منذ تأسيس الإخوان في مصر سنة 1928 ثم انتصار الثورة الخمينية في إيران سنة 1979 كثر الحديث عن الفرق بين الإسلام الحضاري والإسلام السياسي ثم تعاقبت أحداث الجزائر و إجهاض إنتخاباتها 1991 و بعدها فوز الإخوان في مصر و الإنقلاب عليهم من قبل السيسي مع ما رافق هذه الأحداث من صراعات مفتوحة بين النزعات العلمانية و التوجهات الإسلامية الى أن تعطل الحوار الرصين تاركا مكانه للعنف الأهلي بين تيارات متطرفة مثل طالبان و القاعدة و داعش و الأنظمة القمعية التي واجهتها ويتساءل أهل الفكر من بين حكماء العرب عن دور هذا الدين الحنيف السمح في توجيه المجتمعات المسلمة وتحقيق تقدمها وصيانة مكاسبها وتجسيد طموحاتها في العزة والكرامة والمجد وعن التعايش المصيري والضروري بين قيم العقيدة ومستحقات السياسة، هذا التعايش الذي يبدو للرأي العام صعبا وحمال إشكاليات إذا ما اكتفينا بسماع أصوات بعض الشيوخ الذين يقرؤون ظاهر النصوص الحرفية ويوصدون أبواب الاجتهاد ويلغون نعمة العقل، فيقدمون للعالم هذا الإسلام الحنيف كأنه إسلام عنف و الغاء العقلمثلما وقع في باميان الأفغانية من تفجير التماثيل البوذية الأثرية أو إسلام الحدود في صيغتها النصية القابلة في الحقيقة للتفسير والتأويل والتحديث أو إسلام قهر المرأةبينما هو الدين الذي رفع المرأة إلى منزلة الشريك الكامل للرجل وأسند لها الحق في المال المستقل والعمل الكامل والقيادة السياسية والإبداع الثقافي والتأثير التربوي. جاءت هذه الأحداث على خلفية الاحتقان الحضاري الذي يعيشه العالم الإسلامي أمام تفاقم المأساة الفلسطينية التي يريد ترامب تصفية حقوق شعبها بما سماه (صفقة القرن) ومخاطر الحرب الشاملة التي ينذر بها حصار ايران و منعها من تصدير نفطها بل و قبول بعض العرب أن تكون ايران هي العدو عوض المحتل الإسرائيلي! وتعرض دول خليجية إلى ضغوط وابتزاز ومساومات أصبحت مع ترامب مهينة بشكل مقزز وبداية انفراط عقد السلام المدني بحصار مضروب على قطر وحالة فقدان البوصلة في المجتمعات المسلمة مع عودة الربيع العربي في طبعته الجديدة المنقحة عام 2019 في الجزائر و السودان و ليبيا ما بين إصلاح أبطأ وخطر أحدق ومشروع أخفق. هذه هي ملامح المشهد العربي المسلم خلال هذا الأسبوع: حالة دوار حضاري تصيب الأمة فتكاد تفقد توازنها في عالم هو ذاته فاقد التوازن. أو قل بالأحرى حالة عجز عن الفعل والاكتفاء برد الفعل في مناخ من سوء التفاهم العميق ما بين الأمة الإسلامية وشرائح عريضة من الرأي العام العالمي. وأعتقد باننا مطالبون اليوم في هذا المنعرج التاريخي بأن نعلن الفرق الذي نراه كبيرا بين الإسلام الحضاري والإسلام السياسي، لأن الحضارة أشمل وأوسع وأعمق من السياسة التي هي حسب تعريف فقهائنا سياسة الدنيا وحراسة الدين. وهاتان الرسالتان لا تستقيمان إذا ما أخطأنا تقييم شؤون الدنيا وإذا ما أخطأنا تصنيف أصول الدين، فتصبح السياسة اختزالا لتعاليم الدين في قراءة جهولة للشريعة تنسى بأن العصر تغير والأجيال تعاقبت والقيم تعولمت وكفة ميزان القوى رجحت لغير المسلمين إلى حين، وأن المعركة الحقيقية هي معركة اكتساب القوة بكل أبعادها الاقتصادية والدفاعية والثقافية. فأمة الإسلام مطالبة بالمنعة والتمكن والاستقلال الفعلي أي بدخول معترك الإنتاج وإلا ظللنا عالة على الأمم الأخرى فيما نأكل ونلبس ونركب ونعالج، وبالطبع عالة في أمور أمننا وحماية حياتنا وصيانة أرواحنا، حتى لو ارتفعت أصواتنا بالصراخ بغير ذلك.إنني أعتقد بأن الأخطاء التي أضرت بنا منذ نكبة فلسطين وهزيمة 67 إلى الحروب الأهلية والطائفية هي أخطاء النخب العربية حين استقلت شعوبنا عن الإمبراطوريات الاستعمارية نصف استقلال لأنها ظلت تعاني التبعية الاقتصادية والثقافية واللغوية والسلوكية لمستعمرها القديم وتذيلت حتى ذابت في منظومة الاستعمار ونتج عن هذا الانغيار ( أي الذوبان في الغير) ظهور أعراض مركبات نقص ومذلة أمام الغرب حين قلدنا الغالب في شتى أمور حياتنا شأن المغلوب كما قال العلامة ابن خلدون، وفقدنا ذلك العنفوان المشروع وتلك الكبرياء الضرورية وهي الرصيد الذي كان يحرص عليه الرواد المصلحون حين يخاطبون الغرب مخاطبة الند للند أمثال رشيد رضا والطهطاوي والوزير خير الدين باشا واحمد بن أبي الضياف وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي و عبد العزيز الثعالبي و مالك بن نبي. كان هؤلاء الأعلام ينطلقون من عظمة الإسلام ليحاوروا الغرب ويصلحوا حال شعوبهم لا من منطلق الغلبة والمذلة والإذعان والهزيمة، بل من منطلق العزة والثقة والأصالة والنديةوالسر في قوة مواقفهم هو أنهم إسلاميون حضاريون لا إسلاميون سياسيون، حاولوا فهم العالم والعلاقات الدولية واستراتيجيات النهضة بانخراطهم الذكي فيها واغتنام ثغرات النظام العالمي في ذلك العصر ولم يسقطوا في متاهات التفسير الحرفي والغيبي للنص القرآني فكانت للمصلحين الرواد مواقف ريادية منها الرسالة التي بعث بها المصلح اللواء حسين عمدة مدينة تونس في الربع الثالث من القرن التاسع عشر إلى رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية ينصحه فيها بعتق العبيد ويردد على مسامعه كيف كرم الإسلام بني ادم وجعلهم خلفاء في الأرض. التاريخ كتبه رجال عرفوا كيف يتحولون من الثورة إلى الدولة، وهو تحول من الإسلام السياسي إلى الإسلام الحضاري. وهو التحول المبارك الذي أنجزه رجب طيب أردوغان في تركيا والمرحوم علي عزت بيجوفيتش في البوسنة والهرسك ومهاتير محمد في ماليزيا وعجز العرب عن تحقيقه.