هولندا دولة من دول أوروبا الغربية شعبها منحدر من شعب الفيكيغ الذي عاش حروبا كثيرة وكان يصنف ضمن الشعوب الهمجية . هذه الدولة كانت إلى تاريخ قريب وتحديدا خلال القرون الوسطى ترزح تحت وطأة عصور الظلام والانحطاط وكانت دولة متخلفة وشعبها من أفقر الشعوب خاضت حروبا مدمرة من دينية واستعمارية ومقاومة الاحتلال الأجنبي. ما حصل هو أن هولندا عرفت طريقها نحو النهضة والتقدم وانخرطت فيما انخرطت فيه دول الغرب من تحديث وتنوير فكان أن تغير وجه هذا البلد في سنوات قليلة وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية التي أيقظت أحداثها المؤلمة الشعوب الغربية ومنها الشعب الهولندي بأن الوقت قد حان لتحقيق دولة عصرية وتأسيس مدنية ونهضة في كل المجالات فكان موضوع الانفتاح الديني والتعايش بين مختلف مكونات المجتمع وتحقيق التسامح بين أفراد الشعب المختلف في توجهاته ومشاربه الفكرية القضايا التي شغلت بال النخبة الفكرية الهولندية وبال النخبة السياسية الحاكمة وقد عرفت هولندا سنوات طويلة من النقاش والجدال والحوار الهادئ والرصين حتى وصلت إلى اقرار ثلاثة مبادئ كبرى هي اليوم المشترك الذي توافق عليه الشعب الهولندي . المبدأ الأول هو الانفتاح الديني المتمثل في عدم تبني الدولة لدين رسمي رغم أن المسيحية هي الدين الغالب والاعتراف بكل الديانات من سماوية وغيرها والسماح لكل النحل والفلسفات من أن تفصح عن نفسها وتنتظم في مؤسسات وهياكل وأن تمارس طقوسها بكل حرية من دون تدخل من الدولة أو احتراب اجتماعي بما يعني أن هولندا اليوم هي بلد التعدد الديني حيث تجد فيها كل أنواع وأشكال التدين والاعتقاد والناس أحرار في أن يكونوا مؤمنين أو لا دينيين. المبدأ الثاني هو التعايش مع المخدرات من خلال إقرار قوانين تسمح ببيع وتعاطي المخدرات بكمية محدودة ضبطت في غرام واحد للاستهلاك الشخصي يمكن الحصول عليه في مقاهي خاصة من دون أن يتعرض مستهبكها إلى المساءلة القضائية هذا إلى جانب السماح ببيع وترويج المخدرات في أماكن خاصة وملاهي ليلية وهذا السلوك الذي اختارته الحكومة الهولندية قد جعل المخدرات منتشرة داخل المجتمع ولكن تحت أعين ورقابة وإدارة الدولة. المبدأ الثالث هو التعايش مع بيع الجنس وامتهان مهنة البغاء والاعتراف بالميولات الجنسية المختلفة واعتبار هذه الميولات شكلا من أشكال هوية الفرد وقد أفضى كل ذلك إلى اعتراف الدولة الهولندية بالمثلية الجنسية والسماح للمثليين بالزواج المدني والتمتع بكامل الحقوق المدنية للأزواج العاديين منها الحق في تبني الأطفال. تعرضنا إلى الثالوث الذي يمثل المشترك الاجتماعي الذي تقوم عليه دولة هولندا لا للاقتداء به أو تبنيه نموذجا للمجتمع المثالي ولا لأننا نتفق مع هذه الخيارات المجتمعية التي توصلت إليها هولندا وتوصف في مجتمعات أخرى وثقافات أخرى بكونها خيارات شاذة ومخالفة للفطرة البشرية وإنما غايتنا من ذكر مثال هولندا في علاقة بما نعيشه هذه الأيام من محاولة إصلاحية