على مدى سنوات، تداول كثير من الفنانين التونسيين والعرب أغنية "جاري يا حمودة"، لكنها ظلت بصوته أهزوجة للفرح بعفوية كلماتها، وآدائها السلس غير المتكلف، بإحساس فنان ثمانيني ولد وفي صوته ما يملأ الدنيا غناء، ورحل في الوقت غير المناسب بعد أن قتلته الشائعات أكثر من مرة... على مدى الأسابيع الماضية، والفنان "أحمد حمزة" ينام على فراش المرض، ونستيقظ يوميا على شائعة موته، وكان الرجل كعادته قليل الكلام، يواجه المرض بابتسامة، ولا يحز في شائعات مرضه سوى حرقة زوجته ودموعها وهي تتلقى اتصالات التعازي لتنكر موت رفيق الدرب... لماذا يسرعون في توديعه إلى السكن الأخير؟؟ لم يكن الرجل سليط اللسان؟؟ لم نسمعه يوما يتحدث محتجا، ولم يدخل في معارك الفنانين التي لا تسع الدنيا طموحاتهم؟؟ خلافا لأبناء جيله، لم يحتج "أحمد حمزة" على القنوات التلفزية التي تجاهلته، ولم نسمعه يوما يهدد برفع قضية ضد من غنى "جاري يا حمودة"، ولم يتهم جيل الشباب بالإفلاس، ولم يقف على أطلال الأغنية التونسية التي أحبها فخرجت من صوته عفوية... كان يصمت عندما يصمتون... ويصمت حتى وهم يثرثرون ويرفعون لافتات الاحتجاج أمام وزارة الثقافة والمحافظة على التراث... كان يدرك ربما أن صوته لن يموت ووحده سيحمي وجوده في الذاكرة رمزا من رموز الأغنية... مرة أخرى تضيق العبارات، أو لعلنا نقف أمامها بمنتهى الخجل ونحن ندرك أننا ظلمنا "أحمد حمزة" في حياته وبعد موته... ظلمناه لأنه لم يكن عنوانا كبيرا في صفحاتنا وثرثرتنا اليومية عن الفن والثقافة... فبقي سيل الكلام ودخلت الثقافة طي النسيان في انتظار أن يصفي أهل الحل والعقد حساباتهم السياسية لينظروا في الملفات الثقافية التي ازدحمت بها رؤوسنا... رحل الفنان "أحمد حمزة" في الوقت غير المناسب، ما كان عليه أن يتعجل الطريق قبل أن يرى تونسنا الحرة وقد تشكلت ملامحها كما حلمنا وحلم معنا... ما كان عليه أن يتعجل الرحيل قبل أن يقول كلماته الأخيرة التي تحدث رنينا عجيبا في آذاننا دون أن يقولها... ولن ننسى هذا الفنان الذي أخجلنا بتواضعه، فاحمرت وجنتا الكلمات وهي تريد أن تنعاه... لن ننعاه إذن ما دام صوته يحطم جدار الصمت فينا، ويقول هذا أنا باق، حتى الممات... وبعد الممات...