وزارة التربية تنشر روزنامة اختبارات الامتحانات الوطنية للسنة الدارسية 2025 /2026    المجلس الجهوي لهيئة الصيادلة بتونس ينظم الدورة 13 للايام الصيدلانية يومي 16 و17 جانفي 2026 بتونس    ادريس آيات يكتب ل«الشروق» .. قمة باماكو التاريخية، والكابتن إبراهيم تراوري يحذّر من الشتاء الأسود .. شتاء الدم أو لماذا لا يريدون للساحل أن ينتصر؟    الإتفاق خلال جلسة عمل مشتركة بين وزارتي السياحة والفلاحة على إحداث لجنة عمل مشتركة وقارة تتولى إقتراح أفكار ترويجية ومتابعة تنفيذها على مدار السنة    كشفها الحكم المؤبّد على قاتل طالبة جامعية في رواد ... صفحات فايسبوكية للتشغيل وراء استدراج الضحايا    استراحة الويكاند    رئيس البرلمان يفتتح مهرجان زيت الزيتون بتبرسق    الليلة: أمطار أحيانا غزيرة بهذه المناطق والحرارة تتراجع إلى 3 درجات    عاجل: 30 ديسمبر آخر أجل لتسوية المطالب الخاصة بالسيارات أو الدراجات النارية (ن.ت)    رئيس مجلس نواب الشعب يشرف على اجتماع المكتب    صلاح يهدي مصر «المنقوصة» فوزا شاقا على جنوب إفريقيا وتأهلا مبكرا إلى ثمن نهائي كأس إفريقيا    فيليب موريس إنترناشونال تطلق جهاز IQOS ILUMA i في تونس دعماً للانتقال نحو مستقبل خالٍ من الدخان    وزارة الفلاحة تدعو البحّارة إلى عدم المجازفة والإبحار الى غاية إستقرار الأحوال الجويّة    نصيحة المحامي منير بن صالحة لكلّ تونسية تفكّر في الطلاق    صادم/ كهل يحتجز فتاتين ويغتصب احداهما..وهذه التفاصيل..    قرقنة تكشف مخزونها التراثي: الحرف الأصيلة تحول إلى مشاريع تنموية    أيام القنطاوي السينمائية: ندوة بعنوان "مالذي تستطيعه السينما العربية أمام العولمة؟"    توزر: تنشيط المدينة بكرنفالات احتفالية في افتتاح الدورة 46 من المهرجان الدولي للواحات    قائمة أضخم حفلات رأس السنة 2026    رئيس جامعة البنوك: تم تاجيل إضراب القطاع إلى ما بعد رأس السنة    السعودية.. الكشف عن اسم وصورة رجل الأمن الذي أنقذ معتمرا من الموت    موضة ألوان 2026 مناسبة لكل الفصول..اعرفي أبرز 5 تريندات    وزارة التربية تنظّم يوما مفتوحا احتفاء بالخط العربي    4 أعراض ما تتجاهلهمش! الي تتطلب استشارة طبية فورية    الكاف : عودة الروح إلى مهرجان صليحة للموسيقى التونسية    صادم : أم تركية ترمي رضيعتها من الطابق الرابع    هام/ الشركة التونسية للملاحة تنتدب..#خبر_عاجل    ممثلون وصناع المحتوى نجوم مسلسل الاسيدون    مقتل شخصين في عملية دهس وطعن شمالي إسرائيل    القيروان: حجز كمية من المواد الغذائية الفاسدة بمحل لبيع الحليب ومشتقاته    نجم المتلوي: لاعب الترجي الرياضي يعزز المجموعة .. والمعد البدني يتراجع عن قراره    تونس والاردن تبحثان على مزيد تطوير التعاون الثنائي بما يخدم الأمن الغذائي    بداية من شهر جانفي 2026.. اعتماد منظومة E-FOPPRODEX    بُشرى للجميع: رمزية 2026 في علم الأرقام    عاجل: هذا ماقاله سامي الطرابلسي قبل ماتش تونس ونيجيريا بيوم    محكمة الاستئناف : تأجيل النظر في قضية "انستالينغو" ليوم 09 جانفي القادم    عاجل/ انفجار داخل مسجد بهذه المنطقة..    