أعود بعد الاعتذار، لمواصلة حديثي السابق ، إذ قطعت سرد ما كنت حاكيه لأقفز خمسة ، أو هي ستة عقود إلى الوراء ، لأحط بالمدينة الخالدة ، روما. لماذا ؟ لأن الشيء بالشيء يذكر، وما طرأ لي في شمال إسبانيا قبل أكثر من اسبوع ، عشت شبيهه بروما في مستهل الخمسينات من القرن الماضي ، كما قلت. تركت القارئ في تلك البلدة بشمال إسبانيا ، بلدة تفيض جمالا وسحرا ، زرتها لأداء واجب ليس إلا. رافقني الطقس بلطافته ، فصفت السماء ، وأرسلت الشمس ضوءها ، فبدا اليوم ربيعيا ممتعا. لعلّ طيبة الجوّ والطقس هي التي جعلتني أتيه قليلا حتى أني لم أجد العنوان المقصود ، فاضطررت إلى الاسترشاد وطلب العون والتوجيه. كنت ، كما جاء في حديثي السابق ، عندما تأكدت من ضلالي ، قرب ساحة صغيرة بها مقاعد خشبية مستطيلة وضعتها البلدية لمن يريد الاستراحة. جلس على أحد تلك المقاعد أربعة رجال مسنّين ، يتشمّسون ويتبادلون آخر الأنباء الاجتماعية والسياسية ، وآخر الطرف المضحكات. قصدتهم ، فحييت ، فردّوا السلام ، فسألتهم ، فارشدوني ، فشكرتهم وودّعت. ابتعدت أمتارا وإذا بأحدهم يقف ويناديني فالتفتّ وإذا به يسألني : معذرة يا سيّدي ، من أيّ بلد أنت ؟ إن لم يكن في سؤالي حرج أو تطفّل. قلت لا ، بل بالعكس ، أنا من تونس. لم أكن أنتظر ولا أتصوّر أنّ اسم وطني ومسقط راسي سيكون له ذلك التاثير في بلدة مثل تلك. رايت الرجل يتقدّم نحوي بخطى ثقيلة ، فاسرعت إليه ، وإذا به يكاد يعانقني. سلام بحرارة ، وضغط على اليدين ، وقادني ، بل جرّني تقريبا ، نحو جلسائه وهو يقول ، بصوت فيه من السرور ما يعدي ، ومن التعبير ما يغني ، "هذا الرجل من البلد الذي كثيرا ما حدذثتكم عنه." ثمّ التفت إليّ يسألني: " ما الذي اصاب تونس ؟ " فاجأني التصرّف وأدهشني السؤال ، فرجعت بي الذاكرة إلى موقف مشابه عشته قبل ما يزيد عن نصف قرن ، أجبرت على وصفه في المقال السابق. وكما جاء في سردي الفائت ، لاحظ الشيخ حيرتي فابتسم واعتذر وقال " كأنك على موعد ، واحترامه بدقّة من شيم الكرام ". شكرته على تفهّمه ووعدته بالعود إليه وإلى رفاقه ، بعد قضاء حاجتي ، كما وعدت قارئة وقارئ الأسطر الفائتة بمواصلة سرد قصتي مع هذا الشيخ ، بعد الرجوع من إيطاليا. ها أنا أوفي بعهدي إذن. أتممت ما جئت من أجله إلى تلك القرية ، أو المدينة الصغيرة ، وانصرفت قاصدا الشيخ ورفاقه ، إن هم صبروا وانتظروني ، لأنّ موعدي أخذ من الوقت ما يقرب من الساعة أو ربّما زاد عنها. خرجت مسرعا خطاي ، وما أن سرت مبتعدا بضع أمتار عن باب المبنى الذي كنت داخله ، حتى سمعت هاتفا يناديني " سنيور، سنيور، توناثينو" – أيها السيد التونسي –. التفت فإذا به الشيخ ورفاقه في انتظاري. اندهشت أولا متسائلا كيف عرفوا أين أنا ، لكن سرعان ما تذكرت أنهم هم الذين هدوني بعد أن ضللت طريقي. شملوني بترحيب جديد ثمّ أخذوني إلى مقهى ومطعم ، في موقع جميل ، يشرف على سهول خضراء ، من ورائها البحر بزرقته فبدا المشهد تحت ضوء اشعة الشمس ساحرا جذّابا يدعو إلى السباحة في الأحلام ، والتّيه في عالم الخيال والشعر. لكن من أين لي ذلك وأنا صحبة أربعة رجال متقاعدين ، يبحثون عن قتل الوقت بمعرفة ما يجهلون ، بل ما ظننت أنهم يجهلون. جلسنا في ذلك المكان عند الزوال أو بعده بقليل ، ولم نفارقه إلا وقد دقت الساعة السابعة مساء. بدأ حديثنا بذلك السؤال الذي استغربته وهو:" ما الذي اصاب تونس؟ " استعصت عليّ الإجابة ثمّ أُلْهمت فقلت: بشمت بالديمقراطية ! ضحك الجميع وظنوا أني أمزح ، فشرحت قولي بأنّ الشعب الذي عاش محروما من معظم حرياته ، هو اشبه بالجائع إذا وجد طعاما انكب ينهمه نهما حتى يصيبه البشم فيموت. التقط الشيخ صاحب السؤال قصدي فقال في شيء من الجدّ والرّصانة:" أنا أعرف تونس جيّدا ، عشت بها وعملت بها وتعلّمت صناعة بها. أنا يا سيدي ، ورفاقي أيضا ، اشتراكيون ، جمهوريون ، ناصرنا في شبابنا قيام الجمهورية الثانية ، وعندما أعلن العصيان والتمرد ، حاربنا في صفوف الجيش الشرعي ، الجيش الجمهوري. لكن ، لأسباب ليس هذا مجالها ، انتصر المتمرّدون فمات من مات ، وأسّر من أسّر، وفرّ من فر، فكنت من هؤلاء ولجأت إلى تونس عبر فرنسا. لماذا تونس ؟ لما سمعت عنها ولسُمْعَتها الطيبة. ثمّ إنّي شاهدت مقاساة رفاقي ومواطنيّ في فرنسا ، والمعاملة السيئة التي يعاملون بها ، فزاد هذا من تصميمي على اللجوء إلى بلدك. أسعدني الحظ ، إذ لا تفسير غير هذا ، أني عند تسوية وضعي لدى السلطات الفرنسية ، لم أحدّد بلدا معيّنا ، بل كتبت " أي قطر خاضع للسلطة الفرنسية " أو ما يشبه هذا. لذا لم تستطع الإدارة الفرنسية بتونس ، بالرغم منها ومن تردّدها ، إلا قبول إقامتي بالبلاد التونسية. دخلتها من بنزرت ، ثمّ قصدت العاصمة ، وانتهى بي البحث والدرس بسوسة حيث استقرّيت ، واشتغلت ، وتعلّمت. لم أكن أحسن أية حرفة لأني كنت موظفا بالدرجات الأولى من السلّم الإداري فجاءت الحرب فحملت السلاح وإذا بي في سوسة." ما أن نطق الشيخ اسم سوسة ، حتى انتبهت ذاكرتي من سباتها ، وأخذت تربط ما عندها بما تسمع ، فزاد اهتمامي ودقة متابعتي سرد الشيخ قصّته. قال " أوّل ما بهرني منذ مغادرة الباخرة في ميناء بنزرت ، هو الترحاب ، والابتسام ، والمساعدة ولو عاطفيا، بمجرّد أن يعلم مخاطبي أني إسباني ، ويكبر عطفه ويشتدّ إذا علم أني "مجاهد " ، حسب تعبير الجميع آنذاك ، من أجل الحرية والكرامة. كنت آنذاك شبه مهندس لأن الحرب حالت دوني ودون الامتحان والحصول على الشهادة. لذا ، بعد العمل هنا وهناك ، قادني حظي ، مرّة أخرى ، بين يدي رجل ، أقلّ ما أقوله فيه " إنه إنسان " ، صاحب ورشة يصنع بها ويصلح قوارب صيد الأسماك." بزغ النور لذاكرتي فعرفت الرّجل وقلت للتأكّد " خينيرالس ديغولس "! بهت الشيخ وفغر فوه واتسعت عيناه وقال: من أين لك هذه العبارة ؟ أتعرف آدي (أي الهادي. هو المرحوم الهادي الدريدي ابن عمتي ، رحل عصامي زاول وأتقن عدة حرف وانتهى بصناعة قوارب الصيد حتى أصبح " منشره " مدرسة تخرّج منها الكثيرون ، أحدهم هذا الرجل الوفي ، واثنان من أبنائه حافظوا على الصناعة وعلى المنشر) ؟ أجبته كالجليقي بسؤال فقلت: أتذكر قريبا من أقربائه كان ابن اثنتي عشر سنة تقريبا ؟ قال : أتعني الذي جاءه من صفاقس ؟ قلت نعم. قام وعيناه دامعتان ، وعيناي ايضا ، وعانقني طويلا وبشدة وحنان ، فأصبحت وإياه قبلة الزبائن ورواد المحل الجالسين ، فلم يكن من الشيخ إلا أن يلتفت إلى وسط القاعة ويقول بسوط مرتفع :" هذا الصديق من تونس، عرفته وهو لم يبلغ بعد ، عندما لجأت إلى بلاده هربا من ظلم فرانكو." صفق الجميع وأسرع صاحب المقهى والمطعم ، ليصافحني بحرارة ويخبرني بأني " ضيف الدّار" أي أني ضيفه ، وهذا يعني أنّ كل ما أستهلكه سيكون مجانا. عندها التف حولنا من كانوا يعرفون الشيخ ، وهم كثر، فألصقت الموائد إلى بعضها ، وها أنا وسط جمع زاد عن العشرين شخصا ، تحت رحمة الشيخ وفي حمايته ، يسألني وأجيب، يناقشني وأحاول الشرح وذكر الأسباب ، وبصراحة وصدق أقول قولتنا الشعبية "باع" فالشيخ أقحمني – ربما لأن الحق كان بجانبه – ولأنه في كلّ موضوع أو جزئية يعود إلى الماضي ويقارنه بالحاضر ، أو العكس ، ويختم حجته أو تعليقه أو نقاشه بقوله: ليست هذه تونس ، لم تكن تونس هكذا ، ما الذي اصاب تونس ، وعبارات أخرى شبيهة ، تنمّ عن أنه يبحث عن شيء مفقود. لم أكن في وضع أحسد عليه ، خاصة عندما قال : قرأت قبل ايام أن بتونس اليوم 214 حزبا سياسيا. هل هذا صحيح ؟ أنعمت بصوت خافت خجول ، فصاح وصاح آخرون حوله: يا إلاهي! نحن بنيّف وأربعين مليون ساكن ، رفعنا أيدينا إلى السماء عندما كثرت الأحزاب وبلغت نيّفا وثلاثين. وأنتم بعشرة ملايين أو أكثر بقليل تتوزعون على أكثر من مائتين ؟ قلت سيذوبون كالملح في الطعام ، كما ذابت أحزابكم الطفيلية هنا. قال: لكن بأيّ ثمن ؟ نعم أيها الصديق ، بأيّ ثمن ، لأنه سيكون باهضا وكالعادة ، ضحية كل هذا الوطن والشعب. هنا ، عند هذا الحد ، رأيت الشيخ يتحوّل إلى شاب يافع ، في عنفوان قوته وفتوته وهو يكاد يصيح سائلا: وما للشعب لا يتحرّك؟ قلت لأنّ الديمقراطية بشمته ، وسوء الهضم هدّ قواه ، وثقته في من لا يوثق بهم خلفت له الشلل. نظر في وجهي مليّا ثمّ أدار بصره الحاد على كلّ المحيطين بنا ، المتتبعين الحديث باهتمام كبير وبالمساهمة فيه ، ثمّ قال " سيغورو كي صالدرا دي إستا " أي من المؤكد أنها ستخرج من هذه ، جملة يعبرون بها عن الثقة في " الخروج من الورطة "، كما نقول ، وعن عدم الشك في الفلاح والنجاح. إنّ ما سبق ذكره ليس إلا حوصلة موجزة جدّا لما دار من حديث ونقاش وتعليق من طرف كلّ الذين التفّوا حولنا ، وما لاحظته فيهم ، هو الاحترام والتقدير الذي يقابلون به الشيخ ، وسعة اطلاعهم على ما يجري بتونس ، وقد يكون عن طريق صاحبنا ، وما هو أهم وأشد وقعا في نفسي ، هو ما يحملونه عن تونس – الماضي - من ودّ ، نتيجة الفكرة الطيبة الحسنة التي يحملونها عنها ، واعتبارها بلدا أقرب إلى العالم الثاني من العالم الثالث ، لكن ما يسمعونه ويقرأونه عنها الآن ، لا يتماشى والصورة المرسومة في أذهانهم ، لذا يتساءلون " ما الذي اصاب تونس " وأنا مثلهم أتساءل ولا أحار جوابا. مدريد يوم 28-3-2019.