سليانة: رفع إجمالي 275 مخالفة اقتصادية خلال شهر جويلية المنقضي    وزارة الأسرة تؤمن مواكبة 1200 من الأطفال فاقدي السند ومكفولي الوزارة للعرض التّرفيهي La Sur la route enchantée    الحماية المدنية: إطفاء 105 حريقا خلال ال24 ساعة الماضية    عاجل/ شبهات تلاعب بالتوجيه الجامعي..تطورات جديدة..    صيف 2025 السياحي: موسم دون التوقعات رغم الآمال الكبيرة    عاجل/ تحذير من مياه الشرب المعلبة عشوائيا..    خطير/ حجز 7 آلاف رأس خروف في محل عشوائي..وهذه التفاصيل..    استشهاد 56 فلسطينيا برصاص الاحتلال خلال بحثهم عن الغذاء    القبض على "ليلى الشبح" في مصر: سيدة الذهب والدولارات في قلب العاصفة    الصين ترفض مطالبات واشنطن بعدم شراء النفط الروسي    7 قتلى خلال أعمال شغب في سجن بالمكسيك    وفاة الممثلة الأمريكية 'لوني أندرسون' بعد صراع مع المرض    نتائج المباريات الودية لأندية الرابطة الأولى    الألعاب الأفريقية المدرسية: تونس في المرتبة الثالثة ب141 ميدالية    إنتقالات: الناخب الوطني السابق يخوض تجربة إحترافية جديدة    طقس اليوم.. انخفاض طفيف في درجات الحرارة    اليوم.. البحر شديد الاضطراب والسباحة ممنوعة    بنزرت: وفاة 4 أشخاص غرقا في يوم واحد    "روبين بينيت" على ركح مهرجان الحمامات الدولي: موسيقى تتجاوز حدود الجغرافيا وتعانق الحرية    وزارة الأسرة تؤمن مواكبة 1200 طفل من فاقدي السند ومكفولي الوزارة عرض La Sur la route enchantée ضمن الدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي    خطير: إخلالات في خزن المياه تُخرج أكثر من 100 ألف قارورة فاسدة من السوق التونسية!    محمد عادل الهنتاتي: مصب برج شاكير كارثة بيئية... والحل في تثمين النفايات وتطوير المعالجة الثلاثية    ديوان التونسيين بالخارج ينظم الخميس 7 اوت الندوة الاقليمية الثالثة لاصيلي ولايات ولايات القصرين و سليانة القيروان و سوسة والمنستير و المهدية    إصابة عضلية تبعد ميسي عن الملاعب ومدة غيابه غير محددة    عاجل: الكاف يرفع جوائز الشان ل10 ملايين دولار وفما فرصة للتوانسة!    قرارات عاجلة لمجابهة انقطاعات مياه الشرب بهذه الولاية..    عبد السلام ضيف الله: أحمد الجوادي بطل ما لقاش بش يخلّص نزل اقامته بسغافورة    فيديو -حسام بن عزوز :''الموسم السياحي يسير في الطريق الصحيح و هناك ارتفاع إيجابي في الأرقام ''    البحر ما يرحمش: أغلب الغرقى الصيف هذا ماتوا في شواطئ خطيرة وغير محروسة    عاجل: مناظرة جديدة لانتداب جنود متطوعين بجيش البحر... التفاصيل والتواريخ!    جريمة مروعة: امرأة تنهي حياة زوجها طعنا بالسكين..!!    خزندار: القبض على عنصر إجرامي خطير متورط في عمليات سطو وسرقة    عاجل/ خلال 24 ساعة: استشهاد 5 فلسطينين جراء الجوع وسوء التغذية..    تأجيل محاكمة طفل يدرس بالمعهد النموذجي بعد استقطابه من تنظيم إرهابي عبر مواقع التواصل    جريمة مروعة تهز دمشق: مقتل فنانة مشهورة داخل منزلها الراقي    تحذير طبي هام: 3 عناصر سامة في بيت نومك تهدد صحتك!    