جندوبة: انطلاق اشغال المسلك السياحي الموصل الى الحصن الجنوي بطبرقة    إهمال تنظيف هذا الجزء من الغسالة الأوتوماتيك قد يكلفك الكثير    كرة اليد: الترجي الرياضي يستأنف قرار قرار مكتب الرابطة    عاجل: المعهد الوطني للرصد الجوي يعلن إنذار برتقالي اليوم!    تونس: مواطنة أوروبية تختار الإسلام رسميًا!    أفضل دعاء يقال اخر يوم جمعة لسنة 2025    عاجل : لاعب لريال مدريد يسافر إلى المغرب لدعم منتخب عربي في كأس الأمم الإفريقية    هام/ كأس أمم افريقيا: موعد مباراة تونس ونيجيريا..    الرصد الجوّي يُحذّر من أمطار غزيرة بداية من مساء اليوم    استدرجها ثم اغتصبها وانهى حياتها/ جريمة مقتل طالبة برواد: القضاء يصدر حكمه..#خبر_عاجل    كأس أمم إفريقيا "المغرب 2025": برنامج مقابلات اليوم من الجولة الثانية    مصر ضد جنوب إفريقيا اليوم: وقتاش و القنوات الناقلة    البحث عن الذات والإيمان.. اللغة بوابة الحقيقة    نابل: حجز وإتلاف 11طنا و133 كغ من المنتجات الغذائية    رئيس غرفة تجار المصوغ: أسعار الذهب مرشّحة للارتفاع إلى 500 دينار للغرام في 2026    تونس : آخر أجل للعفو الجبائي على العقارات المبنية    عاجل/ مع اقتراب عاصفة جوية: الغاء مئات الرحلات بهذه المطارات..    عاجل/ قتلى وجرحى في اطلاق نار بهذه المنطقة..    أبرز ما جاء لقاء سعيد برئيسي البرلمان ومجلس الجهات..#خبر_عاجل    روسيا تبدأ أولى التجارب للقاح مضادّ للسّرطان    ترامب يعلن شن ضربة عسكرية على "داعش" في نيجيريا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



برنامج للتنمية ومشروع للإصلاح التربوي
مساهمة الاتحاد في بناء الدولة الجديدة: أعدّه: محمد الهادي الأخزوري
نشر في الشعب يوم 23 - 01 - 2010

نعود مرّة أخرى إلى الندوة الوطنية حول: الحركة النقابية خلال الفترة 1952 1956، التي انعقدت أيّام 7 و8 و9 ديسمبر 2009 وحضرها جمهور غفير من المهتمين وذلك بالنظر إلى أهمية المسائل التي طرحت فيها وخاصة منها اطلاع النقابيين على التقرير الاقتصادي والاجتماعي الذي تمّ إعداده بعد اغتيال حشاد باعتباره الوثيقة الأولى التي بنيت عليها الأسس الأولى للتنمية في البلاد التونسية والإلمام بدوافع إنجازه والوقوف على مضمونه وتأثيراته، وعموما التوثيق لهذه التجربة على قاعدة التعمّق في تاريخ الإتحاد والتفكير الجاد في بعث متحف للحركة النقابية إلى جانب التفكير في معهد للثقافة العمّالية وبرامج استشرافية.
وقد شارك في أشغال الندوة من الجانب العلمي الأستاذان، علي المحجوبي أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية والعميد سابقا الذي اهتمّ بالتاريخ المعاصر وقضايا التحرّر الوطني وصاحب عديد المؤلفات في هذا المجال، ومحمود طرشونة أستاذ الادب الحديث بالجامعة التونسية.
