كلّما هاجمتني ، واحتلّت مكانا مرموقا بارزا بين أفكاري ، فسيطرت على تفكيري الانتخابات القادمة ، فاستعرضت المشهد الحالي في بلادنا ، إلا وحضرني مثل شعبيّ ، يُنسب لأهل الجريد ، وجاء على لسان رجل من أرض التّمور والشعر، وعبقرية المؤرخ الشاعر والمهندس ابن الشباط ، يقول لزوجته " كان صبّت اندبي وكان سحت اندبي. " واضح أنّ الضمير يعود على المطر، الذي إذا نزل والتمور لا تزال في عراجينها أفسدها ، وإن أجدب ضعف محصول الموسم التالي أو انعدم. ففي كلتا الحالتين حقّ البكاءُ والندب. ينطبق هذا الوضع كلّيّة على المواطن التونسي في الانتخابات القادمة ، إذا ما بقيت دار لقمان على حالها ، إلا إذا رحمنا الله بمُرشح أو مرشّحين يقدّمون ويعلنون ، بوضوح ودقة وشفافية ، ما هو أو هم ، عازمون على تنفيذه ، إذا انتخب أو انتخبوا ، لمعالجة وحلّ العقد والمشاكل ، التي تعرقل خطى الشعب نحو الخروج من المأزق السياسي والاقتصادي والتعليمي والاجتماعي ، بما فيه السيرة والأخلاق. لأنه إذا ما حَلّت الانتخابات وسط الساحة ، والوضع والحالة كما هما عليه اليوم – أوائل شهر مايو/ أيار- ، ووقف الناخبون ليختاروا نوابهم ، لا شك أنهم سيجابهون ذلك المثل الآخر، الذي كثيرا ما كانت تردّده جدّتي رحمها الله فتقول:" ما عندك في الهم ما تختار." يحار المواطن إذن ويتردّد ، ثمّ يتيه ، وينتهي به الأمر إلى مقاطعة الانتخابات ، وتلك هي الطامة الكبرى. لأن البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتعليميا وتربويا ، وغير هذا يعلمه الكبير والصغير، إن هي بقيت والحالة هذه ، لا يمكن بأية حال أن تُقْدِم على خطوة في خطورة مقاطعة الانتخابات، التي تترك المجال فسيحا للانتهازيين ، وما أكثرهم ، ولغيرهم من ذوي الأطماع والغايات غير الوطنية ، علاوة على انعدام المقدرة ، وفقدان التجربة ، وعدم وضوح الغاية رغم الوعود. لذا فكلّ تصرّف مقبول إلا عدم الإقبال على الاقتراع ، بالرّغم من ضباب الرؤيا وانعدام الوضوح وكثرة المتحرّكين الطامحين الطامعين ، يمينا وشمالا ، يغمرهم الظلام والغموض ، وتنقصهم الصراحة والوضوح ، يحتاجون إلى ترك البغض والكراهية ، وإلى اتباع الصراحة والصّدق والشفافية ، في المخططات والبرامج والأقوال والتصرفات. تحق للمواطن الحيرة ، ولا غرابة في ذبذبته ، ولا لوم عليه في شكوكه وعدم ثقته. فبغياب اقتراح ، وفقدان عرض برامج عمل ، وإعلان خطوات سير وتنفيذ ، كما أشرت سابقا وكرّرت ، لا يتسنّى الانتخاب. لأن المواطن يعلم ويفقه أن نَخَب الشّيءَ يعني أخذ أحسَنه وأفضلَه، أَخَذَ نُخْبَتَهُ أَيْ مَا هُوَ مُخْتَارٌ مِنْهُ بِعِنَايَة. معنى هذا أنّ الناخب أمامه مجموعة أشياء ، أو أفراد حسان فينتقي أفضلهم لديه وحسب ذوقه. تطبيقا لكلّ هذه المفاهيم والمعاني ، وأمام الأوضاع والمشاهد السائدة ، ليس أمام الناخب سوى المثل التي كثيرا ما روته جدّتي وهو" ليس في الهمّ أمامه ما يختاره." وبانعدام الإختيار، لم يبق له إلا التصويت حسب جمال الوجه وبشاشته ، أو حسب القوام وطلعته ، أو حسب اللسان وطلاقته ، أو الهندام وأناقته. أعود إلى الأمثال لأنها حكمة الشعوب ، فأذكر أحدها مفاده: " إن رايت لحاء جارك تحلق * عرّض لحيتك إلى البلل." مثل قديم مشهور يردّد هنا ، وهو يوصى وينصح بالحذر وعدم الوقوع في ما وقع فيه الغير من أخطاء ، وهو تقريبا مثيل مقولتنا العربية : العاقل من اعتبر بغيره. جرت قبل أكثر من شهر انتخابات عامة بإقليم أندلسية – جنوب إسبانيا - ، المعتبر معقلا من معاقل الاشتراكية التي حكمته أربعة عقود على التوالي ، أي منذ رحيل الدكتاتور فرانكو وبداية النظام الديمقراطي الذي حققته إسبانيا بتحوّل نموذجي ، أبهر العالم شرقا وغربا ، وألّفت بشأنه ودراسته كتب كثيرة في بلدان وبلغات متعدّدة ، منها كتاب فريد بالعربية وهو من تأليف محرّر هذه