أعود للحديث عن التعليم ، لأن ما تحمله الرياح ، وموجات الأثير، ومواقع الشبكة العنكبوتية ، بصحفها ومواقعها وصفحاتها وحساباتها ، يدخل الخوف والرعب والأسى على النفس ، فتحزن وتحار أمام ما يشاهد من سلبية وعدم الاهتمام الحق السريع ، والعمل الجدي العقلاني الوطني المخلص ، لمعالجة قطاع كقطاع التعليم بل التربية والتعليم ، ومن عدم الردع بصرامة وحزم ، كل الذين يعبثون بأطفال تونس وطفلاتها، بأبنائها وبناتها ، تحت ستار ما سمّوه رياض الأطفال ، ومدارس قرآنية ، ومدارس حرّة ، وغير ذلك من الأسماء ، دون أن يعرف أحد مناهجها وبرامجها ، ولا مصادر تمويلها ، والله يعلم إن حصلت على تراخيص أم لا ، ولا يُعرف لأية سلطة هي في الحقيقة خاضعة – إن خضعت. إن ما يقال عن غسل عقول وأدمغة الناشئة ، وتلقينها التطرف وما ينتج عنه من عنف ، لا يقبله عقل ولا تستسيغه نفس ، ولا ترضاه أمة ولا شعب ، مهما بلغ الجهل وحماقته. لذا أعود إلى التعليم وقد أسعفتني الذاكرة الهرمة بمحفوظة مما علمنا الأولون أثابهم الله. تقول القصيدة: ربوا بنيكم ،علموهم، هذبوا فتياتكم، فالعلم خير قوام والعلم مال المعدمين إذا هموا خرجوا إلى الدنيا بغير حطام هذه المحفوظة ، وما هي إلا قطرة من بحر، فغيرها ومثلها كثيرممّا كان يبذل ويقال ويتردّد ويُسعى إليه سابقا من طرف الجميع ، المتعلم والجاهل ، والغني والفقير، والأمهات قبل الآباء ، في سبيل وحول التعليم والتربية ، لا للحصول على شهادة تساعد على كسب الرّزق ، بل للتعلّم في حدّ ذاته ، لمحو الجهل والتحلّي بالعلم والمعرفة ، فالخروج من عالم الحيوان ، وولوج دنيا الإنسان الذي علّمه الله البيان. فأعود إذن ، لأن التعليم انحدر فهُدر ، بينما هو قوام الدول ، ونور المجتمعات ، وأساس " تربية العقول وتدريبها وصقلها وشحذها فتكون الوسيلة المثلى في مضمار سيادة العقل ، على حدّ تعبير فيلسوفنا الأستاذ محجوب بن ميلاد. فإذا قلنا تعليما قلنا تربية ، وإذا قلنا تربية قلنا أخلاقا ، وإذا قلنا أخلاقا قلنا سيرة، وإذا قلنا سيرة قلنا معاملات ، وبهذا يحقق المرء " نجاحه وسيادته على الوجود والحياة في آن واحد". ألم يقل الجاحظ " إنما اصول أمور التدبير في الدين والدنيا واحدة. فما فسدت فيه المعاملة في الدين ، فسدت فيه المعاملة في الدنيا. وكل أمر لم يصحّ في معاملات الدنيا ، لم يصحّ في الدين...ولولا ذلك ما قامت مملكة ، ولا ثبتت دولة ، ولا استقامت سياسة ، ولذلك قال الله عز وجل:" ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا." " لا بدّ لنا من وقفة حازمة حاسمة ، نقوم فيها بتطهير شجاع لمناهج التعليم من كل الفيروسات المميتة للعقل. ولا بدّ لنا من سياسة ثقافية في مستوى التحولات ، تحرر العقول من الخرافة ، وتنمِّي ملَكَةَ النقد ، وتفتق مواهب الإبداع عند الناشئة. مقاومة الإرهاب تتطلب السلاح ، وكذلك القلم والريشة." هكذا قال الصديق المفكر الشاعر الكاتب السيد عبد العزيز قاسم ، في مقال صريح بليغ ، أشرت إليه في حديث سابق. قال وهو محق في قوله ، لأنّ الحياة تسير بلا توقف ، وأن الزمان غير الزمان ، وبتغيّر الأزمنة تتغيّر الحاجيات ، فتأتي بجديد الضروريات ، وحديث المخترعات. فنحن ، نعيش عصرا غير عصر آبائنا ، ونتعامل مع عوالم غير التي كانت ، على اسس وبوسائل معظمها حديث جديد ، يحتاج إلى مناهج تعليم مختلفة ، تتماشى والعصر ومتطلباته ، دون إهمال ما هو ضروري للحفاظ على الشخصية والهوية واللغة والثقافة الأصيلة النقية الطاهرة. يجب أن نعي ونفهم أننا نعيش ثورة تقنية لابد من مسايرتها والعمل بمقتضياتها والاستفادة منها. كي نتمكن من ذلك ، لابد أن يدرسها أبناؤنا ويخبروا أسرارها وخباياها ، كي لا نبقى عالة عليها كما نحن الآن ، نستفيد ونستهلك ، فنسدّد الثمن طبعا ، ولا نقدّم من جانبنا غير ذلك. فلا بدّ لأبنائنا أن يتعلّموا حسب مقتضيات العصر. فكيف لهم ذلك إذا بقيت المناهج والطرق والعقليات على ما هي عليه ؟ لست أدري إن كان غيري يرى ما في الثورة الحديثة بتقنيتها الرقمية من أخطار ضمن ما لها من تقدم وفوائد. أخطار تهدد الوظائف والأعمال والتخصصات ، أخطار تهدد الخصوصية والأسرار الشخصية ، وبالطبع غيرها من الأسرار، فيصبح الأمن مضمونا نسبيا ، ويصبح المرء يسير في الدنيا وكأنه عار لا ثوث يستره. نادرة تكفي لتكوين فكرة واقعية على ما أقول. نشرت وسائل الإعلام عام 2017 ، خبرا مفاده "أن رجل أعمال فرنسي ، قدّم قضية ضد شركة "أوبر" – سيارات الأجرة الرقمية – يطالبها بتعويض مادي قيمته خمسة وأربعون مليونا من العملة الأوربية ، لأن استعماله سياراتها كلفه فراق زوجته وطلاقها. قد يتساءل المرء ما دخل الشركة في طلاقه ؟ إن المدعي يتّهمها بعدم احترامها برنامجها الرقمي وما يفرضه من احترام والاحتفاظ بالسرّ والمعلومات التي يحصل عليها. فالشركة علمت ، قبل الزوجة ، أن هذا الرجل له مغامرة غرامية . ليست هي الوحيدة التي اطلعت على ذلك ، إذ لا شك أن واتساب ، وغوغل ، وغيرهما كانتا أيضا على علم. فكل هذه المواقع ، لم تكن في حاجة إلى عمليات حسابية ، بل يكفيها أن يحلل البغ دايتا Big data البصمة الرقمية التي يتركها الزبون بهاتفه المحمول ، كي تستنتج من رحلاته غير المعتادة ، أن في الأمر سرا. فهذه الحال وغيرها يطول سرده وتبيانه ، تفرض التساؤل ، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل بقيت أسرار في عالم رقمي تترك فيه كل حركة بصمتها ؟ قلت أسرارا ، لأن الكلمة جامعة شاملة ، وهي هنا تعني البرامج الخاصة ، والتنظيمات ، والمخترعات ، والاستراتيجيات وما إلى ذلك مما للمرء والجماعة والحكومات والدول من خصائص وخصوصيات مفروض كتمانها ولو لحين. هنا يأتي دوري لطرح سؤال على كلّ عاقل مخلص من مواطنيّ الأعزاء ، خاصة منهم من تقدّموا ليخدموا البلاد وشعبها ، أو هكذا ادّعوا وهكذا فهمت الجماهير فوضعت فيهم ثقتها. سؤال ألقيه عليهم ، راجيا منهم ترك الخصام والتشاجر برهة ، وإجابتي بكل صدق وصراحة عنه وهو: هل بإمكان شبابنا المتأهب لاستلام مقاليد الأمور، أو الذي عليه التأهب لاستلامها ، أن يتعامل مع نتائج الثورة الصناعية الرابعة التي غزتنا ، بمقدرة وعلم وكفاءة ؟ وهل بإمكانهم أن يسيطروا على تقنياتها يما يضمن السير القويم السليم ؟ وهل بإمكانهم دفع وإبعاد ما كمُن في طيات التقنيات الجديدة من الأضرار والأخطار، أو بعضها على الأقل ، دون علم ومعرفة وسيطرة على تلك التقنيات ؟ هل بإمكان الناشئة أن تكون قادرة غدا على مواكبة عصرها ، وهي لم تتسلح بما يلزمه من علم وتربية ؟ سؤال تفرّع فتعدّد ، ولا جواب عنه سوى ما سبقت المطالبة به ، وهو الشروع اليوم قبل الغد ، في وضع مناهج تربية وتعليم تستجيب موادها لمتطلبات وحاجيات العصر، وضعها الآن ، أو بالأحرى الشروع في وضعا حالا ، لأنه عمل لا ينجز في ساعة أو يوم ، وتطبيقه وظهور نتائجه يحتاج إلى جيل على الأقل. هذه صيحة صادقة ، تتردد في ذهن معظم الآباء والأولياء ، وفي خاطر كل المواطنين الذين يتألمون ويتحسرون ، كل دقيقة ولحظة ، عما تمرّ به البلاد ، وعما يشاهدونه من غياب الاهتمام الصادق ، والعمل الضروري لوضع القاطرة على السكة السوية ، وترك الشجار والخصام والشعوذة قبل أن يدهمنا السيل العرم لأنه كما جاء في المحفوظة: وأخو الجهالة في الحياة كأنه ساع إلى حرب بغير حسام فالجهل يخفض أمة ويذلها والعلم يرفعها أجل مقام