وفي مداخلته، توقّف الأستاذ علي المحجوبي عند العوامل التي ساعدت على تأسيس الاتحاد ومنها:
1 التأثير الناجم عن تأسيس جامعة عموم العملة التونسيين الأولى.
2 نمو الحس الوطني في صفوف الشغالين.
3 بداية انقشاع الأزمة الاقتصادية التي عرفتها البلاد خلال الفترة 1936 1944 جرّاء انخفاض المردود الزراعي إلى حدّ تأثرت معه بصفة بالغة القدرة الشرائية للتونسيين كما أبرز المحاضر المبادئ التي انبنت عليها المنظمة منذ بداياتها والمتمثلة في:
1 النضال الاجتماعي بالدفاع عن الحقوق المادية والمعنوية للشغالين.
2 استقلالية النقابة عن أصحاب العمل والدولة والأحزاب السياسية، وقد تواصل هذا التوجّه إلى حدود 1949 حيث تغيّرت نسبيا نظرة حشاد فأصبح مقتنعا بأنّ الإستعمار هو العامل الأساسي لتدهور وضع الشغالين فركّز خلال السنوات الثلاث الأخيرة على النضال الوطني ولعبت منظمته دورا هاما في تنظيم المقاومة المسلحة. في وقت أصبح فيه الاتحاد جماهيريا أكثر من الحزب الحرّ الجديد بحكم تعرّض قياداته إلى الأبعاد والسجون.
وفي هذه الظرفية انخرط الاتحاد في الجامعة الدولية للنقابات الحرّة (السيزل) بناء على قرار مؤتمر مارس 1951 ووظّف هذا الانخراط لدعم القضية الوطنية وقضايا التحرّر الوطني عن طريق ممثله فيها الأستاذ أحمد بن صالح، وقد أفاد هذا الأخير من المدّة التي قضّاها في »بروكسيل« بتلقّي تكوين متين في مجال بناء النقابات وآليات التفاوض والاقتصاد السياسي وأسس التنمية، وعموما انبنى تفكيره على العلاقة القائمة بين التنمية الاقتصادية والرقي الاجتماعي وأهمية أن يدعم النقابات حزب له مشروع مجتمعي على غرار التجربة السويدية التي كانت تقوم على العلاقة العضوية بين النقابة والحزب الديمقراطي الاشتراكي، كما اقتنع أيضا بأهمية النظام التعاقدي في الاقتصاد الرأسمالي لإرساء التوازن الاجتماعي وتكريس مصالح جميع الطبقات.
وبعد اغتيال حشاد بسنتين عاد الرجل بهذا الزاد الى تونس لإعداد المؤتمر الخامس (جويلية 1954) وتزامن ترشيحه على رأس الاتحاد بإلقائه خطابا أمام الباي أقرّ فيه باستقلال تونس، ممّا دعا الاتحاد العام التونسي للشغل إلى تكوين لجنة لإعداد برنامج اقتصادي واجتماعي ترأسها أمينه العام أحمد بن صالح استعدادا لوضع محتوى ومضمون تنموي لاستقلال البلاد، وصادق المؤتمر السادس للإتحاد المنعقد خلال الفترة 20 23 سبتمبر سنة 1956 على هذا البرنامج الذي تمّ عرض مضمونه على مؤتمر الحزب بصفاقس المنعقد في منتصف نوفمبر 1955 فتبنّاه مشروعا مجتمعيا لبناء الدولة الحديثة في إطار جبهة قومية قوامها إلى جانب الحزب الحر الدستوري الإتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والاتحاد القومي للفلاحين، ودُعي الزعيم أحمد بن صالح صاحب المشروع سنة 1961 لتولّي وزارة التخطيط بعد أن تبيّن لبورڤيبة عجز البورجوازية التونسية عن تحقيق الطبقة البورجوازية للتنمية وضرورة تولّي الدولة لهذه المهمّة، فعمل الرجل انطلاقا من البرنامج الاقتصادي والاجتماعي على تحديث الاقتصاد التونسي وتحقيق استقلال البلاد اقتصاديا عن فرنسا فتمّت تونسة أراضي المعمرين بتاريخ 12 ماي 1964 كإجراء مكمّل للجلاء السياسي وأحدثت في 35٪ منها تعاضديات إنتاج في إطار القضاء على تشتّت الملكية الزراعية وتحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي، واستهدف التخطيط القضاء على التفاوت الاجتماعي والتفاوت الجهوي ببعث كثير من الصناعات في عديد الجهات (الفولاذ ببنزرت، الفسفاط بالقصرين، معمل السكر بباجة، النسيج بقصر هلال، الحامض الفسفوري بڤابس... الخ) فضلا عن إحداث موانئ بكثير من المدن الساحلية وإرساء التنظيم العائلي حتى لا تفوق نسبة النمو الديمغرافي نسبة النمو الاقتصادي وإحداث صناديق الضمان الاجتماعي.