الأسطر. أسفرت الانتخابات على تقلص نتائج الحزب الاشتراكي فضاعت منه الأغلبية المطلقة ، فاتحد اليمين وافتك الحكم لأول مرّة. الغريب والمخطر في الأمر هو ميلاد حزب يميني متطرّف ، أجرى تجربته الأولى في أندلسية فنال من المقاعد ما جعله ضرورة لولاها لما أمكن لليمين أن يحصل على الأغلبية. بعد شهر ونيف ، أي قبل أسبوع من الآن ، جرت انتخابات عامة في كامل البلاد لتجديد البرلمان الوطني ففاز الحزب الاشتراكي ، لكن بأغلبية نسبية ، وتقهقر الحزب الشعبي اليميني ، وحصل الحزب اليميني المتطرف الجديد ما كفاه ليدخل البرلمان الوطني ويصبح فيه عنصرا لتكوين أغلبية مريحة. هذا مع العلم أنه يتبنى علنبّا بصفة جملية معظم مكونات سياسة الدكتاتورية الماضية ، مضيفا إليها العنصرية ، وعداء الأقليات والمهاجرين ، والوعد بتغيير قوانين كثيرة اعتبرت تطورا وتحرّرا ، كثير منها يخصّ المرأة والعائلة. ذكرت هذا ليعلم من نسي أو تناسى ، أن الشعوب تُمْهل ولا تُهمل ، فالشعب هنا ملّ وضجر من هيمنة الحزبين ، فبعث اثنين آخرين أزال بهما الأغلبية المطلقة ، كأنه يطلب من السياسيين توخي الحوار والوفاق لتسيير شؤون البلاد. لم يحسنوا ويجيدوا الحوار، فتعثرت الأمور وتعطلت الأعمال ، فكان لزاما حلّ البرلمان وتقديم موعد الانتخابات ، فجاءت بمولود جديد يهدّد ما بُنِي وشُيِّد طوال أربعة عقود. قد يطول الشرح والتحليل ، لكننا في غنى عنه لأني أعتقد أنّ الرسالة بلغت والعبرة اتضحت ، خاصّة إذا وضعنا أمامنا أن تونس لا تحتاج حزبا متطرفا جديدا ، فهو مزروع بتربتها السياسية ، ولا غرابة أن كان بتونس أكثر من حزب ، سيُبرز كالذئب أذنيه عند الحاجة ، ثمّ ينقضّ على فريسته ،" فتعود حليمة لعادتها القديمة." خلاصة القول أن المشهد والوضع والتصرّف في تونس اليوم مقلق تُخشى عواقبه ، وهي على قاب قوسين أو أدنى من انتخابات وصفتها بالتاريخية ، وقد تكون مصيرية ، لا يفصلها عنها سوى فصل الصيف. فهل بين النشطاء الفاعلين من بمقدوره مفاجأتنا ، قافزا على الرُّكح ، وبيده ملفات مشاكل البلاد ، العاجلة والآجلة، فيقرأ على الناخبين الحائرين بنود وتفاصيل مشاريعه ، وحلول مشاكلها ، فيزول القلق ، ويعود الأمل ، فتنشرح الصدور ، وتبهج الوجوه ، فيتهيأ الشعب لخوض المعركة الانتخابية السلمية الواعدة حقا ، مستعدا للعون والمساعدة ؟ أو أفضل من هذا بكثير ، ظهور أهم النشطاء متماسكي الأيدي ، متفقين حول مشروع وفاق سياسي ، اقتصادي ، اجتماعي ، ثقافي ، مقام على خيارات استراتيجية أساسية واقعية لا طوباوية ، تحدّد دور الدولة ، ودور القطاع الخاص ، وشكل أو اشكال النظام الاقتصادي المقترح ، ودور الجمعيات المدنية ، ومهمة الشعب وإسهامه ، لأن المشروع أو المخطط – إن ظهر كما نأمل – هو مستقبل الجميع. دون أن ننسى طبعا أمراضا تشكوها البلاد ، مثل الفساد والرشوة ومن أين لك هذا ، وعدم تعميم المساواة ، وبكلمة موجزة تطبيق ميزات ومبادئ الديمقراطية الحقة الفعلية. هل هذا من المستحيل علينا ؟ أنحن عاجزون عن الاتيان بمثل هذا المقترح ؟ ليس ذلك على الله بعزيز، ولست الوحيد المنادي به ، بل صوتي أضعف وأبعد صوت. فكثيرون نادوا ، بعبارات أفصح ، وبأسس أقوى ، وعلى قاعدة علمية وتقنية أرسخ ، أذكر منهم اثنين ، لأن ما كتباه هو آخر ما قرأت ، وأن أحدهما جاء رأيه في الصحافة والثاني في كتاب أقل ما يقال عنه إنه قيّم بليغ ، وهما السيدان المحترمان عبد العزيز قاسم ومصطفى كمال النابلي. بقي السؤال الأخير: هل سيسمع الذين رأوا في أنفسهم المقدرة الكافية ، والأهلية المناسبة لخوض معركة الانتخابات ، كلّ ما قيل ويقال ، وهو ما يطالب به الشعب الذي يريدون تمثيله وتسيير أموره ؟ أم سيصمّون أسماعهم فتقع تونس في ما لا يتمناه عاقل ولا مجنون ؟ كلّ أملي هو أن لا يكون الردّ أجبت إن ناديت حيّا * ولكن لا حياة لمن تنادي.