تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التقاه عبد الجليل المسعودي وخالد الحداد : عمار المحجوبي ل «الشروق» - مجتمعنا مصاب بالانفصام بين دعاة الحداثة والحالمين بالخلافة


المنتدى

بعد استضافته كل من الدكتور حمادي بن جاء بالله والدكتور حمّادي صمّود والدكتور المنصف بن عبد الجليل والدكتور رضوان المصمودي يستضيف المنتدى اليوم الدكتور عمار المحجوبي الاستاذ المتميز في الجامعة التونسية الّذي أدلى بدلوه في مجمل القضايا السياسيّة والفكريّة المطروحة اليوم.

و«المنتدى» فضاء جديد تفتحه «الشروق» للتواصل مع قرائها بصيغة جديدة ترتكز على معرفة وجهات نظر الجامعيين والأكاديميين والمثقفين حيال مختلف القضايا والملفات ووفق معالجات نظريّة فكريّة وفلسفيّة وعلميّة تبتعد عن الالتصاق بجزئيات الحياة اليوميّة وتفاصيل الراهن كثيرة التبدّل والتغيّر ، تبتعد عن ذلك الى ما هو أبعد وأعمق حيث التصورات والبدائل العميقة اثراء للمسار الجديد الّذي دخلته بلادنا منذ 14 جانفي 2011.

انّ «المنتدى» هو فضاء للجدل وطرح القضايا والأفكار في شموليتها واستنادا الى رؤى متطوّرة وأكثر عمقا ممّا دأبت على تقديمه مختلف الوسائط الاعلاميّة اليوم، انّها «مبادرة» تستهدف الاستفادة من «تدافع الأفكار» و«صراع النخب» و«جدل المفكرين» و«تباين قراءات الجامعيين والأكاديميين من مختلف الاختصاصات ومقارباتهم للتحوّلات والمستجدّات التي تعيشها تونس وشعبها والانسانيّة عموما اليوم واستشرافهم لآفاق المستقبل.

وسيتداول على هذا الفضاء عدد من كبار المثقفين والجامعيين من تونس وخارجها ، كما أنّ المجال سيكون مفتوحا أيضا لتفاعلات القراء حول ما سيتمّ طرحه من مسائل فكريّة في مختلف الأحاديث (على أن تكون المساهمات دقيقة وموجزة – في حدود 400 كلمة) وبامكان السادة القراء موافاتنا بنصوصهم التفاعليّة مع ما يُنشر في المنتدى من حوارات على البريد الالكتروني التالي:[email protected] .

قد يكون السؤال الأول على مؤرخ مثلكم وفي هذا الظرف الذي تطرح فيه مسألة الهوية أي دور للتاريخ والجغرافيا طبعا في تحديد شخصية تونس وواقعها اليومي؟
تونس في غرب العالم العربي وفي الحوض الغربي من البحر المتوسط مجابهة لبلدان عريقة تنتمي الى العالم الغربي وهي البلدان اللاتينية إيطاليا، فرنسا وإسبانيا.

وما يجب تأكيده والتأكيد عليه هو أن العلاقات بين الضفتين لم تنقطع قطّ منذ ما قبل التاريخ، منذ الفترة التي سبقت التاريخ والمعرفة بProtohistoire كان هناك اتصال يجري مع الجزر الغربية ودليل ذلك أن في الطبقات التاريخية الأولى للأرض نجد شظايا من «الأبسديان» وهي متأتية من براكين جنوب إيطاليا وجزرها. منذ بدء التاريخ كانت لنا علاقات متينة شرقا وغربا تدعمت وتطورت شرقا بفضل تأسيس دولة قرطاج وغربا بالاعتماد على المستوطنات القرطاجنية في صقلية إذ كان النصف الغربي من هذه الجزيرة قرطاجنيا بينما كانت المنطقة الشرقية يونانية.

أما الحقيقة التاريخية الأخرى هو أننا في تونس لم يكتف أبدا بتكلّم لغة واحدة.. اللغة اللوبية كانت لها فروع كثيرة والبونية انتشرت في الطبقات الثرية عند كافة القبائل اللوبية.

في عهد الدولة النومدية كانت اللغة البونية لغة المثقفين المكتوبة بينما كانت اللغة اللوبية لغة التداول، ثم أتت الفترة الرومانية فصارت اللغة البونية لغة التداول مع اللغة البربرية.

