز أعمارهم 20 سنة فقد تم تسجيل 33 حالة وهي النسبة الأقل فيما سجلت 43 حالة انتحار حرقا في صفوف الأشخاص الذين تجاوزوا سن الأربعين. وفي نفس السياق أفادنا مصدر مطلع بوزارة الداخلية أنه تم تسجيل 32 حالة انتحار حرقا خلال الستة أشهر الأولى لسنة 2013 فيما تم تسجيل 60 محاولة انتحار حرقا حيث أصيب أصحابها بأضرار وتمت مداواتهم. وبالرجوع الى سنة 2012 فقد وقع تسجيل 63 حالة وفاة جراء الإنتحار حرقا فيما سجلت 99 محاولة انتحار حرقا، وفي سنة 2011 سجلت91 حالة انتحار حرقا و112 محاولة انتحار حرقا وهي تعد أعلى نسبة مقارنة بسنتي 2012 و2013. الصباح بتاريخ 2 جانفي 2014