توقفنا ونظرنا وفسرنا في المقال السابق ذلك المثل العظيم الذي ضربه الله تعالى في كتابه الكريم لوصف حال وسلوك ذلك الذي اتاه اياته وعلمه النافع لكنه قابله بالجحود والنكران والرفض واثر بحكم غلبة شهواته ولهفته على جمع متاع الحياة الدنيا ان يخلد الى الأرض فكان مثله كالكلب في حرصه ولهفته ولا احد طبعا يريد او يرضى ان يكون في مقام الكلب وخبث طبعه وهوان طينته وانني في هذا المقال ساقف عند مثل المغتاب الذي شنع وبشع الله صنيعه في ما انزل من ايات ذلك الكتاب الذي ضمنه مالا يستغنى عنه العاقل اللبيب من محاسن وفضائل الآداب التي ترتفع به الى اعلى واسمى المقامات والدرجات…. وقد جاء هذا المثل في سورة الحجرات اذ قال فيه تعالى بدقيق الألفاظ وجميل العبارات (...ولا يغتب بعضكم بعضا ايحب احدكم ان ياكل لحم اخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله ان الله تواب رحيم) ويقول الامام العلامة ابن قيم الجوزية في شرح هذا المثل(وهذا من احسن القياس التمثيلي فاه شبه تمزيق عرض الاخ بتمزيق لحمه ولما كان المغتاب يمزق عرض اخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت ولما كان المغتاب عاجزا عن دفعه عن نفسه يكونه غائبا عن ذمه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع ان يدفع عن نفسه ولما كان مقتضى الاخوة التراحم والتواصل و التناصر فعلق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذم والعيب والطعن كان ذلك نظير تقطيع لحم اخيه والأخوة تقتضي حفظه وصيانته والذب عنه ولما كان المغتاب متمتعا بعرض اخيه متفكها بغيبته وذمه متحليا بذلك شبهه الله تعالى باكل لحم اخيه بعد تقطيعه ولما كان المغتاب محبا لذلك معجبا به شبهه الله تعالى بمن ياكل لحم اخيه ميتا ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد اكله كما ان اكله قدر زائد على تمزيقه…. فتامل هذا التشبيه والتمثيل وحسن موقعه ومطابقة المعقول فيه المحسوس وتامل اخباره عنهم بكراهة لحم الأخ ميتا ووصفهم بذلك في اخر الاية والانكار عليهم في اولها ان يحب احدهم ذلك فكما ان هذا مكروه في طباعهم فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره؟ فاحتج عليهم بما كرهوه على ما احبوه وشبه لهم ما يحبونه بما هو اكره شيء اليهم وهم اشد شيء نفرة عنه فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة ان يكونوا اشد شيء نفرة عما هو نظيره ومشبهه وبالله التوفيق(اعلام الموقعين عن رب العالمين)ص135(دار الكتاب العربي)طبعة 2006...اما عن ابي ذاكر الذي اختار لقرائه هذه السطور القيمة الشيقة التي كتبت عن هذا المثل فانه يقول لهم ويذكرهم ويحذرهم اياكم ان تغتابوا اخوانكم ايها المغتابون فتكونوا كالذين ياكلون الجيفة النتنة النجسة وهم يتلذذون ويتفكهون بها وهم لا يشعرون وخاصة في شهر رمضان شهر الصيام فليعلموا انهم بهذا الصنيع قد افطروا وابطلوا الصيام ويا ليتهم افطروا على اكل لحم طيب يستسيغه ويقبله طبع الانسان ولكنهم قد ابطلوا صيامهم باكل لحم خبيث نتن ربما تعافه وتشمئز وتتقزز منه طباع وفطرة وجبلة بعض انواع البهائم وغيرها مما خلق الله من انواع السباع والحيوان...