عاد الهدوء بنسبة كبيرة للشارع التونسي كما بدأت الدورة الإقتصادية تنشط وتتعافي بالعودة للعمل والإستقرار على مستوى الإنتاج في مختلف المستويات، والمطلوب هو أن يزداد نسق هذا التوجه وتعود الثقة لدى الأوساط الإقتصادية المستثمرة في الداخل والخارج... وفي ظل عودة الهدوء شيئا فشيئا تنشط الساحة السياسية بشكل ملفت للإنتباه سواء على مستوى تفعيل الإصلاحات الجديدة التي تهم حرّية الصحافة وحرّية العمل السياسي وترسيخ مبادئ حقوق الإنسان والديموقراطية أو على مستوى تكوين الأحزاب الجديدة وظهور تيارات سياسية متعددة ومختلفة وكذلك بداية تبلور المنافسات الإنتخابية وخاصّة بالنسبة للإنتخابات الرئاسية... إلاّ أن الحديث عن هذه الإنتخابات بالذات مازال سابقا لأوانه في إنتظار ما ستسفر عنه أعمال لجنة الاصلاحات السياسية... أما ما يعتبر الآن موضوع الساعة فهو ما يخصّ: أولا: المجلس الوطني لحماية الثورة ثانيا: النقاش اليومي في العديد من المنتديات والندوات حول نوعية النظام السياسي المطلوب بعد الثورة: هل نبقي على النظام الرئاسي؟ أم ننتقل مباشرة إلى النظام البرلماني؟ أم نختار نظام المزج بين الرئاسي والبرلماني؟ ويبدو بالنسبة لمسألة مجلس حماية الثورة أن هناك إختلافا قائما بين عدّة تيارات فاعلة على الساحة السياسية ومكونات المجلس من أحزاب ومنظمات وممثلين عن المجتمع المدني، في حين أعلنت الحكومة المؤقتة رفضها لبعث هذا المجلس لأن فيه تهميش لدور هذه الحكومة... و من جهة ثانية لم تخف بعض الأحزاب المشاركة في الحكومة المؤقتة موقفها الرافض كذلك... وينتظر أن يدفع أصحاب المبادرة الأمر إلى الأمام بعرض المشروع على رئيس الدولة المؤقت السيد فؤاد المبزع في شكل وثيقة تأسيس وإتخاذ القرار النهائي على ضوء حصيلة الإتصال مع الرئيس... وبقطع النظر عما ستستقر عليه قضية مجلس حماية الثورة فإن الأمر لا يخلو من بعض الخلفيات التي لا يمكن إنكارها و في طليعتها الخوف على مكاسب الثورة من محاولات إستغلالها أو الالتفاف عليها... والخوف من رتابة العودة إلى الحياة الطبيعية التي قد تضعف بسببها عملية مراقبة إحترام مكاسب الثورة في كل المستويات، كما لا يخلو الأمر من وجود حسابات سياسية فيها ما يتعلق برغبة بعض الأطراف جني ثمار نضالاتها وفيها ما يتعلّق بترسيخ التموقع الشعبي لبعض الأطراف الأخرى وفيها ما يتعلق ببرامج إنتخابية سواء بالنسبة للإنتخابات الرئاسية أو الإنتخابات التشريعية. وإذا كان أمر الرقابة سهلا نوعا ما إذ أن عودة الروح للإعلام التونسي من شانه أن يمثل ضمانة مؤكدة لحماية مكاسب الثورة في ظل حرية التعبير... كما أن تكريس القضاء المستقل والمحايد يعزّز مثل هذه الرقابة بشكل كبير ويرسم لكل التصرفات حدودا لا يمكن تجاوزها دون عقاب فإن مسألة الخلفيات لا يمكن بأي حال إلا التصرّف معها بحكمة ودبلوماسية إذ أن لكل الحق في الطموح لتحقيق أهدافه لكن لا بدّ من الخضوع إلى رأي الأغلبية واللجوء إلى الطرق القانونية وعلى هذا الأساس تتأكد ضرورة إستشارة كافة الأطراف بخصوص مسألة مجلس حماية الثورة وأن يكون هناك توافق تام نظرا لحساسية هذه المسألة والدور الذي يمكن أن يوكل للمجلس، ولا يجب أن يبقى أي طرف خارج دائرة التوافق المطلوب خاصة إذا كان طرفا مؤثرا وفاعلا على الساحة السياسية والحقوقية مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان (التي قررت الالتحاق بالمجموعة الداعية لبعث المجلس) ومثل الأحزاب التي برزت أكثر من غيرها بنضالاتها قبل الثورة ودورها أثناء الثورة مثل الحزب التقدمي الديمقراطي وحزب التجديد،، ثم لا ننسى أن للحكومة المؤقتة كلمتها التي لا يمكن المرور عليها مرّ الكرام فهي التي ستتعامل أكثر من غيرها مع مجلس حماية الثورة في صورة ما إذا تم بعثه بصفة رسمية... كما لا يجب أن ننسى وجود مبادرات قيمة وتستحق الدرس وهي كفيلة بحماية مكاسب الثورة من ذلك الدعوة الملحة لإنشاء مجلس تأسيسي لكتابة دستور جديد يستجيب لمتطلبات الثورة وحتى لا تدخل البلاد في أزمة دستورية وفراغ سياسي مع حلول موعد 15 مارس القادم أما بخصوص القضية الثانية المطروحة الآن على