قبل كل شيء ومهما تكن كلمات وجمل وفواصل ومقاطع هذا المقال ناقدة ومؤلمة وموجعة للاذاعة التونسية فإني اتوجه اليها باعتباري احد التونسيين الذين هم لها من السماعين ولبرامجها من الذواقين منذ عشرات السنين باحر التهاني واطيب الاماني في عيدها الثمانين، ولكن هذه التهنئة الأدبية الضرورية لا تمنعني من ان اقول لها باللسان العربي الفصيح المبين ان برامجك يصدق فيها قول القائلين إلى الفاشلين الواعين او غير الواعين بالمفيد والمختصر(الى الوراء سر)… فمنذ ان فقدت هذه الاذاعة وودعت رعيلها وجيلها الأول من عمالقة الإذاعيين اوالمذيعين وهي تفقد كل يوم ما شاء الله من المستمعين واني لست ادري هل شعرت بوضعها المؤلم المؤسف اليوم وهي فاقدة لمثل تك البرامج الممتازة السابقة الثرية التي كان يؤثثها فيها نخبة من العملاقة ومن النجوم الإذاعية من ذوي العلم والأدب والفكر والثقافة العميقة الحقيقية والإبداعات الفنية والموهبة الربانية والأصوات الجميلة الشجية من أمثال حمودة معالي وعبد المجيد بن جدو وعبد العزيز الرياحي وبوراوي بن عبد العزيز وجعفر ماجد والحبيب شيبوب والحبيب الجنحاني ومليكة بن خامسة ونجوى وهند عزوز وناجية ثامر والسيدة علية والمنجي الشملي الذين كانوا يجتهدون ويبدعون ويمتعون المستمعين ببرامج تشنف الآذان وتدخل القلوب بلا استئذان او كما يقول اخوانا المصريون «بلا إحم» ولا دستور… فهل مازلنا نسمع في الاذاعة الوطنية في سنواتها الأخيرة الضعيفة العجيفة برامج من نوع وطينة ما تسمعه اليوم تقراه غدا وشعر الكفاح في عهد الحماية والأسرة البيضاء وليالي عربية واغنية وقصيد ومع الأدباء الناشئين ومن هواة الادب وحصة المراة وحكايات وسمر عبد العزيز العروي وتمثلية الثلاثاء؟ لقد اقتصرت برامج اذاعتنا في هذه السنوات الاخيرة اي منذ فقدان اولائك النجوم اللامعين تقريبا وبلا استثناء على مذيع او مذيعة امام الميكروفون وهو او وهما يهذيان ويتشدقان ويلوكان مواضيع عادية ليس فيها شيء من الثقافة ولا من التربية ولا من التاريخ ولا من الأدب ولا من العلم المفيد ولا من بقية الفنون ولو اردنا ان نلخص برامج اذاعتنا الوطنية اليوم بجملة مختصرة جامعة لقلنا بكل صراحة وابانة انها كلها تحوم حول قولهم(الو عسلامة اشكون معانا) ولا شك ان تكرار هذه الجملة من الصباح الى المساء ومن الشروق الى الغروب في كل برامج الاذاعة تقريبا دون استثناء تجعل السامعين يقولون ويرددون ذلك المثل التونسي المعروف لدى الكبار والصغار والرجال والنساء وفي جميع الفئات وجميع الأوساط (كثر من العسل يمساط)… ولب القول وفحوى المقال باختصار ان الاذاعة الوطنية قد فقدت اليوم لدى المثقفين الحقيقيين في داخل وخارج هذه البلاد سمعتها وصيتها ومكانته التي ذهبت مع ذهاب ومع رحيل رعيلها وجيلها الأول من المبدعين والذين عجز عن تعويضهم من في دارها اليوم من المذيعين ومن المنشطين واصبحت في حالة ووضعية هشة طاوية خاوية نابية يصدق فيها قول جحا وهو يتكلم عن محتوى جرته او قلته امام السامعين والتي ظن الناس انها مليئة بالعسل المصفى الممدوح في كتاب رب العالمين (انها صبعين وتلحق الطين)...