وزير السياحة يعاين جهود دعم النظافة بجزيرة جربة ويتفقد موقعا مبرمجا لاقامة مدينة سياحية ببن قردان    عاجل: تسقيف أسعار البطاطا والسمك يدخل حيّز التنفيذ    شبهة تلاعب بالتوجيه الجامعي: النيابة العمومية تتعهد بالملف والفرقة المركزية للعوينة تتولى التحقيق    عرض "خمسون عاما من الحب" للفنانة الفرنسية "شانتال غويا" في مهرجان قرطاج الدولي    عاجل/ مقتل فنانة خنقا في عملية سطو على منزلها…    من بينها السبانخ.. 5 أطعمة قد تغنيك عن الفيتامينات..تعرف عليها..    القناوية... فوائد مذهلة في ثمرة بسيطة... اكتشفها    اعلام من باجة...سيدي بوسعيد الباجي    تاريخ الخيانات السياسية (35): المنتصر يقتل والده المتوكّل    يحدث في منظومة الربيع الصهيو أمريكي    أيام قرطاج السينمائية تكرّم الراحل زياد الرّحباني في دورتها المقبلة    العهد مع جمهور الحمامات ...صابر الرباعي... يصنع الحدث    مهرجان الفنون الشعبية بأوذنة: الفنان وليد التونسي يعود للركح ويستعيد دفء جمهوره    واقعة قبلة الساحل تنتهي بودّ: اتصال هاتفي يُنهي الخلاف بين راغب علامة والنقابة    منظمة الصحة العالمية تدعو إلى إدماج الرضاعة الطبيعية ضمن الاستراتيجيات الصحية الوطنية وإلى حظر بدائل حليب الأم    لماذا يجب أن ننتبه لكمية السكر في طعامنا اليومي؟    المنتخب المغربي للاعبين المحليين يفتتح "الشان" بالفوز على أنغولا    هكذا سيكون الطقس هذه الليلة    عاجل : أحمد الجوادى يتألّق في سنغافورة: ذهبية ثانية في بطولة العالم للسباحة!    اعادة انتخاب عارف بلخيرية رئيسا جديدا للجامعة التونسية للرقبي للمدة النيابية 2025-2028    ما ثماش كسوف اليوم : تفاصيل تكشفها الناسا متفوتهاش !    شائعات ''الكسوف الكلي'' اليوم.. الحقيقة اللي لازم تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رأي : العدالة الانتقالية و مسالة اعادة قراءة التاريخ
نشر في الصباح نيوز يوم 11 - 10 - 2014

ان اشكالية العدالة الانتقالية و مسالة اعادة قراءة او كتابة التاريخ محل جدال بين المعنيين بالعدالة الانتقالية و بين المؤرخين و بين الخبراء المختصين في عدة ميادين. كما طرحت هذه المسالة داخل جل لجان الحقيقة التي عرفها العالم منذ الثلاث العقود الاخيرة. فبإمكاننا خلاصتها في مصطلحين : واجب الذاكرة و واجب التاريخ (Devoir de mémoire et Devoir d'Histoire)
صمت القانون في ما يخص المسالة التاريخية
طرحت في تونس هذه المسالة - اي علاقة العدالة الانتقالية بإعادة كتابة التاريخ - في اطار الحوار الوطني حول مسار العدالة الانتقالية الذي اطلق خلال ندوة وطنية نظمت في 14-4-2012 في تونس و التي أشرفت عليها وزارة حقوق الانسان و العدالة الانتقالية انذاك. و كان التحاور حول هذا الموضوع موضع جدال شارك فيه كذلك مختصون في التاريخ و خبراء من جهات مختلفة انتهى بإقناع الجميع بان العدالة الانتقالية ليست من مهامها اعادة كتابة التاريخ بل مهمتها تنحصر في كشف حقيقة الانتهاكات.
لهذا السبب، الزم مشروع القانون المنظم للعدالة الانتقالية و الذي قدم من طرف اللجنة الفنية و القانون المنقح و المصادق عليه من قبل المجلس الوطني التاسيسي في 24 ديسمبر 2013 - الصمت حول هذه المسالة اي هل ان مسار العدالة الانتقالية بإمكانه ان يفضي الى اعادة قراءة او كتابة التاريخ ؟ فلم يتضمن القانون النهائي و المعمول به حاليا - و لو مرة - كلمة "التاريخ". فهذا الموقف له مدافعوه و منتقدوه.