أغوستنيوس« St Augustin» أسقف عنابة في القرن الخامس بعد الميلاد يذكر أن الأهالي في أسقوفيته لا زالوا يتكلمون البونية بينما كانت اللاتينية منتشرة في طبقات الأسر الحاكمة في المدن التي كانت عديدة وغنية في شمال الولاية على وجه الخصوص.

إن ازدواجية اللغة في تونس أمر ثابت مستمر ومتواصل وأحيانا يتعزّز بلغة ثالثة. وهذه مسألة أساسية لرصد تاريخ تونس وفهم خصوصياتها لأن اللغة مفتاح الدخول الى حضارة الآخر وثقافة الآخر، فبفضل اللغة الفرنسية ولمدة 75 سنة تمكنا من ولوج باب الثقافات الغربية لأن أمهات الكتب والمتون في جميع الميادين (فلسفة حضارة علوم..) كانت تترجم من جميع لغات العالم الى الفرنسية فأتيح للطبقة المثقفة في البلاد الاتصال المباشر مع التيارات الفكرية الغربية، وكان للنظام الانتقائي في المعهد الصادقي فضلا كبيرا على البلاد لأنها أفرزت نخبة متمكنة تمكنا كاملا من اللغة الفرنسية سمح لها من الافادة من الانتاجات الفكرية وتوظيفها لإشاعة أفكار التحرّر والحداثة.

هل هذا يعني أن وظيفة اللغة العربية كانت تتلخّص في دورها كمحمل للدّين الاسلامي ليس إلاّ؟

لا بالعكس إذا ما اعتبرنا مثلا حيوية تعليم اللغة والحضارة العربية في المعهد الصادقي سابقا وأذكر هنا هذه الحادثة الطريفة، كنا ندرس في أحد الأقسام قصيد «بودلير» الشهير «Correspondance» لكن الأستاذ لاحظ برودتنا وقلة تفاعلنا فاستفسر الأمر فأجبناه أننا درسنا في بداية السنة قصيدا لابن الرومي في نفس الموضوع وكان أجمل وأبلغ من قصيد «بودلير» ولما ترجمناه له بهت وتفهم موقفنا.

إن التمكّن من اللغة الفرنسية لم يمنع من التمكّن من اللغة العربية لكن ما كان يجعلنا نقبل على مطالعة كتب الفرنسية هو قلّة الانتاج الفلسفي والأدبي العربيين ولم يكن يترجم الى العربية من روائع الأدب وأعمق الأفكار الفلسفية إلا النزر القليل. المسألة إذًا ليست متعلّقة باللغة بقدر ما هي مرتبطة بقدرة كتاب هذه اللغة على الانتاج الفكري واستيعاب ما ينتج في العالم خصوصا في هذا العصر، عصر العولمة.

كيف ترون علاقة الدين بالمجتمع اليوم؟

من الممكن التحكم في مجموعة دينية لكن ذلك يصبح مستحيلا حين يتعلق الأمر بمجتمع. من الممكن جعل الدين مركز الفكر والفعل داخل مجموعة دينية لكن المجتمع أي مجتمع يرفض ذلك بحكم تنوع أفراده أولا ثم بحكم وجود فئات عالية الانحراف وتنوع اتجاهاتهم وتنوع ثقافاتهم والتجاوزات وإذا ما أردنا أن نفرض على المجتمع التقيّد بالدين فإن هذا الدين يصبح في الآخر طقوسا شكلية وعادات فارغة وهو ما يمكن أن نلاحظه اليوم في عديد بلداننا الاسلامية خاصة في خليجنا العربي حيث يفرض أحيانا التدين على الناس فرضا.

لكن الدولة حاولت دائما توظيف الدين ليس هذا صحيح تاريخيا؟

على سبيل المثال أذكر أن الدولة الرومانية مرّت بفترتين أساسيتين:
الفترة الأولى وثنية: كان الدين فيها ينعت بالديانة المدنية Religion civique بمعنى أن وحدة العالم الروماني ضمانها عبادة روما والامبراطور: Rone et Auguste.

