حرصت طيلة السنوات التي تلت ا لرابع عشر من جانفي2011 أن لا أخوض في السياسة وتجاذباتها إيمانا مني بأنه ينبغي على العاقل ومن يحترم نفسه (ان يقول خيرا أو ليصمت)، وأن الزمن له مفعوله الايجابي في الوصول إلى كلمة سواء بين العقلاء وأننا جميعا يصدق علينا قول الإمام مالك وهو يقف على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلكم راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر)... ولانني لست من اولئك الذين يتنكرون لماضيهم فالرجولة (وينبغي أن تظل الرجولة قيمة مشرّفة) تقتضي الإعتراف بالنقائص والسلبيات مثلما تقتضي الاعتزاز بالايجابيات، وهي كثيرة عديدة بإعتراف الجميع إلا من يأبى والحديث مع هذا الصنف لايجدي نفعا... انا و(اعوذ بالله من الانا) تهيأ لي وهذا بالطبع هو ما قابل مرحلة هامة من عمري أن اكون في مابين أواخر ثمانينيات القرن الماضي ونهاية العشرية الاولى للقرن الحالي تهيأ لي أن اكون شاهدا ومن قريب على مرحلة من تاريخ تونس الحديث اعني المرحلة التي انتقل فيها الحكم بشكل سلس وحضاري من رئاسة الزعيم الحبيب بورقيبة إلى رئاسة وزيره الاول الرئيس زين العابدين بن علي رحمهما الله... واشهد أن المباركة لهذا التحول كانت تقريبا محل إجماع فقد كان انقاذا بحق للبلاد وللدولة التي انطلقت على اثره في تعزيز مكاسب دولة الاستقلال في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية (تمدرس إجباري وتغطية صحية شاملة وملكية مرتفعة للمساكن من قبل العائلات نعم وخريجون بالآلاف من الجامعات، مع الاسف لم تتوفر لهم فرص تشغيل بالقدر الكافي ووو) وأجواء من الامان والاطمئنان في منطقة شهدت في تلك المرحلة عشرية سوداء في الجزائر وحصارا مخنقا في ليبيا وكانت تونس في تلك الحقبة بحيرة أمن وسلام أمن به التونسيون والتونسيات في المدن و والقرى على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم على امتداد ساعات الليل والنهار واضحت به تونس حضيرة عمل في كل الميادين، حافظ بها الاقتصاد على نسبة نمو تجاوزت الخمسة بالمائة جنت خيراتها أغلب فئات الشعب ولا أريد أن اطيل في استعراض ما شهدت به لتونس الهيئات والمؤسسات المختصة وأهل الذكر اقدر مني على استعراض هذه المكاسب المرقمة هذه حقائق الكثيرون غيري يشهدون بها ولا يعني ما اقول أن الامور كانت على احسن ما يرام وانه لم تكن هناك نقائص وتجاوزات تسلطت على البعض افرادا و جماعات وجهات وقطاعات ومجالات فشيء من ذلك وقع ولامبرر لذلك خصوصا وانه في كان الامكان تلافيه وفي كان الامكان الاستجابة للكثير من التطلعات المشروعة للشعب بكل فئاته ومكوناته الفكرية والسياسية ولو وقع الاصغاء للكثيرين ممن لا تهمهم الطموحات الشخصية بقدر مايهمهم رقي تونس وشعبها الجديرين بذلك والمهيئين لوقع استكمال النقائص وتحقيق الاضافات المتميزة... في اعتقادي انه كان في إمكان تونس على الأقل في العشرية الاولى لحكم الرئيس زين العابدين بن علي رحمه الله أن يتحقق لتونس واجيالها الصاعدة ما ترنو إليه من تطلعات خصوصا والبنى الاساسية على كل الاصعدة جاهزة والضغوط الخارجية لم تكن بالحدة التي آلت اليها بداية من اول العشرية الاولى للالفية الجارية وهنا لابد من التسليم بان الملك عضوض كما جاء في الاثر ومحيط الرئيس زين العابدين بن على رحمه الله شدّد الطوق عليه ونحن لا نبتغي له العذر في هذا وكان عليه أن يتنبه ويتصرف قبل فوات الأوان ويراجع مساره ويعدله في اتجاه يقوم ويصحح ما وقع فيه من اخطاء جسام لا نهون منها في مجال حقوق الانسان والحريات والمضي ولو تدريجيا في التجربة الديموقراطية ففي ذلك الخير للبلاد تامينا لها من اي تدخل اجنبي في شؤونها وهو ما وقع بعد ذلك... وما ترتب عليه مما تعانيه اليوم البلاد مما نعيشه ونراه... حصيلة مرحلة حكم الرئيس زين العابدين بن علي رحمه الله تستحق من كل المخلصين من ابناء تونس المتسامين عن الضغائن والاحقاد (اذ لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب) أن ينكبوا عليها بالدراسة الموضوعية ولا أخالهم في نهاية المطاف الا خارجين بان الحصيلة ايجابية دون غض النظر عن سلبياتها وجراحاتها وما تسلط فيها من ظلم على البعض من ابنائها الذين يستحقون من الجميع التضامن معهم ولا أخال الرئيس زين العابدين بن علي رحمه الله الا انه قد راجع مسيرة حياته وما قام به فيها وقوّم ما له وماعليه وأنه لا شك يشاطر كل المنصفين في تقدير ما أنجز ونقد ما كان عليه أن يجتنبه ويتلافاه... وهناك في منفاه (ولو أن مكة لا يمكن أن تكون منفى بالنسبة للمسلم) قضى فيها بقية حياته (مايقارب العشر سنوات) بجوار بيت الله الحرام حيث يتوق كل مؤمن أن يناله شرف الجوار، وقد اكرم الله الرئيس زين العابدين بن علي أن تلتحق روحه ببارئها راضية مرضية ويدفن هناك في مقبرة مكة أين يرقد كبار الصحابة ومن تبعهم من سلف الامة الصالح في اشرف وأفضل بقاع الأرض في ذلك الجوار لبيت الله الحرام ولا شك ما خفف عنه مما قاساه من عذاب الغربة في تلك السنين الطوال التي قضاها بعيدا عن تونس التي أحبّها وتفانى قدر جهده في خدمتها في كل الوظائف التي تقلدها و كان آخرها رئاسة الدولة لما يزيد عن عقدين من عمر الزمان... كان يمكن لمن بايديهم مقاليد الامور وبعد أن مضت مدة من الزمن أن يقدروا للرجل بعض ما أسداه مما ذكرنا بعضه وأن يطووا صفحة الماضي وأن يسمحوا له أن يقضي بقية حياته في بلاده آمنا مطمئنا وكان يمكن أن يكون ذلك الأقل في الأشهرالاخيرة من حياته عندما اشتد به المرض ولو فعلوا ذلك لكبروا في أعين شعبهم ولأرسوا لبنة في صرح التحضر والتمدن نقطع بها مع سلبيات الماضي...ولكنه مع الاسف الشديد كأنه مكتوب علينا معاشر التونسيين أن لا نتحرر من الكراهية والحقد وان نظل ضاربين عرض الحائط بهدي ديننا ونبينا عليه الصلاة والسلام الذي خاطب قريش يوم الفتح بقوله (لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء)... لا نملك في آخر هذه الخواطر إلا أن نتوجه إلى الله بخالص الدعاء أن يتغمد فقيد تونس الرئيس زين العابدين بن علي بواسع رحمته وأن يرزق اهله وذويه وكل محبيه من أبناء تونس جميل الصبر والسلوان.. وإنا لله وإنا اليه راجعون..