وتجدر الاشارة هنا الى ان من نتائج اختيار هذا المنهج هو الغياب التام في تركيبة الهيئة لاي مختص في التاريخ بالرغم من ان الفصل 20 لقانون العدالة الانتقالية المخصص لتركيبة الهيئة ينص على ان " يختار الاعضاء من الترشحات الفردية في الاختصاصات ذات الصلة بالعدالة الانتقالية كالقانون و العلوم الاجتماعية و الانسانية و الطب و الارشيف و الاعلام و الاتصال...".
و لكن غيب مختص في العلوم الانسانية مثل التاريخ بالرغم من ان الفصل 4 للقانون ينص في تحديده للكشف عن الحقيقة على " ضبط و معرفة اسباب و ظروف ومصدر الانتهاكات و الملابسات المحيطة بها و النتائج المترتبة عليها" و يعيد التأكيد على هذا المنهج في الفصل 39 حيث ينص مرة اخرى على "توضيح اسباب الانتهاكات المشمولة بأحكام هذا القانون".
فهذه المهمة التي أوكلت لهيئة الحقيقة و الكرامة و التي تتمثل في كشف الحقيقة و توضيح اسبابها ستتطلب حتما الاستعانة بمتخصين في مادتي التاريخ و العلوم السياسية و اختصاصات إنسانية اخرى وان لم ينص القانون على ذلك لانها ستجد نفسها امام ضرورة تناول تاريخ الانتهاكات من خلال حلقات متسلسلة زمنية كبيرة.
مهمة الهيئة : حفظ الذاكرة الوطنية
يؤكد القانون على مهمة الهيئة في حفظ الذاكرة الوطنية كما جاء في الباب الاول و الفصل الاول للقانون " يحفظ (القانون ) الذاكرة الجماعية و يوثقها ". و اعتبر القانون المذكور في فصله 5 حفظ هذه الذاكرة الوطنية ك" حق لكل الأجيال المتعاقبة من التونسيات و التونسيين وهو واجب تتحمله الدولة و كل المؤسسات التابعة لها او تحت إشرافها لاستخلاص العبر و تخليد ذكرى الضحايا". و ينص في الفصل 44 للعنوان الثاني و الباب الرابع منه المتعلق بمهام و صلاحيات الهيئة على ان " توصي الهيئة باتخاذ كل التدابير التي تراها ضرورية لحفظ الذاكرة الوطنية لضحايا الانتهاكات ...". و لكن لم يتعرض القانون الى تحديده للذاكرة الوطنية و الذاكرة الجماعية، مصطلحان كان من الضروري في رايي الوقوف عندهما. وكذلك الشان لمصطلح المصالحة او المصالحة الوطنية الذي تضمنه القانون والذي لم يحدده. واذا اشرنا الى الطلب الاجتماعي على التاريخ و الى تزايد هذا الطلب بالنسبة للماضيً القريب ، فتساءلنا يبقى مطروحا : الا تشمل المصالحة مصالحة التونسيين مع تاريخهم وهو الذي يمثل ركيزة أساسية لهويتهم الثقافية ؟ فالتاريخ لا ينحصر في سرد الاحداث كما جاء في "المقدمة" لابن خلدون الذي اكد على ان التاريخ " في باطنه نظر و تحقيق (...)، و علم بكيفيات الوقائع و أسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق". و بعده بستة قرون تقريبا، كتب فرناند بروديل ( Fernand Braudel) ان " الهدف الحقيقي من التاريخ ليس بالضرورة دراسة الماضي ... ولكن معرفة الانسان .. فالتاريخ ليس مجرد سرد... هو في تناغم مع الحياة و منتهاها انه يؤرخ للحياة بل يجب ان يكون الحياة نفسها." فعلى الهيئة في اخر مراحلها ان توصي بمصالحة التونسيين مع تاريخهم و ان تقدم اقتراحات غايتها فهم أعمق للأحداث و الوقائع التي طبعت المرحلة الممتدة ما بين جويلية 1955 و ديسمبر 2013 و التطلع لاستيعاب السياق العام لما جرى إبان تلك الحقبة لتجاوز الاثار السلبية الناجمة عما عرفته المرحلة من احداث أليمة و لكي لا يعيد التاريخ نفسه.
