حينما نرى أحد حكام الخليج هو ولي عهد دولة غنية لكنها محدودة (الإمارات) يحاول التمدد بحضور عسكري ومخابراتي وتمويلي في دول أخرى ويتورط في أزماتها مثل اليمن وليبيا وبشكل مختلف تونس حيث أحبطت مؤخرا عملية اغتيال أحد الصحفيين نشعر أن الرجل يدخل إلى قصره ويخرج من عصره! وحين نرى ولي عهد المملكة السعودية يتخبط في مشاكل حرب ميؤوس من النصر فيها وفي حصار قطر الشقيقة ثم اغتيال صحفي حر بصورة وحشية غير مسبوقة نعتقد أيضا أنه يدخل الى قصره ويخرج من عصره! وهذه العبارة رمزية تشير الى قطيعة تحدث بين حاكم وواقعه المتغير ونذكر أنه في أواخر الستينات التف الرئيس بورقيبة على أكبر وزرائه والرجل الثاني في النظام آنذاك وزير الاقتصاد والمالية والتربية والنقابي القديم أحمد بن صالح التفاف الذئب على الشاة وأودعه السجن وحاكمه بتهمة الخيانة العظمى ودخلت تونس في دوامة التصفيات القضائية التي أطاحت بهيبة الدولة ودخل بورقيبة بسببها دوامة المرض البدني والنفسي وبدأ العد العكسي لزعيم كبير أخذ المعول بيده ليحطم ما بناه على مدى ربع قرن. وكان في مطلع السبعينات شاعر تونسي موهوب هو الحبيب الزناد يكتب قصائده المعبرة ومنها هذه القصيدة التي اعتبرناها أقصر قصيدة في اللغة العربية وهي تصف الزعيم بورقيبة وتقول بكل إيجاز: «دخل إلى قصره وخرج من عصره». وبالفعل فالرئيس الذي حرر تونس من الاستعمار وأسس دولتها الحديثة خرج من عصره أي انقطع عن الواقع وأصبح رهينة لبطانات طامعة في السلطة وبدأ رحلة السقوط مع التقدم في العمر وتراكم العلل وسرعة التحولات الاجتماعية في وطنه. هذه القصيدة تجسدت بعد ذلك في أكثر من نظام مع الأسف وبخاصة في الجمهوريات وقبلها في دول المعسكر الشيوعي المنهار من خلال التحولات التاريخية التي هزت شعوب رومانيا وبولونيا والمجر وبلغاريا وتشيكيا وسلوفاكيا والبلدان التي كانت منضوية تحت يوغسلافيا، عندما انهار جدار برلين وأذن بالهزات العنيفة التي عصفت بدكتاتور رومانيا/ شاوشسكو وزوجته هيلينة. وهذا الطاغية الروماني شكل أبرز مثال حي للخروج من العصر والانفصال عن الواقع حين رجع برجليه من زيارة رسمية كان يؤديها إلى الصين فنزل في بوخارست ودخل قصره ومن شرفة ذلك القصر ألقى خطبته الأخيرة العصماء في آلاف الرومانيين محاولا قلب موازين التاريخ وتغيير مجرى الحضارة في حركة بائسة ويائسة، تدل على مدى استفحال الغيبوبة السياسية لدى هذا الرجل. وانتهت تلك المأساة بمهزلة المحاكمة السريعة الجائرة للرئيس شاوشسكو وزوجته والتي أدت إلى إعدامه وإعدامها ذات ليلة صقيعية من ليالي ديسمبر 1989. في سجل آخر مهما يكن تقييمنا لحكم الرئيس صدام حسين وللكارثة التي حلت بالعراق معه باحتلال الكويت والحرب على إيران ومن بعد اسقاطه فإن الموضوعية في قراءة التاريخ الحديث تقتضي منا أن نسجل غياب معطيات الواقع عن ذهنه وأذهان مساعديه وهو لم يستخلص الدرس القاسي ولم يفهم أن الزمن دار دورته وللزمن نواميس فامتثل للاملاءات ودمر صواريخه بنفسه ولم يتوقع ما كان يتوقعه الجميع ولم يستمع لنصائح الناصحين ولا لإنذار المنذرين وبالفعل شكل أدق ترجمة لقصيدة الشاعر فدخل إلى قصره وخرج من عصره. وبشكل مختلف كان الأمر بالنسبة للعقيد القذافي وعلى عبد الله صالح وللجنرال بينوشي دكتاتور التشيلي الذي قتل الرئيس المنتخب جوزف ألندي وحصن نفسه بالدستور وهرب ملايين الدولارات لبنوك أمريكا حتى جاء يوم الحساب فجرجر للمحاكم الدولية لتقتص للآلاف من الضحايا ونفس الظاهرة نجدها لدى حسين حبري الرئيس التشادي المخلوع الذي لجأ إلى السنغال بعد المذابح وحول ملفه الى محكمة الجنايات الدولية بلاهاي. وقبله كان مصير ميلوسفتش الرئيس الصربي الذي استحل لحم المسلمين فانتهى أمره الى محاكمة في نفس محكمة لاهاي ومات في السجن لأن بئس المصير يلاحق من لم يحسب حساب التاريخ وهزاته المدمرة وقائمة الداخلين للقصر والخارجين من العصر طويلة خلال النصف قرن الماضي، وأسباب السقوط متشابهة في جملتها تتلخص في صم الآذان وتغميض العيون عن التغيرات الجذرية التي تطرأ على الشعوب ومحيطها العالمي فتكون القطيعة الكارثية عن الواقع. نواميس التاريخ تعلمنا بأن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج مهما تأخر الموعد. والمجد لكل من خدم الشعوب ولم يستخدمها وكان لأمته الحامي والمؤتمن. طوبى للعادلين الذين أدركوا حكمة العلامة ابن خلدون بأن العدل أساس العمران وأن الظلم مدمر البنيان وأن القهر عدو الإنسان.