هو كتاب من الحجم الصغير عدد صفحاته 37 صفحة تم العثور عليه ضمن الآثار التي خلفها أحمد الدرعي ( 1902 / 1965 نقابي من جماعة محمد علي الحامي، زيتوني من رجال التحديث الاجتماعي ومن دعاة الاجتهاد وإعمال الفكر كان منتصرا لأفكار الحداد التحررية ) صديق الطاهر الحداد وقد تولت ابنته الأستاذة كلثوم المزيو تسليمه مع مخطوطات أخرى إلى المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون " بيت الحكمة " الذي تولى نشره منذ أشهر قليلة ويرجح أن الطاهر الحداد قد كتبه بعد الهجمة التي تعرض إليها والمحنة التي طالته إثر نشره لكتابه " امرأتنا في الشريعة والمجتمع " الذي أحدث ضجة في المجتمع التونسي في ثلاثينات القرن الماضي وجلب له سخط المؤسسة الدينية المتحكمة وذلك على ما رجحه الدكتور عبد المجيد الشرفي الذي كتب مقدمته مستندا إلى الإشارات التي وردت في آخر النص والتي تتحدث عن تحامل رجال الدين على المجددين ونحن نوافقه فيما ذهب إليه في تحديد تاريخ كتابته حيث أن هذا المخطوط وإن كان لا يحمل تاريخا محددا يضبط زمن كتابته إلا أنه من خلال الأسلوب الذي اتبعه والألفاظ التي استعملها وطريقة الكتابة التي توخاها فإن كل ذلك يوحي لنا بأن الرجل قد كتب كتابه هذا بعد كتابه الأول حول المرأة وتجعلنا نميل إلى أن الحداد قد كتبه و هو في حالة نفسية غاضبة وساخطة على معارضيه من مشايخ عصره الذين كالوا له شتى التهم ومن العامة الذين استعملتهم المنظومة الفقهية السائدة للتصدي له وإسكاته. ما يميز هذا المخطوط الذي رأي النور اليوم هو أنه رغم صغر حجمه إلا أنه كبير في معانيه وقوي في مضمونه ومختلف في أسلوبه ومنهجه عما كتبه الحداد وهو فريد في مجاله فالحداد قد استعاد فيه نفس شواغله الفكرية ونفس هواجسه الاصلاحية وهي المشكلة الاجتماعية وقضية واقع المرأة ومكانة الأنثى في المجتمع التونسي في الثلاثينات من القرن الماضي غير أنه استعمل طريقة في الكتابة مختلفة في الرد على معارضيه وأسلوبا بديعا وطريفا في الآن نفسه في انتقاد مشايخ عصره ووظف التورية والمقابلة والاستعارة والتلاعب بالضمائر غير أن الميزة الأولى التي طغت على الكتاب ليست في هذا فقط بل في استعمال الحداد أسلوب السخرية وتقنية التهكم في نقده لفقهاء عصره ومهاجمة الفكر المتكلس الذي لا يريد أصحابه أن يتطوروا وانتقاده للمنظومة الدينية التي وراءها مشايخ يأبون التجديد ويروجون لتدين عقيم ولفقه قد تجاوزه العصر وأضر كثيرا بجوهر الدين وقدم صورة سيئة عن المرأة والرجل معا. لقد تفطن الحداد في هذا الكتاب إلى أن من انتقدهم من مشايخ الزيتونة ومن احتكروا الحديث والتكلم باسم الدين وتصدروا للتحليل والتحريم لا يفيد معهم التكلم بلغة الفكر والعلم والمعرفة كما فعل في كتابه امرأتنا في الشريعة والمجتمع ومناقشتهم مناقشة فكرية رصينة ومتزنة لإقناعهم بضرورة إصلاح المجتمع الذي يبدأ بإصلاح حال المرأة المدخل الرئيسي للنهضة والتقدم والخروج من حالة التخلف .. فهم الحداد أنه لا يصلح معهم كل ذلك فغير من أسلوبه واستعمل تقنية السخرية والإضحاك والتهكم وهاجمهم من داخل منظومتهم وفضح تناقضاتهم وأنانيتهم فجاء