إلاّ أنّ هذه التجربة واكبتها سنوات جفاف من ناحية وعراقيل مفتعلة وموضوعية ممّا جعل الرئيس بورڤيبة يلتفّ عليها للإنخراط سنة 1970 في الليبرالية الاقتصادية، ومع ذلك فإنّ إنجازات الستينات بدأت تعطي أكلها خلال السبعينات وتواصلت نتائجها إلى اليوم من خلال المد التعليمي كجزء من البرنامج الاجتماعي للإتحاد الذي تمّ تطبيقه خلال فترة تطبيق المخطط.
وتعقيبا على مداخلة الأستاذ المحجوبي اعتبر الأستاذ محمد الحبيب العزيز أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية بأنّ العمل النقابي هو الوجه الاجتماعي للحركة الوطنية، حيث أصبح الاتحاد أيضا منظمة محورية في بناء الاستقلال وبناء التنمية كما كان مؤسسه فرحات حشاد شخصية محورية أثناء النضال الوطني بين الاتحاد والمنظمات وبين الاتحاد والحزب وبين الاتحاد والعائلة المالكة.
وإثراء للمداخلتين توقّف المشاركون بصفة دقيقة حول الأحداث التي تلت اغتيال حشاد وحتى إمضاء اتفاقيات الاستقلال الداخلي والتي لعب فيها الاتحاد دورا مؤثرا في مختلف محطّات هذا المسار.
من أجل تربية وطنية
أمّا القسم الاجتماعي للتقرير فقد تمّ تناوله من خلال منفّذه الزعيم النقابي والمربّي الأستاذ محمود المسعدي في مداخلة لأستاذ الأدب الحديث بالجامعة التونسية الدكتور محمود طرشونة، خاصة وأنّ برنامج التعليم الذي طبقه المسعدي سبق من حيث الإعداد البرنامج الاقتصادي حيث تبنّاه الاتحاد في مؤتمره الرابع المنعقد سنة 1951.
فقد شخّص محمود المسعدي أوضاع التعليم في عهد الحماية في مقال نشره سنة 1947 في مجلة »المباحث« بعنوان »مشاكلنا الحاضرة في التعليم«. ويظهر من هذا التشخيص أنّ التعليم كان مشتّتا بين أصناف مختلفة من المؤسسات التعليمية لا يوحد بينها شيء، يزداد بعضها أو يتقلّص أو يُحوّر بحسب ضغوط الأهالي والمثقفين على الإدارة الفرنسية لكن دون أن تحيد عن جملة من الثوابت تهدف بالخصوص إلى طمس الشخصية الوطنية وفرض لغة المستعمر وثقافته فضلا عن عدم تمكين جميع الأطفال في سن الدراسة من دخول المدارس.