كشف الحقيقة: مطلب ملح
فالاشكال المطروح اذن هو الآتي : هل ان نتائج عمل هيئة الحقيقة و الكرامة في ما يخص كشف حقيقة الانتهاكات عبر المراحل التاريخية المحددة لعملها في القانون المنظم لها و هي " الفترة الممتدة من الاول من شهر جويلية 1955 الى حين صدور هذا القانون " اي 24 ديسمبر 2013 (58 سنة)، بامكانها ان تؤثر على اعادة قراءة او كتابة التاريخ ؟
في ما يخص العلاقة الجدلية بين التاريخ و الذاكرة، فهذه الاخيرة خلقت جدالا في الأوساط الأكاديمية و كذلك في الأوساط المهتمة بالعدالة الانتقالية بين من يرى ان بروز الحقائق في اطار مسار العدالة الانتقالية يمكن ان يلعب دورا في اعادة قراءة و كتابة التاريخ و بين من ينصح بالحظر من التعاطي مع مثل هاته الحقائق التي ستبرزها لجان الحقيقة و ان على الباحث في التاريخ ان يحتفظ على تلك المسافة الضرورية التي يفرضه عليه عمله العلمي.
و ان كنت شخصيا من مناصري فكرة ان الحقائق التي ستبرزها الهيئة يمكن ان تعين الباحثين في حقل تاريخ الزمن الراهن و ان تضع على ذمتهم معلومات هامة قد تغير و تثري اعمالهم و ان تسمح في الاخير اعادة قراءة او كتابة تاريخ بلادنا، فاني واعية تمام الوعي بالاشكاليات التي يطرحه مثل هذا التمشي . و ساتعرض في الحين الى ضرورة قراءة و كتاية التاريخ على ضوء اعمال لجان الحقيقة و الإشكاليات العلمية التي يطرحها هذا الاختيار.
1- ان حفظ الذاكرة لا يعني القطع مع البحوث العلمية في مجال التاريخ بل و كما هو الشان مثلا بالنسبة لمركز الذاكرة الوطنية في بولونيا الذي وضع في اولى انشغالاته و أهدافه البحث في ميدان التاريخ المعاصر. كيف يمكن لنا إذن فهم هذا الاهتمام الكبير بالذاكرة الوطنية ؟ يؤمن المؤرخ الفرنسي «بيير نورا» ( Pierre Nora) بوجود ترابط بين هذا آلاهتمام و ظاهرتين تاريخيتين في عصرنا: الأولى متعلقة بالتغيير الذي طرأ على إحساسنا وتعاملنا مع الزمن، والثانية تختص بالأبعاد الاجتماعية لعملية التذكر." ( محمد ديتو، " دور الذاكرة الوطنية في تعزيز ثقافة الديمقراطية "، الوسط )
2- الكشف عن واقع الانتهاكات عبر السرد الشفوي من شانه ان يقدم مادة للمؤرخين ل"خلق هواجس البحث و محفزات للبحث و التنقيب التاريخي و العلمي "( لائحة البحوث التاريخية المغربية في مجال تاريخ الزمن الراهن")
3-اهتم بعض المؤرخين التونسيين في تونس و في السنوات الاخيرة بالتاريخ الراهن بشكل ملحوظ بعد ان كان هذا الحقل حكرا على المختصين في العلوم السياسية و الانتروبولوجية و أيضاً على الصحفيين المتتبعين للشأن السياسي.
اريد ان اذكر جهود المؤرخين التونسيين في مجال تاريخ الزمن الراهن منذ عقود. فهي كتابة تاريخية جديدة تقطع مع ما يسمى بالتاريخ التقليدي او على الاقل تطوره . و اعتبر بعضهم ان هذا التاريخ يكون بمثابة تحول في مهمة و مهنة المؤرخ . في تونس نخص بالذكر الدور الهام الذي لعبه كل من مؤسسة التميمي للبحث العلمي و المعهد العالي للبحث حول تاريخ تونس المعاصرة ( المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية سابقا ) و بعض المؤرخين الباحثين في الجامعات التونسية. فالبعض منهم اعتمدوا في أبحاثهم الشهادات الشفوية كمصدر من مصادر المعلومات التاريخية التي تجاهلها ما يسمى بالتاريخ الرسمي. و تراكمت الندوات العلمية حول موضوعات ذات صلة بما هو أني مثل الاستقلال و فترة الحبيب بورقيبة و نظام الدولة بتونس و الانتفاضات و محاولة انقلاب ديسمبر 1962 و الاعتقالات و التي شاهدت احيانا حضور شهاد عايشوا الاحداث التاريخية المذكورة او شاركوا فيها. فاحتلت الشهادة موقع الصدارة في فهم التاريخ و اصبحت تمثل ذاكرة مرجعية و وثيقة أساسية لرصد واقع العمل السياسي. و اصبحت الشهادة المصدر الذي يضمن الحقيقة.