كتابه هذا مشبعا بالسخرية والتهكم ومكثفا من الاضحاك والتحقير بأسلوب في الكتابة بديع للغاية فيه من الطرافة والمتانة ما يجعلك تعتقد أنك أمام مسرحية بممثل واحد الحداد بطلها وهو ينتقل على الركح من دور إلى آخر ومن التحدث على لسان أصحاب الجمود والرافضين تطوير أفكارهم إلى الحديث على لسان مناصري التغيير والتجديد وهو في انتقاله من دور إلى دور بطريقة سلسة وهادئة تربك فهمك عمن يتكلم الحداد وهي تقنية جميلة في الكتابة وجديدة في مجال النقد الاجتماعي باستعمال تقنية السخرية للمقاومة الاجتماعية والتهكم أسلوبا للتصدي إلى معارضيه ونشر أفكاره الاصلاحية. تفطن الحداد مبكرا وبعد الرفض الكبير والصد العنيف الذي تعرض إليهما بعد نشره لكتابه امرأتنا في الشريعة والمجتمع أن أصل المشكل الذي تعاني منه البلاد وأصل الداء الذي يعيقها عن تحقيق التقدم ويمنعها من التخلص من حالة الضعف والتخلف والانتقال إلى أفق جديد أرحب من تضيق الفقهاء هو هذا الصراع الحرن بين الجمود والتجديد والصراع بين القديم والجديد و الصراع بين دعاة الجمود والتسمر في المكان والزمان والفكر وادعاء أن في التجديد ضياع للدين وموته وبين أصحاب التجديد والاجتهاد من الذين يؤمنون بأن قوة الإسلام في قدرته على التقدم وتجاوز الاكراهات وقدرته على مواكبة المستحدث من الأمور وأنه من دون ذلك فإننا نكون قد حكمنا على الدين بالفناء لذلك نجد الحداد في هذا الكتاب قد عنون كتابه " بالجمود والتجديد في قوتهما " للدلالة على أن المشكلة في عالمنا الإسلامي والتي تمنعنا من التقدم هي هذا الصراع المرير بين قويتين لم تقدر أحداهما أن تحسم المعركة لصالحها و صراع بين عقليتين وحرب بين منظومتين لفهم الدين استحال إلى اليوم انهاءها وصراع بين صورتين من التدين كل واحدة تدعي أنها من تملك الحقيقة و تمتلك الصواب وأنها هي المحقة وأن غيرها على باطل وهذا الصراع هو صراع مدمر يجعل المجتمع يراوح مكانه ولا يتقدم لذلك نجد القضايا التي يطرحها الحداد منذ الثلاثينات من القرن الماضي لا تزال هي نفسها تناقش إلى اليوم وكأن الحداد قد طرحها في الآن وذلك بسبب عجزنا عن حسم هذا الصراع وانهاء هذه الحرب بين ثنائيتين تمتلك كل واحدة منهما قوتها الداخلية ومنطقها الذي تنتصر له وطالما لم نحسم هذا الصراع لصالح أحد الاتجاهين فإننا سنظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها نعاني من تداعيات هذا الصراع الذي أبرزه الحداد بكل دقة وقال أنه سبب تأخرنا . في هذا الكتاب غير الحداد طريقته في التعامل مع فقهاء عصره وغير من أسلوبه في انتقاد الفكر السائد والمنظومة الفقهية المتحكمة والمؤثرة والتي اتضح أنها هي سبب تراجعنا الحضاري وغير من منهجية نشر مشروعه الإصلاحي للمجتمع من خلال استعمال أسلوب السخرية والتهكم من مشايخ عصره ومناقشتهم من داخل المنظومة الفقهية في محاولة لإضحاك الناس عليهم وإظهار تهافت منطقهم وضعف حجتهم وزيف ادعائهم نصرة الاسلام والحال أنهم بما ينشرونه إنما يخدمون رغباتهم ونزواتهم وبذلك يسيئون للإسلام الذي منعوا عنه التطور والتغير والتجدد . بأسلوب ساخر يسائل الحداد المشايخ الذين