تتبناها لجنة الحريات الفردية والمساواة التي شكلها رئيس الجمهورية والتي أراد من ورائها استئناف مسيرة الاصلاح التونسية في تلازم بين العقل الاصلاحي والعقل الايماني وتقديم مقترحات قيل عنها أنها مواصلة لحركة الاصلاح الاجتماعي التي بدأت منذ القرن التاسع عشر واليوم نشهد موجتها الرابعة . ما أردنا قوله هو أنه بقطع النظر عن مخرجات القوانين المطبقة في هولندا بلد الحريات المفرط والقوانين الصارمة والانضباط التام والتي قد تصدم في بعض صورها الكثير من شعوب العالم إلا أن الدرس الذي نخرج به من هذه التجربة هو أن هولندا ما أمكن لها أن تصل في وضعيات اجتماعية مثل التي ذكرنا لولا إخضاع كل هذه القضايا الحارقة إلى نقاش واسع وهادي وشامل وأن هولندا لم يكن بإمكامنها أن تصل إلى صيغة جعلت المجتمع يمتاز بالانفتاح والتعايش السلمي لولا تبنيها نهجا في الإصلاح يقوم على تشريك كل الناس في هذه المواضيع الخلافية وأن هولندا احتاجت سنوات طويلة من الحوار والصبر الكبير على الاختلاف حتى تصل إلى اتفاق بين الجميع على جملة من المشتركات رأوا فيها أنها تصلح لهم وتفيدهم بما يعني أن الانسان الهولندي قد أخذ وقتا طويلا حتى يقتنع بفتح البلاد أمام تعدد الديانات والاعتراف بكل الممل والنحل ووقتا آخر حتى يتم تقنين استعمال المخدرات بصفة لا تعرض صاحبها إلى العقاب القانوني والأهم من ذلك وقتا أطول وسنوات من الحوار بخصوص المثلية الجنسية وبحق المثليين من الزواج وتكوين أسر مخالفة للأسر الطبيعية كل هذه القضايا الهامة استغرقت في هولندا بلد الحريات الأولى في العالم وقتا طويلا وسنوات طويلة في حين تريد لجنة الحريات الفردية والمساواة إنهاء الموضوع والحسم في الكثير القضايا الخلافية التي لها علاقة بالدين الاسلامي وبالنصوص الدينية الثابتة وبما استقر في وجدان وثقافة الناس واتفقوا عليه لعقود تريد حلها في زمن قياسي ودون حوار ولا نقاش وإنما من خلال الاستقواء بالدولة ومن خلال فرضه بقوة السلطان من خلال مبادرة تشريعية يقوم بها رئيس الدولة بناء على تقرير اللجنة من دون فسح المجال للنقاش وللتعرف على المضمون وتقديم مقترحات وخيارات أخرى غير تلك التي قدمتها اللجنة . ما أردنا قوله هو أن هذا التقرير الذي هو محل اختلاف بين اعتباره عملية اصلاحية لقضايا اجتماعية وبين اتهامه بكونه نتاج مجموعة من النخبة التونسية التي لا تمثل بالضرورة كل النخبة الفكرية قد سقط في التسرع بما يعطي الانطباع بأن اللجنة في عجلة من أمرها لفرض خيارات من دون أخذ رأي الشعب والنخب في قضايا تعنيهم وتمس حياتهم . ما أردنا قوله هو أن الدرس الهولندي يقول لنا ما هكذا يتم الاصلاح الاجتماعي وما هكذا تتغير المجتمعات وليس بمنهجية أعضاء لجنة الحريات تغير القناعات المجتمعية وليس بهذه الطريقة المتسرعة يحسم في قضايا كبرى على عجل وتسرع وبتجاهل للرأي العام وموقف الناس وربما هذا ما يفسر رفض بشرى بن حميدة رئيسة اللجنة الذهاب إلى استفتاء شعبي لقبول او رفض التقرير .