وقد بَدَا الوضع التعليمي في الأربعينات مُتردّيا وبَدَت محاولات إصلاحه محدودة لأنّها لا تخرج عن الثوابت التي رسمها الاستعمار لترسيخ أقدامه في البلاد:
تعليم عصري مزدوج اللغة نسبيا في المعهد الصادقي الموروث عن مؤسّسه خير الدين التونسي الذي كان يهدف حسب المسعدي »إلى إحياء الثقافة العربية الإسلامية وتلقيحها بالعلوم العصرية وطرق البحث العلمية الحديثة«.
وكان للصادقيّة شهادتها الخاصة هي شهادة »انتهاء الدراسة الثانوية بالمدرسة الصادقية«. وكان الإقبال عليها كبيرا الاّ أنّ طاقة استيعابها كانت محدودة جدّا. وقد تدخلت فرنسا في لغة التعليم بها فجعلتها بالفرنسية مع ساعات محدودة للغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي وجلعتها تُعدّ التلامذة إلى امتحان الباكالوريا على غرار معهد كَارْنُو الفرنسي الصرّف حيث تدرّس العربية الدارجة اختياريا ضمن اللغات الأجنبية كالانڤليزية والايطالية »وهكذا قُضي على فكرة خيرالدين«.
وفي مقابل هذا التعليم العصري كانت توجد الكتاتيب والمدارس القرآنية والتعليم الزيتوني التقليدي »وكلّها مؤسسات لم يدخلها من الروح العصرية شيء« كما يقول المسعدي.
وبين هذين النظامين كان يوجد معهد الخلدونية الذي أسسه البشير صفر، ومعهد ابن خلدون الخاص. ثمّ أنشأت الحماية تحت ضغط الأولياء »مدرسة ثانوية على شاكلة الصادقية« ومدرسة ترشيح معلمات العربية على غرار مدرسة ترشيح المعلمين، ومعهد »إميل لوبي« للتعليم التقني وجملة من مراكز التعليم الصناعي والمهني. ولكن المدارس الابتدائية التي أُنشئت على شاكلة المدارس الفرنسية لم تكن قادرة على استيعاب الثمانمائة ألف طفل تونسي الذين تتراوح أعمارهم بين سنّ الخامسة والعشرين. فلم يتمكّن من الإلتحاق بها غير أربعين ألف تلميذ، وللإستجابة إلى مطلب وطني في تعميم التعليم الابتدائي وُضع في الثلاثينات برنامج ينصّ على ثلاث سنوات تحضيرية تُفضي إمّا إلى تعليم ابتدائي حقيقي بالنسبة إلى أنجب التلامذة أو إلى تعليم يدوي تطبيقي كالفلاحة مثلا يقوم به »عمّال أكفاء«. وقد اثار هذا البرنامج ضجّة أجبرت الحماية على سحبه ورحل صاحبه. وفي الأربعينات اقترح مشروع ثانٍ للخروج من الأزمة لا يعمد إلى الزيادة في المدارس الابتدائية كما يطالب به الأولياء بل عمد إلى احداث »مراكز التعليم الصناعي والمهني«. وهذا يختلف عن المطلب الوطني المطالب بتخريج المثقفين والتخلّص من هيمنة اللغة الفرنسية. وفي كلّ مرّة تتظاهر الإدارة بالاستجابة، فتحدث مثلا باكالوريا عربية في الخلدونية ولكن المسعدي يعتبرها مزيّفة إذ ليس لها من العربية غير الإسم، كما أنشأت »معهد الدراسات العليا« متفرّعا عن جامعة باريس وجعلت فيه إجازة بالعربية من ضمن إجازاته الأربع. وقد تبيّن أنّ كلّ هذه الإصلاحات كانت تهدف إلى امتصاص غضب الشعب لكن مع المحافظة على الثوابت المتمثلة أساسا في »سياسة الاندماج الثقافي« و»التجنيس الذهني« رغم ادّعاء القيام برسالة لنشر الحضارة والتمدّن.