يتعرضون له عن الصورة الهجينة التي قدموها في منظومة فقهم عن الرجل الذي صوروه فقهيا على أنه رجل شهواني ويلهث وراء المتع الجنسية وهاجسه المرأة فالرجل في المنظومة الفقهية السائدة وفي الشريعة التي تنتصر لها العامة له الحق في أن يتزوج ما طاب له من النساء مثنى وثلاث ورباع وهو صاحب الحق في توفير شرط العدل بينهن وله الحق متى سئم من هؤلاء الزوجات أن يستبدلها بما استطاب له من دون أدنى حرج من منظور أن الدين في نظر الشريعة يسر ولا عسر وإذا ضاق ذرعا من الأربع جعل له الفقهاء طريقا آخر لا يعرف الحد في الإماء والجواري وملك اليمين فالإسلام في فهم الفقهاء قد أباح الرق من أجل أن يفتح باب المتع على مصراعيه وهي متع منحها الدين للرجل من وراء اباحته للعبودية والرق وحتى الطلاق إنما يسروه وجعلوه في متناول الرجل وبإمرته من أجل حب التنويع في اللذة والتمتع بالنساء وهو ينطق به من أجل الظفر بمتع أخرى وإجازته حتى في حالة السكر والغضب وهي كلها صور لا يقبل بها الدين لما فيها من ظلم للمرأة ولكن شريعة الفقهاء قد إجازتها خدمة للرجل . يقول الحداد متهكما من المنظومة الفقهية هل هذا هو الرجل الذي يريده الدين ؟ هل هذه هي صورته التي تريدون نشرها في المجتمع ؟ وبنفس الأسلوب الساخر يدين العقل الفقهي الجامد نظرته للمرأة التي قدمها للناس وسوق لها على أنها من حقيقة الدين وهي نظرة مهينة متخلفة تجعل منها تابعة للرجل وخادمة له بل أنها في نظر الفقهاء ما خلقت إلا من أجله هو ومن أجل راحته ورغباته وشهواته فعلة وجودها خدمته والله قد سخر المرأة لتعيش له ومن أجل حاجته تحيى وحتى لا تثور يوما على هذه المنظومة الفقهية المتكلسة فقد سوق الفقهاء إلى أن الله قد خلقها ناقصة عقلا ودينا وميراثا وبالتالي لا يمكن أن نسوى بين الرجل والمرأة فهي في أصل خلقتها وتكوينها وحقيقتها وفطرتها أقل قيمة واعتبارا وحقوقا من الرجل ومهما فعلت فهي تبقى تابعة له و دورها هو تحقيق المتعة . هذه هي المرأة كما يصورها الفقهاء وكما صورتها الشريعة التي روجوا لأسسها في كتبهم وفهمهم. في الكتاب قضايا أخرى وصور من النقاش الفكري المتعلق بالتصور الديني الذي يقدمه مشايخ الزيتونة والفهم الذي تقدمه النخبة التي تحتكر معرفة الدين وتتكلم باسمه وهي قضايا انتقدها الحداد ومن ورائها تعرض إلى رجال الدين في عصره وهاجم المنظومة الفقهية التي تحكمت في المجتمع وناقش قضية الجمود والتجديد والقديم والجديد وفي كل ذلك نجد الحداد ثائرا على الفكر الجامد المتكلس الرافض للتغيير والتطور والاجتهاد وغاضبا من التدين الذي يقصي العقل ويتنكر للاجتهاد ويستفتي على اعتاب الماضين الاوائل حلولا للحاضر وهي معركة قديمة جديدة لا تزال إلى اليوم ترافقنا من دون قدرتنا على حسمها . كتاب الجمود والتجديد في قوتهما هو مؤلف للمصلح الطاهر الحداد أهل للقراءة والعناية ويصلح العود إليه لمعرفة مشروع الحداد الاجتماعي في اصلاح المجتمع ونظرته لثنائية التقدم والتخلف ورؤيته لمعضلة الضعف والوهن التي بات عليها عالمنا العربي الإسلامي وهذا ما يجعل منه كتابا قد كتب في راهن الثورة وليس في ثلاثينات القرن الماضي.