قدم الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، الذي يُعتبر أحد أكثر المفكرين احتراما في العالم، محاضرة بجامعة تيلبورخ بهولندا يوم السبت. وقد نفدت تذاكر المحاضرة قبل أسابيع من تقديمها، ليس بسبب الوضع المميّز لهابرماس في مجتمع الفلاسفة فقط، الإسلام في مجتمعات ما بعد العلمانية إعداد: مارييك فان دير مير 25-03-2008 ترجمة: علي حمزة قدم الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، الذي يُعتبر أحد أكثر المفكرين احتراما في العالم، محاضرة بجامعة تيلبورخ بهولندا يوم السبت. وقد نفدت تذاكر المحاضرة قبل أسابيع من تقديمها، ليس بسبب الوضع المميّز لهابرماس في مجتمع الفلاسفة فقط، بل أيضاً بسبب تعليقاته الذكية والقوية حول القضايا التي يعيشها العالم اليوم مثل التعدد الثقافي والإسلام في مجتمع "ما بعد العلمانية". وكان مستمعوه الهولنديون مهتمين بشكل خاص بما قد يقوله حول الفيلم المعادي للإسلام الذي يوشك أن يطلقه نائب البرلمان اليميني خيرت فيلدرز، الذي ظل يهدد خلال الأشهر الماضية ببث فيلم يحرق خلاله نسخة من القرآن. ويحاجج فيلدرز بضرورة منع تداول القرآن لأنه يحرض على الكراهية والعنف، كما يطالب بوقف جميع أنواع الهجرة من الدول غير الغربية. وقال هابرماس، عندما طُلب منه الحديث حول فيلم فيلدرز الشبحي، يجب أن نميّز أولاً بين القضايا الدستورية والقانونية المتعلقة بهذا الإعلان وبين القضايا السياسية. وأوضح: "لا يوجد أحد في هذه القاعة يقف ضد المبدأ الدستوري المتمثل في حرية الإعلام كواحد من أهم حقوقنا الأساسية، والتي تأتي في أهميتها في بعض الأحيان قبل الحقوق الأخرى".
يورغن هابرماس
استقطاب يعتقد هابرماس أن فيلدرز أعلن عن الفيلم بطريقة يتضح منها أنه يتعمد اثارة الرأي العام أو استقطابه. وقال: "من الصعب أن نفكر بأن هذا الأمر لم يكن مقصودا". وحول ما إذا كانت هناك حقوق ربما ينتهكها الفيلم، أشار هابرماس إلى أن مثل هذه الحالات تتضمن في كثير من الأحيان القذف، الإضرار بطرف ثالث، أو الإخلال بالنظام العام. وقال: " لستُ محامياً، وهذه الأمور يجب إثباتها بالوسائل القانونية فقط، ونأمل أن تعالج الوزارة المعنية والمحكمة ذلك بشكل صائب". لكن، إذا نظرنا إلى الإعلان عن الفيلم كتعبير سياسي في الفضاء العام، فإن هابرماس يستشهد بثيو فان غوخ الذي أُغتاله إسلامي متطرف عام 2004 بعد بثه فيلمه الذي ينتقد الإسلام. ويتوجه هابرماس بالسؤال إلى فيلدرز: "سؤالي الأول والوحيد لك أيها السيد فيلدرز هو: لماذا تعتقد أنه من الضروري الاستمرار في استفزازاتك التي تجر أوخم العواقب في هذه البلاد؟ هذا سؤال سياسي محض. ما هو السبب؟ كان لدينا طالب في عام 1968، أحد طلابي أنا أيضاً، يقوم بانتهاك قوانين محددة بشكل منتظم بدافع التحريض والإثارة". إثارة وقال هابرماس، مستشهداً بصمت الجيل السابق حول جرائم ألمانيا ضد الإنسانية في الماضي وردود فعل صحف التابلويد على اغتيال الطالب المحتج: "كنتُ أعتقد في ذلك الوقت أن معظم الطلاب لديهم أسباب وجيهة للإثارة والتحريض". وخاطب فيلدرز بقوله: "لأتوجه إليه بالسؤال حول الأسباب التي تدفع به إلى أعمال الإثارة والتحريض، مع الافتراض المسبق بعدم وجود حاجة لأية إثارة، طالما لا توجد قضية يجب طرحها الآن وفي هذا الوقت بالتحديد للرأي العام. يمكن أن تكون الإثارة والتحريض مبررتين إذا كانت القضية المعنية لا تستطيع اجتذاب الرأي العام بشكل كاف إلا عبر الإثارة". وقد تجاوب جمهور الحاضرين مع هذه الحجة بالتصفيق. مجتمع ما بعد العلمانية. ماذا يعني هذا الاصطلاح؟
جاء بروفيسور يورغن هابرماس إلى تيلبورخ لتقديم المحاضرة السنوية التي يقدمها كل عام واحد من الضيوف المرموقين بمعهد نيكسوس الزائع الصيت وهو فريق عمل فكري اشتهر بإقامته نقاشاً فكرياً عالمياً عبر برامج مؤتمراته ومحاضراته المختلفة. أذكر أن أستاذاً متميّزاً للفلسفة كان يقول لنا خلال إحدى محاضراته بالجامعة قبل سنوات طويلة إن الفلسفة هي محاولة ‘لتفسير العالم المنظور بما هو غامض وغير منظور‘. من المؤكد أن الفلاسفة يساعدوننا على تفسير العالم بمفاهيم مجردة، غير ملموسة مثل العدالة، الحق، والجمال. لكن، عندما يبدأ الفلاسفة يتحدثون إلينا بمصطلحات من قبيل ‘الخطاب التبريري التفاضلي‘ و معرفانية الواقع‘ يتركون معظمنا تحت سحابة من الحيرة والتشويش وعدم الفهم لا يستطيع أي قاموس أن يبددها. يورغن هابرماس فيلسوف استطاع أن يحافظ على توازن مفيد بين أبراج الميتافيزيقا الأكاديمية التي تغطيها سحب التشويش والحيرة وبين الواقع اليومي الأرضي عبر مشاركاته المستمرة في النقاش العام حول القضايا الساخنة مثل قضية الإسلام في أوروبا. في الواقع، فإن ما يقف وراء جوهر نظريته الشهيرة التي يسميها ‘الفعل الاتصالي‘ هو اعتقاداه الراسخ والعميق في الحاجة إلى نقاش نقدي يضم الجميع حيث تتعاون جميع الأطراف على قدم المساواة من أجل الوصول إلى تفهم أو فهم لأية قضية. الدين قال هابرماس لمستمعيه الهولنديين: "ما يحتاجه الفضاء الديمقراطي العام والثقافة الليبرالية الجماعية في المقام الأول هو تداول الأفكار بهدوء وروية والمساهمة بحجج يسندها الإطلاع والمعلومات والمنطق السليم"، وهنا يكشف فيلسوفنا عن احترامه وإيمانه بقدرة العقل على جعل الناس من الثقافات المختلفة يقفون على أرضية واحدة. وظل هابرماس على الدوام يكن الاحترام إلى ما أنجزه عصر التنوير في الحقوق الديمقراطية وحقوق الإنسان باعتبار أنها تصدق على كل البشر، ويرفض التعددية الثقافية العدمية المتطرفة التي ولدتها حركة التنوير أيضاً ويصفها بأنها شكل آخر من أشكال الهيمنة الإمبريالية الغربية. وتبنى هابرماس خلال محاضرته في تيلبورخ بعنوان: مجتمع ما بعد العلمانية. ماذا يعني هذا الاصطلاح ؟ نظرة نقدية حادة تجاه فرضية أن التحديث يتلازم مع العلمانية ويقود بالضرورة إلى تهميش دور الدين، خاصة في الفضاء العام. ويقول إن الاعتقاد بأن الدين يختفي تدريجياً خلال عملية التحديث يفتقر للأرضية التي يقوم عليها، ويبدو أننا في الغرب الغني نعيش حالياً في مرحلة مجتمع ‘ما بعد العلمانية‘. الولاياتالمتحدة ينظر هابرماس إلى الولاياتالمتحدة مستشهداً ب " حيوية المجتمعات الدينية الأمريكية والنسبة المئوية الثابتة للمواطنين الأمريكيين المتدينين" على سبيل المثال، ليقول "تظل الولاياتالمتحدة، رغم كل ذلك، رأس الرمح في التحديث". ويوضح أنه وبدلاً من اعتبار ذلك استثناءً في قانون مسيرة العلمانية " فإن الولاياتالمتحدة تبدو حالياً نموذجاً للقاعدة، بينما تبدو العقلانية الغربية، التي كانت في يوم من الأيام تُستخدم كنموذج لباقي العالم، استثناءً بالفعل". ويصف هابرماس، ناظراً إلى ما يمكن اعتباره "انبعاث ديني على مستوى العالم"، من الإرساليات الإنجيلية في أمريكا اللاتينية إلى تقدم التيارات الأرثوذكسية المحافظة في الديانات العالمية الراسخة، يصف النظام في إيران والإرهاب الإسلامي بأنه " لا يعدو كونه مثالاً صارخاً على التفريغ السياسي للعنف الكامن في جميع دياناتنا، حيث تندلع الخلافات المكبوتة ذات الطبيعة الأرضية غير الدينية بمجرد التعبير عنها بمصطلحات دينية. وهذا يصدق على ما يُسمى بإضفاء الطابع الديني على الصراع في الشرق الأوسط، وبحشد اليمين الديني في الولاياتالمتحدة قبل وخلال حرب العراق ". الكنيسة والدولة يقول هابرماس: " صحيح أنه في العصر الراهن أصبح الدين يحصر نفسه في الفعالية المركزية له المتمثلة في الرعاية الكنسية للأتباع، وانزوت ممارسة العقيدة إلى الفضاء الشخصي. وفي نفس الوقت أصبح الدين يكسب نفوذاً على نطاق العالم، وعلى نطاق فضائنا العام أيضاً. كما أصبحت الكنائس والمنظمات الدينية تقوم بشكل متزايد بلعب الدور الذي يمكننا أن نسميه بالتأويل في فضاء مجتمعاتنا العلمانية. وبذلك تستطيع هذه المؤسسات التأثير على الرأي العام بمساهمات ذات علاقة بالقضايا الرئيسية، بغض النظر عن أن الحجج التي تتضمنها هذه المساهمات قادرة على الإقناع أو ليست قادرة". وقاد ذلك هابرماس إلى طرح السؤال: "ما الذي يجب أن نتوقعه من بعضنا البعض من أجل ضمان استمرار الطبيعة المدنية للعلاقات الاجتماعية في دولنا الوطنية المتحصنة جيداً رغم تعدد الثقافات ووجهات النظر الدينية في العالم؟" وللحصول على إجابة لهذا السؤال، يلقي هابرماس نظرة على مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة، الذي انبثق من الحروب الدينية في أوروبا مطلع العصر الحديث. ويقوم بتذكيرنا بأن هذا الفصل لم يتحقق إلا تدريجياً عبر القرون واتخذ شكلاً مختلفاً في كل منظومة قانونية خاصة بكل دولة من دولنا الأوروبية. الديمقراطية في الوقت الذي أصبحت فيه الحكومات تتمتع بطبيعة علمانية، أصبحت الأقليات الدينية تحصل تدريجياً على المزيد من الحقوق. ويلفت هابرماس أذهان مستمعيه إلى أن