وهذا بالذات ما أثار غضب نقابتي التعليم الابتدائي والثانوي فأصدرتا لائحة في الموضوع تنتقد تطويل التعليم الابتدائي تطويلا يمنع من وصول جلّ التلاميذ إلى الثانوي.
أمّا التعليم الزيتوني فيبدو أنّ إدارة الحماية كانت تشجع عليه إذ أحدثت ما لا يقلّ عن ثلاثة وعشرين فرعا لجامعة الزيتونة مبثوثة في مختلف جهات الإيالة. ويبدو حسب تحليل المسعدي أنّ الاستعمار كان يهدف من وراء ذلك إلى إظهار ضعف التعليم الزيتوني وحثّ الناس على الأخذ بلغة فرنسا وثقافتها وعلومها.
»وكان التعليم الزيتوني يغلب عليه تعليم النحو والصرف والبلاغة وتعليم الفقه، وأقلُّ شيء كان فيه هو ما يربط بالعبادات ممّا له صلة بالإيمان. وقد بقيت أمورا شكلية إذ أكثر ما يدرس من عبادات قواعد الصلاة والصوم والزكاة وغيرها دون التفات إلى الروح التي هي وراء كلّ ذلك، والتي هي أساس الثقافة الدينية [...] وكذلك [لم يلتفت] إلى العلوم الصحيحة فكان [الاستعمار] يفضّل أن يشجّع هذا النوع من التعليم الذي ليس له من القوّة التي تخلق المستقبل بل فيه محافظة على الماضي ووقوف عند ذلك الحدّ.
ولهذه الأسباب اهتمّ المسعدي بإصلاح التعليم الزيتوني وجعله ضمن أولويّاته بعد الاستقلال كما سنرى.
ذلك إذن هو المشهد التربوي في عهد الحماية الفرنسية، فيه من الثغرات والنقائص ما يدفع الأولياء والمربين إلى مقاومته بكل الوسائل وقد اختار المسعدي العمل النقابي للرفع من شأن التربية والمربّين، فانخرط في الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1948 أي بُعيْد تأسيسه، وترأس الجامعة القومية لنقابات التعليم وكانت تضمّ نقابة التعليم الابتدائي القوية بكثرة منخرطيها، ونقابة التعليم الثانوي الضعيفة بقلّة الأساتذة التونسيين في ذلك الوقت، كما كان عضو اللجنة التنفيذية للأمانة المهنية العالمية للتعليم (1951 1955). وقد ترأس يوم اغتيال فرحات في 5 ديسمبر 1952 بصفته النائب الثاني للأمين العام للإتحاد في غياب النائب الأوّل النوري البودالي الموجود في مهمّة بالخارج ولكن تولّيه الأمانة العامة لم يدم أكثر من يوم واحد إذ اعتقلته الشرطة الفرنسية وأبعدته إلى برج النعام بالجنوب التونسي ولم تفرج عنه إلاّ بتدخل من »السيزل« في ماي 1953 للمشاركة في مؤتمرها »بستوكهولم« كما هو معلوم.