و ان دلت هذه الملتقيات على شئ فهي تدل على انشغال المؤرخين بتجديد المعرفة التاريخية بفتحها على التاريخ القريب او كما سماه Jean Lacouture" التاريخ الفوري ". و كما بين بعض المؤرخين المغاربة ان "الماضي هو قضية الراهن و الراهن هو واقع التاريخ".
كما اهتمت عديد المقالات التي صدرت في الجرائد اليومية و الأسبوعية بما حصل من عنف سياسي في العهد البورقيبي وساهمت كل هذه الأبحاث و الملفات الصحفية في انشاء اهتمام كبير لدى القراء و المهتمين .كما اهتم المسرح التونسي بالعنف السياسي و خصصت مسرحية "خمسون " للفاضل الجعايبي و جليلة بكارالذان قاما بهذا الإبداع الفني لقراءة عقود من تاريخنا و ذلك سنة 2006 اي بمناسبة خمسينية الاستقلال (1956). كما ادى الانفتاح الديمقراطي في تونس الى ظهور كتابات و شهادات عديدة و افلام وثائقية حول انتهاكات حقوق الانسان و ظروف الاعتقالات و التعذيب لان التاريخ الرسمي الذي درس في مؤسساتنا التعليمية غامض سياسيا و تاريخيا. فمعرفة تفاصيل مرحلة ما بعد الاستقلال اصبحت مطلبا قويا لدى التونسيين و التونسيات لمعرفة ماذا حدث في بلدنا من خلال الدعوة الى البحث في الماضي لفهم افضل لحالتنا الراهنة. وهذا يعبر عن وعي تاريخي للمجتمع التونسي وعن حاجته الملحة لتاريخ يخترق الحاضر. و قد ساهمت في هذه التوعية عدة جمعيات حقوقية و مراكز و شبكة و تنسيقية العدالة الانتقالية. وقد اصدر مركز الكواكبي و الشبكة و التنسيقية ادبيات حول انتهاكات حقوق الانسان و اذكر منها الكتاب التي اصدرته اخيرا التنسيقية حول " انتهاكات حقوق الانسان بتونس 1956-2013 بين الذاكرة و التاريخ " و البحث الوطني المنجز بالتعاون بين مركز المواطنة و الديمقراطية و الشبكة التنسيقية للعدالة الانتقالية حول " العدالة الانتقالية بين واقع الانتهاكات و انتظارات الضحايا 1987-2011).
كل هذا الاهتمام بعقبات تاريخية ان دل على شيء فهو يدل على حاجة و تعطش التونسيين و التونسيات الى تاريخ موضوعي و الى تمكنهم من فهم بشكل علمي ما جرى و ما يجري من عنف سياسي و انتهاكات لحقوق الانسان .
تساؤلات بعض المؤرخين و تحفظاتهم
ولكننا واعون بان مهمة الهيئة التي تتمثل في كشف الحقيقة يطرح عدة تساؤلات لدى المؤرخين و المهتمين و سنكتفي بعرض عليكم اربعة مسائل :
1- عن اي حقيقة نتحدث ؟ هل هي حقيقة ذاتية ؟ هل هي حقيقة تاريخية ؟ هل هي حقيقة مطلقة؟ ام هي حقيقة نسبية ؟ هل هي حقيقة مؤقتة، قابلة للمراجعة عند اكتشاف وثائق بقيت مجهولة و توفر شهادات جديدة ؟هل ان أبحاث التاريخ العالم قادرة على فرز الحقيقة النهائية ؟"
"فالحقيقة يكشفها التاريخ العام اعتمادا على الوثيقة المكتوبة، الارشيف، و تبوح بها الذاكرة، ذاكرة الضحايا، و ذاكرة المسؤولين و الجلادين من خلال الاستجواب او الاستنطاق " كما جاء في تعليق الجامعي المغربي المختص في العلوم السياسية و العلاقات الدولية عبد الحي المودن على مداخلة محمد الطوزيً في ملتقى التحليل السياسي Cercle d'analyse politiqueالذي خصص العدد السادس لكراساته الزرقاء (2006) Les Cahiers bleusالى مسالة الذاكرة و التاريخ Mémoire et Histoire. فالاشكال المطروح يتمثل في ان الحقيقة التي توصلت اليها لجان الحقيقة " هي حقيقة سياسية اي حقيقة تحظى برضا الفاعلين السياسيين ، و التي هي مختلفة عن حقيقة التاريخ العالم." فالقانون المنظم للعدالة الانتقالية لم يحدد بصفة دقيقة مفهوم هذا المصطلح. فعلى الهيئة ان توضع للنقاشٍ في ندوات تنظمها مفهوم الحقيقة كما فعلت في طنجة ستة 2004 هيئة الإنصاف و المصالحة لان بعض الدراسات "أظهرت صعوبة التوصل الى حقيقة تاريخية بشكل قطعي و نهائي ".