ففي كل مدينة المعبد الأساسي هو الكابتول الذي يحتوي الثالوث الالهي الروماني وكان هذا الدين دينا ولائيا أي تعبيرا عن الولاء وتشبّثا بالولاء. ولهذا السبب وقع اضطهاد المسيحيين في فترات معينة وكلما رفضوا عبادة آلهة روما. ولكن التسامح كان هو المبدأ، فكل قوم من أقوام الامبراطورية الرومانية (أوروبا الغربية شمال إفريقيا الجزيرة العربية آسيا الصغرى) كان يمارس دينه بكل حرية وكانت كل مدينة تحتفظ بآلهتها التي كانت تحظى بكل احترام حكام روما، فأثناء الحروب البونية بين روما وقرطاج أبدى الرومان لآلهة قرطاج كل الاحترام ودعوهم الى روما حيث يمكنهم الاستيطان في معابد خصّصت لهم.

الفترة الثانية: بعد قسطنتين وتدريجيا انطلاقا من «ق 4» أصبح الدين المسيحي دين الدولة، آنذاك بدأت الكنيسة في اضطهاد كل من لم يتدين بالدين المسيحي الرسمي وقاومت بشدة الهرطقة والتيارات التي خرجت ولو قليلا على الدين الرسمي.

في عصر الحكم الرباعي الروماني «Tetrarchie» شنّ ديو قلسيانوس الامبراطور الأول حملة اضطهاد ضد المسيحيين وفي ولاية إفريقيا كان هذا الاضطهاد أكثر وطأة مما سبقه من اضطهادات فضعف عدد من المسيحيين وخاصة من رجال الدين ونشأت الهرطقة للوقوف في وجه من ضعف وقدّم شواهد الاخلاص للامبراطور وللدين الروماني فقرّرت مجموعة نعتت بمجموعة الدونتويتس «Donanistes» الفصل بين من تشبث بنقاوة التديّن وبين الآثمين وبلغ بهم الأمر أن رفضوا أن يباشر الأساقفة المخطئون «Lapsï» التعميد «le batème» فكان ردّ فعل أغسطنيون واضحا إذ أجابهم أن اليد التي تعمّد ليست يد الأسقف المباشر بل يد خليفة المسيح بطرس «Pierre» ثم إنه في كتابه «مدينة الإله» «Cité de Dieu» بيّن أن الكنيسة المثالية لا توجد في هذه الدنيا فالكنيسة في هذه الدنيا تجمع بين المتدين والآثم وخليطا من الناس على اختلاف درجاتهم الفكرية والدينية بينما لا توجد الكنيسة المثالية إلا بعد البعث ولا يمكن إذا اعتبار ما هو مثالي في هذه الدنيا.

كيف تقرؤون عودة الحديث عن الخلافة اليوم؟

إثر النكبة التي أصيبت بها مصر سنة 1967 والهزيمة العربية الشنعاء والانتصار الكامل لإسرائيل دخل العالم العربي في أزمة حادة، ومثل هذه الأزمات حين تنزل على شعب يكون تأثيرها كبيرا وعميقا وعلى مدة طويلة. هنا نلاحظ أن الأقوام التي تصاب بنوع من أمثال هذه الأزمات كثيرا ما يعودون الى الأصل الذي هو في منبت وأساس هذه الشعوب. نلاحظ هذا في العالم الروماني القديم حينما استفحلت الأزمة فيه وعاد الرومانيون الى النشأة والى الآباء الأول في المعتقدات القديمة الراسخة. هذا العود الى العهد القديم يقع تصور الماضي ضمنه بمثالية كاملة، روما زمن التأسيس وقع تصورها لعالم عجيب مثالي وربّاني. والساسة القدامى اعتبروا شرفاء ذوي أخلاق لا يرقى إليها نقص وأمثلة تحتذى. ذلك لأن الذاكرة التاريخية ذاكرة انتقائية لا تبقى إلا على الجميل وتمحو تماما ما هو نقيض ذلك وهذا حصل أكثر من مرة عبر التاريخ الانساني بل هو أمر يكاد يكون عاديا جدا ومألوفا إثر النكسات الكبرى.

إثر هزيمة 1967 صار العهد القديم عهد الخلافة مثاليا وطلبه أمرا عاديا أما تمثّله وتصوره فقد تمّ بفضل هذه الذاكرة التاريخية الانتقائية. أصبح الماضي وخصوصا عهد الخلافة مثاليا بينما نعلم أن الواقع التاريخي يختلف تماما عن هذا التصور ويكفينا نحن أن نتصفح المراجع والدراسات في هذا الميدان منها دراسة هشام جعيّط حول «الفتنة الكبرى» لنتبيّن الوضع الذي آلت إليه الخلافة بعد موت عثمان وحتى بعد موت الرسول الأكرم وما عرف بحادثة سقيفة بني ساعدة.

