ذلك هو العنوان الذي اختاره مصطفى كامل النابلي استاذ الاقتصاد والخبير الدولي ومحافظ البنك المركزي في الايام الاولى للثورة التي مر عليها أكثر من ثمانية سنين ولم تستقر أوضاعها سياسيا او اقتصاديا واجتماعياً الى الان. قدم ذلك الكتاب مساء السبت 30 مارس 2019 في جمع من رجال السياسة والمال والاعمال محافظ البنك المركزي الحالي السيد مروان العباسي في فضاء لم يتسع لكثرة الحاضرين خصصته مكتبة الكتاب بالمرسى للمدعوين. وبالنظر لأهمية الكتاب وقيمة الرجل المشهود له محليا ودوليا بمواقفه الثابتة وقدرته على التحليل والتدفيق وتطويع النظريات الاقتصادية المعقدة للواقع بالتقريب. رأيت ان انقل الخبر وأعلق عليه بالقدر المستطاع لأنه أعادني الى إدراك بعض الاسباب التي أعاقت الثورة وعطلت السير، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وطرق الخروج من الصعوبات بما توفر عندنا وحسب الإمكان. وصلت يومها متأخرا اذ لم أكن أتوقع حالة السير في الطريق المؤدي من تونس للمرسى بسبب انعقاد مؤتمر القمة العربية في تونس الذي حضره عدد من الرؤساء والملوك. واقتنيت بالمناسبة نسخة من ذلك الكتاب وقرات ما تيسر منه مستعرضا ابوابه وفصوله ابتداء من التوطئة وتحولت مباشرة الى الخاتمة التي لخص فيها كاتبه سبب تفاؤله بالمستقل الذي بات يشكك فيه بعض الخبراء المغرضين في وسائل الاعلام وبدون دليل. لم أتعود في قراءاتي على التسرع ولكنني فضلت هذه المرة ان اختصر الطريق، اذ الكم الهائل من الإحباط الذي أخذني مثل غيري ممن اهتموا بالثورة وتحمسوا لها أصبنا بخيبة أمل كبير اثرت فينا بالنظر للحالة التي باتت عليها البلاد من الياس الشديد وحنين البعض الى النظام القديم. واقول انها من أحلام اليقظة التي لا تبدي ولا تعيد والحمد لله رب العالمين ومهما فعل المحبطون! كان الموضوع الذي اختاره صاحبنا حارقا انجزه بحرفية شديدة متوخيا في ذلك الأرقام التي لا تكذب ويمكن على اساسها تقييم الامور، قرات التوطئة بإمعان شديد واعدت قراءتها لأهمية الموضوع ودعمتها بما احمله عن صاحبها من ثقة وتقدير وما اشتهر به في مساره الطويل، سواء لما كان وزيرا للتنمية والتخطيط او محافظا للبنك المركزي أو خبيرا دوليا أو رجل سياسة وخاصة في المدة التي اقتربت منه زمن الحملة الانتخابية التي حاولنا ترشيحه فيها لرئاسة الجمهورية سنة 2014. وجدته في ذلك الكتاب الذي جاء في وقته وتونس تجتاز مرحلة دقيقة بعدما تخلصت من كل القيود بفضل الثورة التي كانت باكورة للتغيير والخروج من الحكم المطلق الذي هيمن عليها مثلما كان لبقية الشعوب المولى عليها والتي تخلصت من الإيديولوجيات بجهد جهيد. لقد عمت البلوى كل بلدان العالم العربي واقتدت بتونس البعض منها وانخرطت فيما يسمى بالربيع العربي الذي لم يصمد في العراق ومصر وليبيا واليمن السعيد وسوريا التي دخلت في نفق مظلم عميق وباتت قوى الشر الدولية تتقاتل فيها وما زالت تزيد! لم تنته القصة وانتقلت الى السودان والجزائر ولم تستقر بعد في الصومال الذي عمت فيه الفوضى منذ عقود. لقد وتأخرت التحولات الديمقراطية في العالم العربي بخلاف ما انتهت اليه في اسبانيا والبرتغال وبلدان المعسكر الاشتراكي بعدما سقط حائط برلين، لقد كانوا أكثر منا انغلاقا اعتبارا لارتباطهم بالمعسكر الاشتراكي او بهيمنة الاستعمار الذي ابتليت به بلدان اسيا وأفريقيا وامريكا الجنوبية وتخلصت منه بجهد جهيد. قرات قبل ان اكتب هذه الخواطر الحوارات التي أجراها كاتبه مع الصحافة والتلخيص الذي انتهى اليه محافظ البنك المركزي بمناسبة تقديمه للكتاب في ذلك اليوم المشهود وسوف لا ادخل هي التفصيل وما جاء من ارقام موثقة أدرجها صاحبنا في ذلك الكتاب المرجع، ولأنها في نظري من المتفق عليه، وهي مأخوذة من مصادر رسمية مستقلة الى الحد المتاح للباحثين. قد يختلف البعض من الاختصاصيين فيما يقترحه كاتب الكتاب من اجراءات وما انتهى اليه من احكام، ولكن ذلك لا يمكن ان يقلل من قيمة ذلك العمل المفيد الذي كشف الحالة التي عليها تونس قبل الثورة وبالأرقام وخاصة ما بين سنوات 2000و 2010، وكيف وصلت بسببها تونس الى الانتفاضة ولما سبقها من سوء تصرف وتلاعب بالمال العام واستفحال للمحسوبية وسوء التدبير وتطويع المؤسسات للعائلة التي كانت تتصرف في المقدرات برعاية وحماية المسؤولين وبإفلات من العقاب. تذكرني تلك الفترة التي مازال البعض يحن اليها بما جرى في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر زمن حكم البايات وخاصة المشير الصادق باي ومصطفى خزندار ومصطفى بن اسماعيل ومحمود بن عياد والقائد نسيم، وانتصاب اللجنة المالية التي تراسها خير الدين ومحاولة تتبع ما استولى عليه المفسدون بدون نتيجة الى يوم الدين. كانت الأموال المهربة وقتها تكفي لتسيير الدولة لنحو عشر سنينلم تسترجع منها تونس الا النزر القليل وبموجب التحكيم. لقد عدد الاستاذ مصطفى كامل النابلي الطرق والوسائل للخروج من أزمتنا وخاصة بالعمل والإنتاج والتفاني فيه ولكن ذلك بات مرهون بالإصلاحات الواجب إدخالها وتوخى التقشف واعطاء المثل فيه. كان علينا اصلاح المنظومة الادارية والمالية والعمل على نشر العدالة في الجباية وفِي تلافي الفوارق بين الجهات والأجيال وإصلاح منظومة التربية والتعليم وتحسين ظروف الصحة وتوفير الحد الأدنى الذي يمكن به للمواطن ان يطمئن ويعيش. بذلك عادت بي الذاكرة الى سنة 2014 لما تحمسنا ورشحناه الى رئاسة الجمهورية وقدرنا أنه كان الاقدر على اخراج البلاد من أزمتها وقد توفرت فيه كل الشروط ولكن الظروف حالت دون ذلك وخسرت تونس عقدا من الزمن على اقل تقدير. انه في نظري وفِي ونظر المنصفين مازال ممن تتعين فيهم المسؤولية لتحمل اعباء الإصلاح والسير بتونس في الطريق السوي، وحسبما عبر عنه في الكتاب من اقتناع بالثورة والتزام بالديمقراطية وحقوق الانسان والقطع مع الأساليب الماضية التي أصبحت فيها تونس تونستان وانقسم شعبها الى نصفين وذلك ما يتعارض مع ما أوجبهالدستور.