2- هل يمكن للمؤرخين الاعتماد على الشهادة او الذاكرة، فردية كانت ام جماعية ؟ فالتاريخ الشفوي يطرح إشكاليات. وهناك من المؤرخين من يعتبر ان سرديات التاريخ الشفوي ليست مصدرا خاما للتاريخ. "فالذاكرة تبقى انتقائية لان الانسان لا يتذكر الا ما يرضيه و يسدل رداء النسيان على ما يرضيه " كما جاء في مداخلة مؤرخ مغربي . فالشهادة "تبقى ذات سمة ذاتية، انفعالية، رمزية. فهي تفتقر لجهاز مفاهيمي و تعمل بكيفية إرادية او لا ارادية، بناء على حاجيات اللحظة، على تضخيم الاحداث او تقزيمها". اما الكتابة التاريخية فتقوم على الموضوعية و التحليل و النقد (...). ففي نظر بعض المؤرخين، لا يمكن للشهادة ان تحل محل كتابة المؤرخ " لذلك وجب التمييز بين الشهادة التاريخية و الكتابة التاريخية. ( تقديم اعمال الورشة الاولى لأيام تاريخ المغرب، إفران 2006 )
3- كما تطرح مسالة اخرى وهي قضية المسافة الزمنية التي تثير عددا من المؤرخين كما ذكره بعض الباحثين المختصين في مجال التاريخ ". و لكن يبقى التساؤل مطروحا : هل ليس بإمكان المؤرخ " ابتكار منهجية جديدة لمعالجة التاريخ الراهن و فهمه و خلق مسافة من نوع اخر بينه و بين الاحداث المعروضة، اي مسافة منهجية اكثر منها زمنية ؟". (تقديم اعمال الورشة الاولى لأيام تاريخ المغرب، إفران 2006 )
4- و أخيرا، اريد ان اؤكد انه من الضروري ان تحدد غايات التاريخ في ظل هذه الصراعات السياسية لكي لا يوظف هذا الاخير لخدمة مصالح فئوية ضد اخرى او للبرهنة على حقيقة مطلقة (عبد الحي مدن).
فلا شك في ان تجربة الهيئة ستساهم في فتح النقاش داخل " المدرسة التاريخية التونسية" و الأوساط الأكاديمية حول تاريخ الزمن الراهن و الأدوات المنهجية البديلة و معالجة إشكاليات جديدة و اعادة الاعتبار للذاكرة . وهي فرصة لطرح تساؤلات متجددة من شانها اثراء المعرفة التاريخية. ولعل من الضروري في هذه الفترة الانتقالية التي تعيشها بلادنا" تدبير العلاقة مع الماضي و اعادة بناء الذاكرة الجماعية و فتح ورشة كتابة التاريخ على أسس جديدة". ( محمد الصغير جنحار، كاتب مغربي )
و في النهاية اود ان اذكر ما قاله بول ريكور Paul Ricoeur: " القاضي هو الذي يحكم و يعاقب، و المواطن هو الذي يناضل ضد النسيان و من اجل انصاف الذاكرة، اما المؤرخ فمهمته تكمن في الفهم دون اتهام او تبرئة."
نورة البورصالي
ملاحظة : هذا النص لا يلزم هيئة الحقيقة و الكرامة في شئ . انه يعبر عن وجهة نظري كعضوة في هذه الهيئة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.