التسامح في هذه الأيام لا علاقة له باحترام وجهات نظر الآخر وتقديرها، بل لا يعدو كونه، وببساطة، مساومة جماعية عملية تتيح لكل طرف من أطراف النزاع أن يستعصم بموقفه. وقد كانت مهمة الدولة الأساسية بعد الإصلاح البروتستانتي هو تهدئة المجتمع، نزع سلاح الأطراف المتنازعة، والإشراف على تعايشها الهش. وشدد هابرماس على أن هذه الطريقة في العيش قد أثبتت عدم كفايتها، ففي ظل النظام الديمقراطي الذي نشأ نهاية القرن ال 18 عندما أصبحت الدولة تخضع لقوتين: حكم القانون، والإرادة الديمقراطية للشعب " استطاعت هذه الدول الدستورية أن تكفل لمواطنيها فقط المساواة في حرية العقيدة بشرط عدم استمرارهم في التخندق داخل مجتمعاتهم الدينية والانعزال عن بعضهم البعض". وأضاف أنه يُتوقع من كل ثقافة فرعية، في ظل هذا النظام الديمقراطي والدستوري، أن تحرر أتباعها من قبضتها هي نفسها. الحقوق المتساوية ونجيء هنا إلى واحدة من الحجج المركزية في تفكير هابرماس حول التوازن الصحيح في مجتمع ما بعد العلمانية: "الوعي بحقيقة أن الآخر هو عضو في مجتمع جامع لمواطنين لهم حقوق متساوية حيث المواطنة المتساوية والاختلاف الثقافي يكملان بعضهما البعض". ويشير هابرماس، مستشهداً بالوضع في ألمانيا، على سبيل المثال، إلى أنه وطالما ظل عدد كبير من المواطنين الألمان ذوي الأصول التركية والعقيدة الدينية الإسلامية يعيشون بشكل جلي في مجتمعهم القديم أكثر من عيشهم في مجتمعهم الجديد، فإن أصواتهم الانتخابية وآراءهم لا تستطيع التأثير على الفضاء العام أو على قيّم الثقافة السائدة. وفي نفس الوقت يقترح هابرماس أن تتعرض كل من العقليتين الدينية والعلمانية إلى عملية تعلم تكاملية. فبالنسبة للمواطنين المتدينين، يقول هابرماس "يجب عليهم ألا يتواءموا بشكل مصطنع مع النظام الدستوري، إذ يُتوقع منهم أن يلاءموا بين الشرعية العلمانية للمبادئ الدستورية وبين المسلمات الرئيسية لعقيدتهم". وهنا يصل هابرماس إلى القول بأن على المجتمعات الإسلامية أن تخوض نفس تجربة التعلم المؤلمة التي أُجبرت الكنيستين البروتستانتية والكاثوليكية على خوضها، لكنه شدد على: "المجتمعات الدينية الإسلامية هي التي تقرر ما إذا كانت ستصبح قادرة يوماً ما على التعرّف على فهم إصلاحي لعقيدتها". العلمانية ويتساءل هابرماس في نفس الوقت حول ما إذا كان مطلوباً أيضاً أن يخوض الجانب العلماني عملية تعلم مماثلة أيضاً. فإذا استمر المواطنون العلمانيون في تعزيز تحفظاتهم حول الناس ذوي الذهنية الدينية على أنهم أناس لا يمكن أخذهم بجدية، فإنهم يكونون بذلك قد قوضوا القواعد الأساسية للاعتراف المتبادل الذي تقتضيه المشاركة في المواطنية. يقول هابرماس يجب على المواطنين العلمانيين أن يظلوا منفتحين أمام احتمالات أن التعابير الدينية نفسها يمكن أن يكون لها معنى إذا تمت ترجمتها إلى نصوص علمانية. " لا يمكن تحقيق جميع الأشياء بالقرار السياسي وإعمال القانون".