في سياق أزمة الهزيمة ظهرت الحركات الاسلامية وطغت ودحضت الايديولوجيات القومية وانتشرت في العالم الاسلامي بفضل ما وفرته ولا تزال توفره الدول البترولية وخاصة السعودية وقطر ولا حاجة لنا الى التوقف كثيرا لأن الأموال التي تصرف وتغدق كثيرة ومعروفة. لكن ما يجب قوله هو إن هذه الحركات ما كانت لتزعج العالم الغربي خاصة بعد أن تبنّتها دول الخليج بل انها قبلتها وعاضدتها في أحيان كثيرة كما شاهدنا ذلك في سوريا.

كنا نظن في تونس أننا في مأمن من ذلك لأن تاريخنا وموقعنا الجغرافي ونظامنا التربوي الذي بعث الجامعة منذ ما يزيد عن نصف قرن من الزمن وعمّم التعليم وأنتج أجيالا من المثقفين في الستينات والسبعينات وأعدادا من المفكرين والتقنيين وأعطى نتائج هامة إذا اعتبرنا خصوصا عدد التلاميذ الذين ينجحون في مناظرات المدارس الكبرى في فرنسا وغيرها من البلدان المتقدمة، قلت كنا نظنّ أننا ملقّحون ضدّ هذه التيارات لكن رغم وعينا كجامعيين بذلك فإن الأسباب كانت واضحة ومنها تجاهل عدم التكافؤ بين الجهات والتدهور الاقتصادي والتفاوت بل البون الشاسع بين واقع المدن الساحلية والمدن الداخلية والتراجع الكبير الذي شهده النظام التربوي بصفة عامة والجامعة على وجه أخصّ، تراجع ناتج عن اختيار سياسي آثر الكمّ ولم يكترث بالكيف. ولنذكّر هنا ببعض الحقائق ففي العهد الاستعماري كان تلاميذ الابتدائي ممن تيسّر لهم الدخول الى المدارس يدرسون طيلة 30 ساعة في الأسبوع وهو نظام دام حتى سنة الاستقلال في 1956.

لكن بعد الاستقلال والكشف الذي بيّن أن عدد الأطفال الذين بلغوا سنّ الدراسة واستوعبتهم المدارس كان قليلا جدا بحكم افتقار الدولة الناشئة الى مدارس والى معلمين دون ذكر التعليم الثانوي الذي كان شبه معدوم، الأستاذ محمود المسعدي مدعوما ببورقيبة ومكرّسا لخطه السياسي عمل على نشر التعليم على أكبر وأوسع نطاق ممكن وأصبح بذلك القسم الذي يتّسع الى فوج واحد يقبل ثلاثة أفواج وحتى يتمكن المعلم من تأطير كل هذه الأعداد الهائلة من التلاميذ وقع التخفيض من معدل ساعات التدريس لكل تلميذ من 30 الى 24 ساعة وحذفت ساعات من جملة وقت تدريس الفرنسية وأصبحت تدرس في السنة الثالثة عوضا عن السنة الأولى بعد مغادرة المعلمين الفرنسيين وكانت النتيجة المباشرة الأولى لذلك أن تراجعت الازدواجية اللغوية التي كانت تميّز التكوين التربوي للتلاميذ، هذا في المستوى الابتدائي أما في الثانوي فالأمر كان أدهى وأمرّ.

وكانت نتيجة هذه العاهات التي ألحقت بمنظومتنا التروبية تلك الصدمة التاريخية التي أفقنا عليها منذ مطلع الثمانينات حين أفقنا على مجتمع تونسي مصاب بالانفصام ومقسّم بين طبقة اجتماعية تعيش القرن الواحد والعشرين وطبقات أخرى تحلم بالعودة الى الخلافة. وكانت الطامة الكبرى التي عمّقت هذه الفجوة وزادت في استفحال تدهور النظام التربوي ما أقدمت عليه الدولة منذ أن قبلت بتعريب مادة الفلسفة ناسية أو متجاهلة أن سنة الفلسفة هي السنة التي يقع فيها الانفتاح على التيارات الفكرية والحضارية وتنوعها وثرائها وتطورها منذ عهد أفلاطون وأرسطو وصولا الى الفلاسفة الألمان من أمثال كانت وهيغل.

