اخترت لكم اليوم المرحوم فرج جمعة رجل التربية والتعليم والنائب في المجلس التأسيسي الاول الذي سن دستورا للجمهورية التونسية وكان كاتبا عاما للشعبة الدستورية بطبلبة وأمينا عاما للجامعة الدستورية بالمهدية. ولد في عائلة محدودة الدخل وحفظ ما تيسر من القران الكريم وانخرط في التعليم الزيتوني وتخرج منه بشهادة التحصيل وعمل في سلك التعليم الابتدائي كمعلم عربية بمدرسة الحاج علي صوة القرآنية بقصر هلال وقضى فيها اكثر من عشرة أعوام يدرس وتخرج على يديه عدد من رجال تلك المدينة وما زال اكثرهم يتذكرونه ويذكرونه بخير ومنهم من عرفت: المنجى الشملي والبشير سعيدان والمنجى الكعلي وقد توفاهم الله، وعمر رورو وحسين الزياتي والهاشمي الكعلي وغيرهم ممن تعذر علي ذكرهم لأني افتقد الى أسمائهم، وأتوجه للأحياء منهم بالتحية واترحم عّمن توفاه الله منهم. اما في طبلبة موطنه الأصلي الذي ولد فيها ونشأ وحسب علمي فكانت له سمعة حسنة وجرأة ومساهمة معتبرة في المجتمع المدني الذي بدأ يظهر في نشر التعليم والتصدي للمستعمر الذي كان آخذا في التغلغل، ويعود له الفضل في إدارة مدرسة الهداية القرآنية التي افتتحت ابوبها في خريف 1946في فضاء مؤقت بسيدي ابن عيسى الكائن بباب الخوخة القريب جدا من مسكن عائلتي التي تقطن بالحي نفسه. وبفضل تلك المدرسة القرآنية التحقت بالتعليم العمومي في سن متقدمة نسبيالان تقاليد عائلتي وقتها لم تكن تسمح بذلك اذ كانت محافظة جدا ولا تقبل لأبنائها تعلم اللغة الفرنسية خوفا عليهم من الانحراف والردة واهمال حفظ القران للانخراط في التعليم الزيتوني. وكان من حظي وقتها انخراط شقيقي الأكبر الشيخ محمد خريج الزيتونة بدرجة العالمية وولي امري بعد وفاة الوالد مفضلا ابقاء الحال على ما هو عليه احتراما للتقاليد، ولكنه بانخراطه هو في التعليم بتلك المدرسة المحدثة لم يشأ ان يرفض مكتفيا بشرط واحد وهو ان اواصل حفظي لكتاب الله بكرة وأصيلا! والمهم بالنسبة للمترجم له نشاطه المكثف في السياسة والترويج للحزب الحر الدستوري وادارته لتلك المدرسة القرآنية بطبلبة كما كان يفعل بقصر هلال التي سبقتها بسنين. كان ذلك كله بواسطة المجتمع المدني الذي بدا ينشط في الشمال والجنوب بهمة وعزيمة، وببناء المدارس في القرى والارياف وتهيئتها والحاقها بإدارة المعارف التي كانت تتكفل بمرتبات المعلمين فيها بنسبة أقل من مرتبات امثالهم في التعليم العمومي وتسمح أيضا للتلامذة باجتياز امتحان الشهادة الابتدائية ومناظرات الدخول للتعليم الثانوي الحكومي بشرط احترام السن الأقصى. ومن خصوصيات تلك الفترة ان فرنسا كانت تعفي المتحصلين على الشهادة الابتدائية من الخدمة العسكرية التي كانت مكروهة لدى العائلات التونسية وقد شجعت تلك الفكرة على إنتشار التعليم للاستفادة من ذلك الاستثناء المقصود. هكذا وجدت نفسي من تلامذة المترجم له هذه المرة ونجحت في امتحان الشهادة الابتدائية في نهاية السنة الدراسية 1951ضمن سبعة من امثالي بعد خمس سنوات عوضا عن ستة وكان ذلك نتيجة للتحدي الذي كانت تقوم به أسرة التعليم وبفضل الخبرة التي امتاز بها مديرها المرحوم فرج جمعه المتحدث عنه في هذه الخاطرة القصيرة. اما ما علمته عنه فيما بعد غيابي عن طبلبة، انه كان من الفاعلين في معركة التحرير الأخيرة واتُهم مع عدد من المناضلين بأحداث 23جانفي 1952 التي وقعت بطبلبة اثر ابعاد بورقيبة وما جرى فيها وأدت الى استشهاد ثمانية من خيرة الرجال والنساء برصاص العسكر الذي تم منعه من المرور من طبلبة وهو ذاهب الى المهدية في المعركة حامية استعمل فيها الرصاص الحي والقنابل المصنوعة محليا. كانت