كنت طيلة الأيام والليالي التي أمضيتها في باليرمو أتساءل: هل أبقى بهذه المدينة.. أو اتجه شمالا.. وأتوغل في أوروبا.. أم أعود من حيث أتيت؟ كل يوم يلحّ عليّ السؤال أكثر فأكثر.. أما الليل فإنني أقضيه أتقلب على الفراش الى أن تدق أجراس الكنيسة القريبة من حيث كنت أقيم.. يوميا وفي ساعة أولى من ساعات الصباح تشدّني أجراس الكنيسة التي لم أعرفها من قبل وأسمعها لأول مرة.. وفي مدينة باليرمو كثير من الكنائس الفخمة.. والجميلة.. والرائعة من حيث معمارها.. وأجراسها كأنها موسيقى.. وفي كل مرة أقترب فيها من كنيسة أفكّر في الدخول إليها.. فأتقدم خطوة ثم أتردد.. إنني أريد أن أرى قديسا من القدّيسين.. وأريد أن أحكي معه.. وأريد أن أعترف له.. وأريد أن يسمعني.. وأحيانا وأنا أمام الكنيسة تطرأ عليّ فكرة عرض خدماتي على سكانها من قديسين ورجال دين فأقترح عليهم أن أشتغل في الحديقة.. أو أن أتولى الحراسة مقابل النوم والأكل وبضع ليرات أبعث بها إلى أمي الخائفة من كل شيء.. أتطلّع إلى الكنيسة من الخارج.. وأتأمل واجهاتها طويلا.. وأتخيّل أنني دخلت.. ورحبوا بي.. وشغلوني.. ثم بعد فترة أجد نفسي وقد فهمت الدين المسيحي.. وقد وقعت في حبّه.. وأذكر أنني مررت ذات يوم من باب الجديد بالعاصمة فوجدت مكتبة صغيرة تقدم كتبا عن المسيحية والسيد المسيح.. وكانت الكتب صغيرة الحجم ولكنها «أنيقة».. وكان الذين يشرفون على المكتبة يحسنون اللغة العربية.. وكانوا هم كذلك في منتهى الأناقة.. ولباسهم بسيط وبالأبيض والأسود.. وخيّل إليّ أنهم «ملائكة» نزلوا من السماء.. وأنهم ليسوا مثلنا من البشر.. أمضيت حوالي ساعة في تلك المكتبة.. وحكيت.. وتحدثت مع «الملائكة» وكانوا في منتهى التواضع وأعطوني كيسا من الحلوى ثم قدّموا لي بعض الكتب باللغة العربية ومنها كتاب «إنجيل متى».. وطلبوا مني أن أعود إليهم بعد أن أقرأ تلك الكتب.. وخرجت من المكتبة وأنا في غاية الإعجاب بالمسيحية والسيد المسيح وظللت لعدة أيام أردد قول السيد المسيح «من ضربك على خدّك الأيمن فأدر له خدّك الأيسر».. وكنت أردده بمنتهى الإعجاب.. وحكيت لأمي.. وقلت لها إنني سأعود الى مكتبة «الملائكة» وأطلب منهم أن أصبح مثلهم «ملاكا».. وبمجرد أن سمعت المسكينة هذا الكلام حتى انخرطت في نوبة بكاء.. وكانت كثيرا ما تبكي.. وتبكي لأتفه الأسباب.. ثم بعد البكاء أخذت تلطم وجهها وتضرب رأسها إلى أن خفت عليها.. وعندما حاولت أن أهدئ من روعها رحت أنا كذلك في نوبة بكاء.. لقد تذكرت في تلك اللحظة أنني أنا وأمي نعمل بقول السيد المسيح قبل أن نعرفه فنحن لا نتلقى الصفعات على خدودنا ووجوهنا فقط.. بل نتلقاها على كل مكان.. إن الصفعات نازلة علينا من رؤوسنا الى أقدامنا!!! لقد ضربونا على كل المستويات.. وأكبر وأقوى ضربة والتي تكاد تبيدنا هي ضربة الفقر.. والتي قصمت ظهورنا الى درجة أن «ظهر» أمي تقوّس وصارت عندها انحناءة واضحة وهي في مقتبل العمر.. إنني لم أر أمي منذ أن ولدتني «مرفوعة القامة تمشي».. كانت المسكينة تتعامل مع الحياة والناس والظروف وكأنها تعتذر لهم عن وجودها.. وأنا الى الآن مازلت كذلك أتصرّف في هذه الحياة وكأنني عبء على البشر وما كان لي أن أولد.. أو أن أخرج الى الحياة أصلا.. ورغم أنني أتصرّف على هذا النحو باقتناع وأريحية فهناك من لا يكتفون بذلك فيشعرونني في كل مرّة وباستفزاز وشراسة ووقاحة بأنني موجود في المكان الخطإ والزمان الخطإ..