وتواصلت الكوارث بتواصل تدنّي مستوى الباكالوريا لأسباب يقال أحيانا إنها سياسية من ذلك مثلا إضافة نسبة 25٪ من المعدل السنوي في معدل النجاح في هذه الشهادة العلمية الهامة.. كل هذه الأسباب وهي تربوية بالأساس أدّت الى هذا التدهور في الوعي السياسي والفكري والتطور الاجتماعي عموما.

لكن بلادنا لا تمثل استثناء فكل البلاد العربية لم تعرف النظام الديمقراطي؟

صحيح أن نظم البلدان العربية كانت على مرّ الزمان نظم سلطوية «autoritaristes» بينما يمكن أن نلاحظ في التاريخ القديم وجود نظم يمكن أن ننعتها بالديمقراطية «بين ظفرين». ففي بلدان اليونان وعلى ضفاف البحر المتوسط وكذلك في بلادنا في عهد الدولة القرطاجنية نشأت مدن دويلات «Cités - Etats» تضمّ المدينة المسكونة ومن حولها أرياف على ملك مواطنين من سكان المدينة.
ويوجد في كل مدينة دويلة ثلاثة أصناف من السكان:

صنف المواطنين وهم قلة نسبيا.
صنف المتساكنين غير المواطنين.
صنف العبيد.

المواطنون وحدهم لهم كافة الحقوق السياسية التي تمارس بفضل مجلس الشعب الذي يتداول في شؤون المدينة الدويلة ويصوت على القوانين وينتخب كذلك حكام المدينة من رؤساء وقضاة وكل المشرفين على مصالحها المختلفة. وتتجدد الانتخابات سنويا في أغلب الأحيان ولا تدوم المدة الانتخابية أكثر من سنة. هذا النظام الذي يمكن أن تنعته بالديمقراطي، لكنه يحصر المواطنين في عدد قليل من سكان المدينة.

ومنذ القرن الرابع بعد المسيح طغت الكنيسة في العهد الروماني بعد أن أصبحت المسيحية دين الدولة. وانعكس الأمر حتى على عمران المدن فمثلا في كل مدينة من مدن ولاية افريقية في العهد الروماني في تونس تجد ساحة عمومية «Forum» يتوسط المدينة حيث يجتمع مجلس الشعب ويتداول في شؤون المدينة ويصوّت على القوانين وينتخب المشرفين على مصالح المدينة وينتخب الرئيسين الاثنين للمدينة «Duovir». يحيط بالساحة العمومية قصر البلدية «Curia» حيث يجتمع المجلس والبازليكا «Basilica judicium» حيث تلتئم مجالس القضاء المدني.

ما حدث بعد ذلك هو أنه وابتداء من القرن الرابع حدث تدهور على المستوى المعماري لهذه الساحات العمومية ولهذه المنشآت المدنية التي لم تلبث أن تجزّأت وتحولت الى أحياء للسكن العشوائي بينما ينشأ في حي آخر من المدينة مجمع معماري آخر هو ما يسمّى بمركز الاسقوفية «Centre espicopal» تتوسطه الكنيسة الكتدرائية ومحمل التعميد ومبنى للقضاء الديني، وهذا التحول المعماري هو ترجمة للتحول الاجتماعي والسياسي في المدينة. فبعد أن كان الحكم مدنيا بيد حكام يقع انتخابهم كل سنة للاشراف على القضاء وعلى شؤون المدينة على اختلافها أصبحت السلطة الدينية والمدنية في يد شخص واحد منذ أواخر القرن الرابع يمسكها معا هو الأسقف وأصبحت كل مصالح الأسقفية اقتصادية كانت أم اجتماعية بيد أعوان الأسقف ورجال الكنيسة. هذا التحول عرفته أوروبا في القرون الوسطى.
لكن أوروبا عرفت تحوّلا تاريخيا آخر إيجابيا...

فعلا وهذا التحول بدأ منذ عصر النهضة الذي يعبّر عنه الايطاليون بتسمية الكواتروتشتو «Quatrocento» والذي شهد تطورا فنيا كبيرا خاصة في ايطاليا وازدهارا فكريا في ألمانيا انبثقت عنه مراجعة للمسلمات الدينية بفضل لوتار «Luther» ونموا تجاريا واقتصاديا في مدن الهنس «La hanse»، (هولانده وبلجيكيا...).