تلك المعركة هي الاولى التي تقع في تونس بعد قطع المفاوضات مع فرنسا وتحديد إقامة الزعيم بورقيبة بطبرقة ولاقت تلك الاحداث صدى عالميا في الصحافة الفرنسية وإذاعة لندن المسموعة وقتها كثيرا وتعرضت بعدها طبلبة الى عملية تمشيط وإيقاف المشتبه فيهم وفتح البلدة للفيف الأجنبي ليعيث فيها فسادا بعد تجميع كل البالغين من الرجال في معسكرات أقيمت مؤقتا لمدة ثلاث ايّام بلياليها في عز الشتاء وبدون اكل او اغطية او بساط وإطلاق الكلاب المدربة تنهش لحم هؤلاء المساكين تحت نظر وقهقهة العسكريين. في تلك الأجواء المشحونة اختفي صاحبنا فرح جمعة عن الأنظار لمدة توقيا من ردة فعل السلطة الفرنسية وتعرضت وقتها عائلته للترويع والإيقاف في مراكز الجندرمة الفرنسية وهو ما اضطره لتسليم نفسه أخيرا طوعا اين تم ايقافه والحكم عليه بالسجن لعدة سنين ولم يخرج الا بعد اعلان فرنسا لحق تونس في تقربر المصير وحكم نفسها بنفسها عملا بما تقرره المواثيق الدولية. تم اختياره بعد الاستقلال مرشحا ضمن قائمة الوحدة القومية للمجلس القومي التأسيسي عن طبلبة وفاز فيها وتعهد بالتوازي بالكتابة العامة لجامعة الحزب بالمهدية التي كانت تعود بالنظر اليها طبلبة في التقسم الاداري وباشر مهامه بالمجلس القومي التأسيسي بعد انتخابه فيه وشارك في كتابة الدستور وتغيير نظام الحكم الملكي الى جمهوري. ولكنه لم يرشحه حزبه للانتخابات الثانية بالرغم من نشر اسمه رسميا في جريدة العمل لسان حال ذلك الحزب لأسباب وتوازنات محلية ووطنية حزت في نفسه وخير من وقتها العودة للتعليم مهنته الأصلية التي كان يحبها كثيرا، ولكن ذلك أبقى في نفسه حسرة لأنه ظلم بدون سبب يذكر ونسي من وقتها السياسة مكتفيا بادرة مدرسة ابتدائية بباب منارة قبل ان ينتقل منها الى مدرسة ابتدائه أخرى بساحة منداس فرنس بالعاصمة بنفس الخطة، وبذلك حرمت طبلبة من حقها المشروع في النيابة وهمشت لمدة بسبب الخلافات التب تعلمت الكثير منها واعتمدت على نفسها ذاتيا بدون نصير حتى باتت قطبا في كل شيء بفضل اجتهاد رجالها المخلصين الذين شرفوها وما زالوا يفعلون. اما صاحبنا المترجم له فقد مرض بالقلب لمدة وتوفي صغيرا وترك عائلة تتركب من خمسة اولاد اكبرهم الحبيب الذي كان يدرس في العالي بينما اخوته الصغار ما زالوا بين الثانوي والابتدائي، واما بناته الثلاثة فكانت أكبرهن زوجتي المفضلة التي رأت وعاشت كل تقلبات السياسة وما جرى لأبيها فقد رافقتي في مسيرتي كلها الطويلة وكرهت مني المجازفة والعمل في تلك المهام الدقيقة، ولكنني لم أرها يوما تبكي مثلما بكت عندما أعلمتها بنيتي القبول بالترشح لمجلس الامة عن طبلبة لدورة وحيدة 81/1979 وعادت بها الذاكرة لما حصل لأبيها من جحود بالرغم مما ناله زمن الكفاح من إبعاد وسجن وتغريب تحملته مع والدتها المرحومة بصبر وعزيمة لكنه بعدها تم تناسي المترجم له وتقدم غيره للحكم والريادة ممن لم يكن يسمع بهم احد زمن الشدة. لذلك أردت ان اكتب واذكر بذلك الرجل العصامي الذي أفنى عمره في خدمة القضية الوطنية وطبلبة وزهد بعدها في كل شيء وتوفي على الفترة وترك عائلة تعيش على تقاعد معلم في الابتدائي لم يكمل المدة، ولكنه حافظ على كرامته لأخر لحظة في حياته ولم يطأطأ راْسه الا لرب العالمين. واني بهذه المناسبة اترحم عليه وأتقدم لأبنائه وبناته الذين لم يشبعوا منه، متمنيا لهم كل خير ونعمة وصحة وأذكًّر بأنهم وجدوا في والدتهم المرحومة سندا متينا وهي من تحملت الترويع والايقاف رهينة مع ابنها الرضيع صلاح الدين الذي أصبح بحمد الله طبيبا وكل ذلك للضغط على زوجها المتخفي وقتها كي يسلم نفسه للسلطة الفرنسية.