الساحة السياسية والمتعلقة بإختيار النظام السياسي الملائم لتونس بعد الثورة، فهي مسألة في غاية الأهمية ولا بد أن لا تخضع فقط للدراسة القانونية بل من البديهي ربّما أن يقول علماء الإجتماع والإقتصاد والفلسفة كلمتهم فيها نظرا لما للنظام السياسي من علاقة وطيدة بطبيعة الشعب وميولاته وأسلوب عيشة ودرجة وعيه وتاريخه و أوضاعه المادية من ثروة طبيعية وبشرية، لأنّ تنظيم الإنتخابات ومراقبتها وفرز نتائجها يتطلب مصاريف طائلة لا يمكن لدولة ليس لها ثروة طبيعية كبيرة وإمكانيات مادية كثيرة أن تتحملها كل ستة أشهر أو كل عام أو حتى كل عامين فلا بد من التفكير في هذه الإشكاليات وطرحها على بساط الدرس والبحث في نفس الوقت الذي يتم فيه الدرس والبحث على المستوى القانوني...مع ملاحظة وجود ميل كبير من طرف العديد من مكونات المجتمع المدني وكذلك لدى رجال القانون المختصين والعديد من المفكرين والمثقفين نحو النظام البرلماني باعتباره النظام الكفيل بتحقيق التوازن بين جميع السلط ويضع حدّا للإنفراد بالسلطة ويكرس سيادة الشعب إن هذا الحراك السياسي بكل تشعباته الهامة والبسيطة يؤكد أن حصول الثورة ونجاحها وإن كان يمثل الخطوة الصعبة فإنه لا يشكل نهاية في حدّ ذاته بل أن مرحلة ما بعد الثورة لها أهميتها الخاصّة كذلك فهي مرحلة الخوف على الثورة التي تتطلب يقظة ووعي وتوافق وتطهير مقنّن وهادئ.... ****************** وإذ نخاف اليوم جميعا على الثورة ومكاسبها الجمّة وما حققته لتونس من إشعاع دولي لم يسبق له مثيل في تاريخها الحديث فإننا لا ننسى أن هناك أيضا خوفا من الثورة ينتاب بعض التونسيين ويجول بخاطر العديد من المحللين والمتابعين للأحداث المتتالية التي تشهدها الساحة التونسية منذ إندلعت الشرارة الأولى في ربوع سيدي بوزيد وكانت الشرارة التي ألهبت جسد البطل محمد البوعزيزي ثم كانت القطرة التي منها إنهمر سيل نار الثورة في كل ربوع الوطن ثم في أرجاء العالم العربي بداية من الشقيقة مصر... الذين يخافون من الثورة اليوم هم أولئك الذين يشعرون بأنهم مستهدفون للإقصاء تحت ذلك الوابل من الخطابات النارية والدعوات القاسية... وهم الذين تعطلت مصالحهم كثيرا وأصبحت مهدّدة بالوبال والويل والثبور وهي مصالح إذا ما تواصل تعطلها بهذا الشكل فإنها ستؤدي إلى إنهيار إقتصاد البلاد برمته لأنها تشكل ركنا من أركانه وحجرا أساسيا من بنائه،،، وهم أولئك الذين يتعرضون إلى سلبيات وإنعكاسات الإنفلات الأمني الذي بدأ يتراجع بشكل واضح والحمد لله، لكنه ترك مكانه للإنفلات الرقابي والقانوني ممن حدثتهم أنفسهم بأن الوقت مناسب للاستيلاء على أملاك الناس من أراضي وبناءات ومساكن وخرق القوانين المنظمة للانتصاب والتجارة وتعاطي بعض الخدمات وممارسة التهديد وحتى الإرهاب والعنف وقطع أرزاق الناس. هناك خوف من أشياء كثيرة ولعل في مقدمتها الخوف من المغالاة في إستعمال ما جاءت به الثورة من مكاسب عظيمة مثل الحرية التي قد تخرج البعض في تصرفاتهم عن نطاق القانون والمعقول والمسموح به وعن بعض الثوابت التي لا تساوم فيها أغلبية الشعب التونسي مثل التسامح والتفتح والتفاعل الإيجابي مع كافة ثقافات العالم المتحضر. هناك خوف مشروع اليوم من الإنفلات الإعلامي والفراغ السياسي وبروز تصرّف من نوع جديد لا عهد لنا به . وهناك خوف تسمعه يوميا على ألسنة المحللين السياسيين وعلماء الإجتماع والتاريخ والفلسفة وغيرهم وهو خوف على الثوابت وعلى الاقتصاد والإنتاج ومستقبل بعض القطاعات المؤثرة في البلاد مثل السياحة وخوف على الوفاق الوطني الذي لا بدّ أن يبرز للعيان في أسرع وقت حول مكاسب الثورة وأبعادها ومستقبلها وحول محتوى الإصلاحات السياسية المنتظرة التي ستعطي وجها جديدا ومغايرا لبلادنا عنوانه الحرية والديمقراطية والمساواة والتضامن بين جميع مكونات المجتمع وفئاته... المطلوب من كل التونسيين اليوم أن يتعاونوا على تبديد مظاهر هذا الخوف وإزالة أسبابه وبعث الطمأنينة في جميع النفوس لأن تونس عزيزة علينا جميعا وهي لكل التونسيين وثورتها تسكن في أفئدتنا صغارا وكبارا رجالا ونساء. بقلم: الأستاذ عبد السلام الحاج قاسم