ان ما يهز أركان اليمن اليوم من حرب عبثية لمسنا أخر حلقاتها هذا الأسبوع في عدن حين لم نعد نفهم شيئا ففريق يسميه انقلابا وفريق ثان يسميه تصحيحا بينما نحن مقتنعون كما جاء في تحليل قرأته في ندوة عقدها المعهد البريطاني للدراسات الاستراتيجية أن الذي مات في عدن هو ما يسمى التحالف أي الخطة الكارثية التي جمعت بين السعودية والإمارات للتدخل في اليمن و ينتهي تحليل المعهد إلى أن اليمن اليوم في الواقع مقسم إلى شمال تحت السعودية و جنوب تحت الإمارات! أردت في الحقيقة أن أعيد هذا الوضع المشين إلى جذوره وهي افتقاد بعض من يمسك بالسلطة في الوطن العربي إلى ثقافة الدولة. نفس الأسباب نجدها حين نقرأ مصائب ليبيا اليوم بين نواة شرعية و بين مطامع متمرد يقف وراءه نفس المحور السعودي الإماراتي بالتسليح و السند مع مصر السيسي و حتى لو عدنا إلى نماذج أخرى من انعدام ثقافة الدولة لدى العرب فإننا ندرك أن المجتمع المصري المهتز بالإرهاب و الاضطهاد و اغتيال الرئيس المنتخب محمد مرسي و ما يزعزع استقرارالعراق وما يؤجل وفاق تونس بل وما يدمر سوريا العزيزة هو من وجهة نظري المتواضعة افتقاد النخب السياسية من حاكمة و معارضة إلى ثقافة الدولة أو كما يسميها علماؤنا الأفاضل (فقه الدولة) وتلاحظون معي كيف تتخبط هذه النخب في الصراعات الأيديولوجية والتناقضات الحزبية وتؤثث بلاتوهات الفضائيات بالتجاذبات العقيمة حول جنس المجتمع (مثل جنس الملائكة) وحول هوية الشعب و حول دسترة القيم التي لا يؤمنون بها مع إلغاء كل رأي لا يعجبهم و إقصاء كل وجه لا يرتاحون إليه. فظللنا بعد ثورات الشباب العربي التلقائية والتي لم تكن لها قيادات نراوح مكاننا في نقطة الصفر بل نزلنا دونها في عديد المجالات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية وتقهقرت درجات تصنيفنا في المحافل المالية الدولية وفقدنا ثقة الجار والصديق بما ارتكبناه من أخطاء وبلغ الأمر في مصر إلى تبرير الانقلاب بل وتقديمه كوصفة جاهزة لإنهاء عرس إرادة الشعوب بالدبابة والمدفع كما بلغ الأمر في ليبيا بقصف المدنيين في المشافي و المدارس و المجمعات السكنية وبلغ الأمر في تونس مع الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها بدوران كل المرشحين في نفس الحلقة لأن لا أحد منهم قدم اقتراحا جديا بالتخلي عن نمط تنمية مفلس رهن البلاد في الديون و أدخلها في منطق التبعية و التذيل فالجميع “يصرح” و “يزيد وينقص” و“يطلع ويهبط” و“يبيع ويشتري” في حلقة مفرغة وفي فضاء افتراضي كأنما دخل كل فريق فقاعة كالشرنقة لا يبرحها فهو لا يسمع ما يقال خارجها ولا يسمعه الناس خارجها فالحوار انتهى إلى مهرجان الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها بظهور فقاقيع غريبة كأنها من كوكب أخر! واليوم حين نتأمل في نتائج حكم من جاءت بهم الثورات لابد أن نقر بالفشل مهما بررناه وبالتلعثم مهما فسرناه وبالفوضى مهما زيناها ولا نجد سببا جوهريا لخيبة مسعانا سوى ما سماه الدكتور سالم بوخداجة استهانة النخبة بالدولة فالاستهانة بالدولة هي الظاهرة التي نسجلها في تونس ومصر وليبيا واليمن و سوريا ولعل النخبة التي أفرزتها تلك الثورات تشبعت بثقافة المعارضة والسجون والمنافي وهي ثقافة صنعت من نلسن مانديلا رجل دولة ومن كثير من معارضينا رجال جدل عقيم وعجز مقيم. وأنا لا أفهم كيف يتكلم مثقف ديمقراطي قضى جزءا من حياته مدافعا عن حقوق الإنسان عن دولة بلاده واصفا إياها بالخراب. واكتشفت أن هذا المناضل لا يفرق بين الدولة والنظام ( بين دولة قائمة ومستمرة يسيرها رجال أكفاء ومحترمون وبين منظومة فساد منحصرة في مافيات الأصهار والمال الحرام)…. فالدولة التونسية مثلا أو المصرية هما مؤسستان ظلتا بالرغم من منظومة الفساد والاستبداد قلعتين صامدتين لم تهزهما عواصف الفاسدين والمفسدين واستمرت في خدمتهما أجيالا من التوانسة والمصريين فتوفر عبر الزمن المتقلب نصيب من الأمن وقبض الناس رواتبهم الشهرية ودافعت عنهم منظمات نقابية فازداد دخلهم وفتحت الدولة هنا وهناك روضاتها ومدارسها ومعاهدها وجامعاتها في وجوه الأجيال المتعاقبة كما أن الدولة الوطنية في تونس وفي مصر وفرت المستشفى ولو كان ناقص التجهيزات ومهدت الطريق ولو كان ذا حفر وأسست السدود والطرقات وعوضت المواد الأساسية الغذائية على مدى عقود و أعتقد أن هذه الدولة تحتاج الى إصلاحات جوهرية لا إلى هدم لأنها قابلة للتطور مثلما فعلت النخب التركية و الماليزية هذه هي الدولة التي راكمت قرونا من تجارب إدارة حياة الناس وسلمت من الدمار ولكن نخبنا العلمانية والإسلامية اعتبرتها خرابا يبابا وقررت تعويضها في لحظة فتنة الحكم ودوخة السلطة بإرتجال الهواة وتعيين الموالين العاجزين مكان الأكفاء المحايدين ظنا منها أن الحياة تبدأ من وصول هؤلاء "الثوار" إلى السلطة وأن لديهم وصفات سحرية لتسيير المجتمع بالوعود والشعارات. وكم مرة نصحت شخصيا بعض الحكام الجدد أن يخفضوا منسوب الحقد على من تولى المسؤوليات قبلهم في الإدارة ولم يخالفوا قانونا ولم يعتدوا على الناس ولم ينهبوا مالا ولم يهتكوا عرضا وقلت لهم لا تهينوا من تحمل الأمانة قبلكم بالهمز واللمز فتنعتونهم بوصمة الفلول والأزلام فتفقدون بفقدانهم كنزا من الخبرة وتسيير الإدارة والتعاطي مع الملفات. وسمع النصيحة بعضهم بينما نعتني البعض الأخر بأني من الفلول وألحقني بالأزلام!