وينبغي أن نلاحظ أنّ العمل النقابي في مجال التعليم لم يكن يهدف إلى تحسين الأجور والرفع من القدرة الشرائية كما هي الحال بعد ذلك بل إلى الدفاع عن حقّ التونسيين في التعليم من جهة، وتعصير التعليم الموجود في تلك الفترة وإصلاح برامجه تأصيلا لكيان تونس وتجذيرها في ثقافتها العربية الإسلامية وتخليصها من محاولات طمس هويّتها وفرض التجنيس الذهني عليها عن طريق فرض اللغة الفرنسية في تدريس جميع الموادّ. ولاشك أن أحوج المؤسسات التعليمية إلى التعصير والإصلاح كان بلا شك التعليم الزيتوني. وهناك شهادة للمسعدي تثبت اهتمام الاتحاد العام التونسي للشغل بهذا التعصير ومشاركة المسعدي في اللجان المكوّنة لهذا الغرض. يقول: »فكنّا في ذلك الوقت إذن نحاول أن نخرج بالتعليم من حالته تلك، فشاركت شخصيا بصفتي مدرّسا في أعمال لجان الاتحاد العام التونسي للشغل التي أُحْدثت مرّتين أو ثلاثا لتعصير التعليم الزيتوني فوضعنا برامج لإحداث مدرسة خاصة بالتعليم العصري واستعنّا بإخوان مدرسين كالأستاذ أحمد الفاني في الفيزياء والكيمياء والأستاذ عبد السلام الكناني والأستاذ بشير قوشة وغيرهم ليقوموا بالتدريس في ذلك القسم العصري من التعليم الزيتوني باللغة العربية«.
ويقول أيضا بخصوص السعي إلى إدراج الأدب العربي في برامج الصادقية وتدريسه بطرق عصرية:« كنت أريد في الوقت الذي فرضنا فيه على الاستعمار إدخال برنامج تدريس الآداب العربية في المدرسة الصادقية تدريسا يضاهي التدريس الذي كان يقوم به الفرنسيون للآداب الفرنسية«.
ديمقراطية التعليم وإصلاحه
بعد المسلك النقابي قبل الاستقلال كان المسلك الحكومي بعده فرصة لتطبيق الإصلاحات التي دعا إليها المسعدي في لوائح اتحاد الشغل وبرامجه. والمدّة التي قضّاها مديرا للتعليم الثانوي بوزارة المعارف ومتفقّدا عامّا للتعليم الثانوي (1955 1958) مكّنته من معرفة قضايا التعليم من الداخل ويسّرت له لمّا تولّى وزارة التربية القومية من 1958 إلى 1968 التفكير في مشروع »الإصلاح التربوي« و»التخطيط العشري« لإصلاح التعليم وتعميمه بالتدريج وكذلك من تأسيس نواة الجامعة التونسية سنة 1960 في نطاق تنظيم هيكلي للتعليم يشمل المستويات الثلاثة الابتدائي والثانوي والعالي. وقد حافظ على نفس الأهداف التي عمل على تحقيقها في إطار الإتحاد وهي تأسيس تربية قومية تونسية بالمعنى الصحيح « تُولي أهمّية للّغة العربية كردّ فعل طبيعي على إرادة طمسها وقت الحماية مع التفتّح على علوم العصر وثقافاته:« وكان من حظّي أن كُلّفت بوزارة التعليم فوضعت ما سمّيناه »البرنامج القومي للتعليم التونسي« ويتضمّن المحافظة أساسا على عنصري ثقافتنا القومية: الإسلام والعريبة لكن مع تفتّح كامل على الحضارة العصرية والثقافة الإنسانية«. أمّا التشتّت الذي سبق تشخيصُه فقد اقتضى »توحيد نظام المؤسسات التربوية ومناهج التعليم فيها »والقصد من ذ لك بالطبع هو إصلاح التعليم الزيتوني وإدماجه في صلب التعليم الوطني. وتتمثّل الغاية الثالثة في ديمقراطية التعليم أي جعله في متناول كلّ طفل تونسي بلغ سنّ الدراسة. وهو لم يكن بالأمر الهيّن نظرا إلى نقص إطار التدريس وغياب البنية التحتية الأساسية. وقد تضمّن التخطيط العشري إدماج 000.65 طفل سنويّا لاستيعاب ما يقارب السبعمائة ألف تلميذ في نهاية المخطّط. وكان الشعب التونسي في نهاية الخمسينات حديث عهد بالحركة الوطنية وبالإستقلال فكان شديد التحمّس للتطوّع ببناء المدارس في الأرياف خاصة. وقد دُعي في وقت من الأوقات إلى التوقّف عن البناء بسبب نقص المعلّمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.