يصطدم محاور السينمائي عبد اللطيف بن عمار بسيل من المفاجآت وهو يهم بمحاورته، فالرجل يقال عنه إنه "بلدي" أي من أبناء الحاضرة، فإذا به يفاخر بأنه أصيل تالة... وهو في نظر البعض قريب من السلطة فإذا بمواقفه أقرب إلى اليسار... من أبرز السينمائيين التونسيين إذ هو الوحيد الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان بفيلم"حكاية بسيطة كهذه" وهو متوج بالبرونز والفضة والذهب في أيام قرطاج السينمائية سنوات 70و76و80... أسئلة كثيرة حارقة فرضت علينا محاورته والتفاصيل تقرؤونها في جزئين: _ أولا ما هو موقفك مما يجري من تقاتل في الساحة السينمائية على صفحات الجرائد وفي وسائل الإعلام؟ _ موقفي عقلاني، يحترم ما حدث في تونس وما يحدث اليوم من تحرر حقيقي لم يسبق أن عشناه سابقا إلا عندما تم الإعلان عن قيام الجمهورية التونسية يوم 25 جويلية 1957... لا أحد توقع ما حدث في تونس منذ 17 ديسمبر 2010 وحتى 14 جانفي 2011، ولكن للأسف لم يفهم بعض السينمائيين أن "انفجار" التونسيين ثم تحررهم أهم من المشاكل الثانوية التي يتقاتلون عليها... لو كان هؤلاء يمتلكون حدا أدنى من الوعي السياسي لما نزلوا إلى هذا المستوى من تبادل الاتهامات... _ ولكن هذا ضروري لتنظيف القطاع السينمائي وتطهيره خاصة أن جانبا من الملاحظين يعتبرون أن السينمائيين "يغرفون" من المال العام لتقديم أفلام "تافهة" و"تعمل العار"، وإنفاق "فلوس الدعم" في تشييد المنازل وشراء سيارات فخمة؟؟ _ لا أحصر التهم في ما كان يحدث من انفلات في السينما وحدها، بل في السياسة الثقافية التي كانت تبيح مثل هذه السلوكات... _ أي أن التشخيص في أن السينمائيين كانوا يصرفون أموال الدعم في حاجياتهم وبذخهم الشخصي صحيح؟ _ لا يمكنني أن أدافع عمن تجاوز ولكني أرفض كيل الاتهامات والتشهير بالقطاع دون براهين... بعض السينمائيين فعلوا ذلك ، والتجاوزات نفسها كانت تحدث في المسرح وفي الموسيقى وفي كل المجالات الثقافية، وعموما فلا أحد يحمي من تلاعب بالمال العام والتحقيق من الجهات المختصة كفيل بفتح جميع الملفات ومحاسبة من أخطأ... _ لا صبر للتونسي اليوم ويريد فتح جميع الملفات ومحاسبة كل نهب للمال العام في السينما؟ _ إذا كان الشعب "مسيسا" ويريد تنظيما شاملا في كل القطاعات، فليكن، لست ضد هذا المبدإ ولتتم محاسبة كل من تورط في نهب المال العام، ما دام الهدف نبيلا... _ شنوة اللي يلزم ينظاف في السينما؟ _ العقلية... وقد تساءلت سابقا وقلت ما هو دور السينمائي كمواطن أولا قبل إبداعه في وطن كهذا؟؟ الإنتاج السينمائي صعب، ويتطلب الكثير من الإمكانيات، ولذلك فعلى السينمائي أن يتريث ويفكر جيدا قبل أن ينجز فيلما، ويختار الموضوع المناسب بعد دراسته، حتى يثبت بإنتاجه أنه واع بدوره كسينمائي... بصراحة، في رصيد السينما التونسية تجارب كثيرة دون المستوى تسقط من الذاكرة وهذا مؤلم...ولكن من العيب أن نضع الجميع في سلة واحدة ...فالسينما كانت أكثر الفنون تصديا لخطاب السلطة في عهد بن علي وقبله في عهد بورقيبة ... _ يتهمكم جانب من المتابعين للسينما التونسية بأن أفلامكم لم تخرج من "الأزقة" و"الحمام"، والبحث في العقد الشخصية لمخرجيها؟ _ حاكموني على أفلامي التي لم تدخل "الحمام" لتخرج منه ولم تتعرض لعقدي الشخصية، كل ما قدمته من أفلام روائية وأخرى وثائقية عن القيروان1973 والصادقية 1976 وعن فرحات حشاد سنة 2002 وبورقيبة سنة 2003 يندرج في مشروع سياسي وحضاري كامل في ذهني منذ أول أفلامي "حكاية بسيطة كهذه" عام 1970 حتى "النخيل الجريح" في 2010... لا أعتقد أنني أخطأت في حق السينما التونسية ولا في حق التونسي بما قدمته من أفلام وأخطائي تبقى جزئية... _ ما هي أخطاؤك التي يمكن أن تعترف بها؟ ليس لي ما أخجل منه ويجعلني أطأطئ رأسي... لعلي لم أستجب إلى انتظارات الناس بما فيه الكفاية ... وربما غلبت مشروعي والدفاع عن موقفي الفكري على مزيد الاقتراب من هواجس الناس... _ نفهم من كلامك أن الثورة التي غيرت شكل النظام السياسي في تونس، لا بد أن يرافقها تحول في السياسة الثقافية، مع وجود أصوات تعتبرك من بين رموز مرحلة في السياسة الثقافية انتهت اليوم صلاحيتها، وحان الوقت لبروز الشباب العذري، الثوري؟ _ أولا أنا سينمائي، وكنت أنتج أفلاما قبل أن يعتلي "بن علي" سدة الحكم، وسأظل "سينمائيا" بعد هروب "بن علي"... أقترح على التونسي أفكاري ومشاريعي وهو حر في الحكم عليها بتقبلها أو رفضها... ووحده التاريخ سيثبت من تورط مع النظام السابق، ومن كان مستقلا، بعيدا في أفكاره ومشاريعه عن النظام الحاكم... شاهدوا أفلامي وحاسبوني عليها إن وجدتم فيها دعاية للسلطة... أنا مع أن تتغير السياسة الثقافية، فمن غير المعقول أن تصبح باسم "الطرابلسية" مخرجا أو مطربا ولا علاقة لك بالإخراج والطرب مثلا... لا بد أن يفرض المثقف نفسه بإنتاجه الفني لا بولائه للحاكم ولحاشيته... _ هل استفدت من نظام بن علي؟ _ بالعكس، أنا خسرت في عهد بن علي... _ خسرت شنوة؟ _ خسرت بعض حريتي كغيري من المثقفين ... وعشت صراعا مع ضميري يسائلني لماذا سقطت في الفخ؟ _ يعني طحت في الفخ؟ _ طحت في الفخ كيما التوانسة الكل... جميعنا تورط مع النظام السابق ، وحتى أغلب أحزاب المعارضة كانت تدق الطبول لبن علي منذ سنة 1988 حتى هروبه... لا أحد منا ولد يوم 15 جانفي... كنت أتابع ما يحدث، والنظام السابق لم يخصني بمعاملة إستثنائية ، بل يبدو أنه انزعج مني فاستعمل ضدي الأساليب التخويفية، (الفيسك)... وأذكر أنه طلب مني سنة 1991 أن أنجز برنامجا حول حصاد العام، وتقاتل بعض زملائي للفوز بهذا المشروع، واعترض بعضهم بكتابة مذكرات قالوا فيها إنهم أولى بالحديث عن إنجازات السابع من نوفمبر، من داخل التلفزة ومن خارجها أيضا، فكانت النتيجة أن تم الاستغناء عني في السنة الموالية ... وقد تم اختياري لإنجاز هذا الوثائقي لا لشيء إلا لأن شركتي حديثة العهد آنذاك وكانت تمتلك تقنيات لم تكن متوفرة لدى التلفزة... _ ومن كتب سيناريو هذا الوثائقي؟ _ الأستاذ "عبد الرؤوف الباسطي"... وهو صديقك؟ _ نعم هو صديقي "ما نحبش فيه" وإنسان محترم جدا... وليس من الشهامة أن ينقلب المرء على أصدقائه ...وصداقتنا ليست إبنة اليوم فقد ساندني في فيلم"سجنان" سنة 1974 ... دوري في الوثائقي هو تركيب الصور والمشاهد التي تختارها التلفزة مسبقا حسب الموضوع المصاحب لصوت "عبد الرؤوف الباسطي" في قراءة النص الذي نتسلمه مكتوبا...ويأتينا حتى الترتيب المطلوب للصور ... وللإشارة، لم تكن هذه البرامج للاستهلاك الداخلي، بل كانت موجهة أساسا للرأي العام الأجنبي عن طريق السفارات... _ لم يكن التونسي في الداخل في حاجة إلى هذه الأفلام ليقتنع بالإنجازات التاريخية للنظام النوفمبري؟ _ كانت التلفزة التونسية تقوم بدورها على أكمل وجه، وكانت تبث الأفلام الدعائية صباحا، مساء قبل شهرين من الاحتفال بذكرى "التحول المبارك"، وبعده أيضا... _ هل تعتبر نفسك خنت "عبد اللطيف بن عمار" الفنان بقبولك إنجاز مثل هذه الأفلام؟ وكيف تواجه إنتقادات الذين وجدوا في هذا الصنف من الوثائقيات مدخلا لضربك؟ _ شنوة تحبوني نعمل؟؟ ضميري أصعب من أي ناقد، وأفلامي لم تتورط مع النظام السابق، بل كنت فيها حريصا على احترام المشاهد التونسي أينما كان والتعبير عن طموح التونسي وهواجسه كما تمثلتها منذ مطلع السبعينات ، ومع ذلك لم أركب على الأحداث ولم أظهر لأعلن عن تقديمي مشروع فيلم يتحدث عن الثورة أو عن شهيدها وموقدها "محمد البوعزيزي"... التزمت بالقليل من الحياء وإن كانت أفلامي تبيح لي أن أكون فخورا برصيدي... _ تلمح إلى طارق بن عمار؟ _ ألمح إلى كل من يريد أن يصنع من نفسه بطلا بعد الثورة، وأنه كان مظلوما ومقموعا من النظام النوفمبري... لم يحدث في حياتي أن تحدثت عن الرعاية الموصولة لبن علي، ومن كان يردد ذلك أمام "كاميراوات" التلفزيون تحول بقدرة قادر إلى مناضل وهو أمر لا أستطيع أن أفعله احتراما لشهداء الثورة... بالنسبة إلى الوثائقيات النوفمبرية، يشهد الكثيرون أنني شيئا فشيئا بدأت في التهرب من إنجازها، وفي أقصى الحالات كنت أتابع عملية الميكساج...