لكن التحول الكبير في الحقيقة ظهر في أوروبا في القرن الثامن عشر الذي يعرف بقرن الأنوار الذي كرسه في فرنسا فلاسفة ومفكرون أمثال فولتير وجماعة الأنسكلو بيديا وفي ألمانيا حركة الأوفكلاريوڤ وولدت الثورة الفرنسية من رحم هذه الثورة الفكرية وهي ثورة بأتم معنى الكلمة لأنها حولت تحويلا جذريا الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بعد أن أطاحت بنظام قديم في هذه المجالات كلها وأتت بنظام جديد.

هذه التحولات التي ذكرت وخاصة منها التي حدثت في القرن الثامن عشر وإثر الثورة الفرنسية سنة 1789 وإثر ثورة 1848 لم تشهدها البلدان العربية ولا غرابة أن تكون تونس بفضل ما حدث في 14 جانفي 2011 سبّاقة من بين البلدان العربية لفرض النظام الديمقراطي أو على الأقل لنبذ النظام السلطوي لا عجب في ذلك لأن تونس شهدت منذ ستينات القرن التاسع عشر حركة نخبوية اصلاحية تواصلت حتى عهد خير الدين التونسي وابن أبي ضياف واستمرت في عهد بورقيبة وميزتها الأساسية هو الانفتاح على ما بلغته أوروبا وخاصة فرنسا من نظم سياسية ديمقراطية متطورة وحديثة، لكننا لم نصل بعد الى برّ الأمان ولا نزال في الفترة الأولى من هذا التحول.

لم نتعد إذن مرحلة الخطر؟

أظن أننا قطعنا شوطا هاما يدحض النظام السلطوي بعد تجربة دامت نصف قرن أتمنى ألا نرجع أبدا الى أي صنف من أصناف النظم السلطوية. لكن الواقع يفرض علينا اليوم الاعتراف بأننا لانزال نقاوم حتى نرسخ الشروط الأساسية لقيام النظام الديمقراطي.

لا نزال نعمل لتكريس حرية الرأي وحرية التعبير والفصل الحقيقي بين السلط واستقلالية القضاء والتكافؤ بين الشرائح الاجتماعية وبين الأجيال والمساواة بين الجهات... ولضمان ذلك وبصفة استعجالية وضرورية يجب أن نولي في ذات الوقت اهتماما خاصا بالنظام التربوي وذلك بمراجعة البرامج والمناهج مراجعة جذرية كاملة في المستوى الابتدائي والثانوي والعالي ولكن أخشى ما أخشاه هو أن يتولى ذلك إن صحّ العزم من ليس كفءا ولا قديرا.

هل تخشون من تأثير بعض الحركات الدينية السياسية على مراجعة النظام التربوي المفترضة؟

كانت أمنيتنا في قسم التاريخ وفي فرع الحضارة الاسلامية في قسم العربية أن تنفتح كلية الزيتونة على العلوم الدينية بصفة عامة وشاملة مثلها في ذلك مثل كليات العلوم الدينية المتطورة في أوروبا فيدرس فيها مؤرّخو الأديان ومؤرخو الفكر الاسلامي ومؤرخو الفلسفة ومؤرخو الحضارة الاسلامية ومن بينهم عدد من زملائنا وتلامذتهم أمثال محمد الطالبي وعبد المجيد الشرفي وآمال القرامي ونائلة السليني... ولو كان ذلك لشاهدنا اليوم بروز حركات إسلامية تنير حقا الفكر الاسلامي وتتقدم به تقدما حاسما.

من هو عمار المحجوبي ؟
من مواليد الحامة من ولاية قابس في 6 نوفمبر 1931 ، متزوج وأب لأربعة أطفال
حاصل على دكتورا مرحلة ثالثة من جامعة السوربون بباريس سنة 1961 وعلى دكتورا دولة من نفس الجامعة في سنة 1974.
متخصص في التاريخ القديم ) التاريخ الروماني

اشتغل عدة خطط في اطار البحث الجامعي منها ادارة دار المعلمين العليا بتونس ومدير المعهد العالي للتربية واشتغل أيضاً كمكلف بمهمة لدى وزير الثقافة 1988-1989 ومدير المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية 1990-1996.

وحصل الاستاذ عمار المحجوبي على درجة استاذ متميز سنة 1977 وهو بروفيسور في مادة التاريخ القديم بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.