لست في حاجة لمعالجة وضع وحال وآلام ومخاطر تونس التي تحملتها وتتحمّلها بصبر – حتى الآن – طيلة تسع سنوات وقد تصبح عقدا كاملا إن بقيت دار لقمان على حالها، وهو ما يبدو في الأفق الذي فقد الشمس المضيئة والقمر المنير. لست في حاجة للحديث عن معاناة السواد الأعظم من أبناء هذا الوطن الذي أصبح أشبه شيء بفريسة تنهشها الذئاب الجائعة. لست في حاجة للتذكير بكل ذلك لأنه قد ذكر وعولج وحُلّل من طرف من يفوقونني أهلية ومقدرة وخبرة وإخلاصا ووطنية آخرهم اثنان قرأت لهما في إحدى الصحف الرقمية ما يغني عن كلّ كتابة أو قول وهما السيدان عياض بن عاشور وسمير الغربي. لم يكتف هذا الأخير بالعرض والتحليل، بل تقدم مشكورا باقتراحات عملية كي تخرج البلاد بمن فيها من الضيق والأزمة والشبكة التي وقعت فيها، بل أوقعها فيها ذوو الغايات والأهداف التي تعتبر، بعد التسلح بالتعقل والموضوعية والحياد، أنها لا ترمي البتة لغير مصالح عقائدية، حزبية، شخصية، ولا أضيف خارجية، لفقدان الدليل والبرهان الملموسين، إذ بدونهما لا يصح الكلام. قدّم السيد الغربي ثلاثة اقتراحات متفاوتة الإمكانات والنتائج، ثالثها هو الأكثر نجاعة والأشمل حاجة والملبي مطالب البلاد والعباد، لا يحتاج إلا الإرادة، التصميم، وترك الفردية، وارتداء ثوب الإخلاص ورداء توافر الجهود. دعنا من كلّ ما قاله ويقوله الكثيرون ولنفسح المجال أمام الأرقام ولندعها تتكلّم، فهي بعد كلّ شيء ليست سوى حقائق مرقومة مرقمة، تصدم كل ناكر عنيد. تسع سنوات أتتنا بخمسة رؤساء جمهورية (5)، تولى اثنان منهما بالوكالة. تسع سنوات منحتنا سبع حكومات (7) أولاها برئاسة أورثنا إياها النظام السابق. حكومة السيد السبسي شملت ثلاثة وعشرين وزيرا (23) وتسعة وكلاء وزارة (9) أو كتاب دولة بلغة التقليد والترجمة. السيد حمادي الجبالي كان أكرم، فرفع عدد وزراء حكومته إلى ثلاثين (30) وكتاب الدولة إلى أحد عشر كاتبا (11). تقشف السيد علي العريض فجعل وزراء حكومته ثمانية وعشرين (28) والوكلاء عشرة (10). أوتي بالتكنوقراطي السيد المهدي جمعة فخفّض عدد الوزراء إلى اثنين وعشرين (22)، وعدد كتاب الدولة إلى سبعة (7). أما صاحب التجربة والخبرة السيد الحبيب الصيد فقد رفع عدد الوزراء إلى سبعة وعشرين (27)، وعدد الوكلاء إلى أربعة عشر وكيلا (14). أخيرا تولى رئاسة الحكومة ولا يزال السيد يوسف الشاهد ومعه ستة وعشرون وزيرا (26) وأربعة عشر كاتب دولة (14). بقيت الحكومة الأولى التي أسميها "الوريثة" فقد شملت ثلاثة وعشرين وزيرا (23) وخمسة عشر كاتب دولة (15) فيكون المجموع مائة وتسعة وسبعين وزيرا (179) وثمانين كاتب دولة (80). يرتعد العاقل لسماع هذه الأرقام، لكنه يذهل ويفقد وعيه عندما يعلم قيمة مرتب كل وزير وكل كاتب دولة. أما إذا أضاف العلاوات، ومقابل المهمات والسفريات، وتكاليف السيارات وغيرها من المزايا الممنوحة لأصحاب لتلك المناصب دون غيرهم، فإنه يصاب بسكتة قلبية تنقذه من مغبة التفكير في أن كل وزير أو كاتب دولة سيستمر، عند تركه المهنة أو المسؤولية، في تقاضي منحة التقاعد المناسبة لمرتبه. ليت الأمر توقف ويتوقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى ما تحُول الأخلاق والأدب دون تسميته، وأعني التعويض. تعويض عن ماذا؟ عن عمل قمت به، فمن كلّفك به؟ ضميرك أو وطنيَّتُك أو دينك، فطالب بالتعويض ممن كلفك إذن. لأن الذين خدموا القضية الوطنية لا يحصى عددهم، منهم من استشهد، ومنهم من سُجن وعُذّب، منهم من هاجر يرجو رحمة الله، ولا أحد منهم طالب بتعويض ما، بل كثيرون هم الذين أنفقوا على ما قاموا به من مُدّخراتهم الخاصة. لنتذكر أنه ما أن أزيح الثوار عن الساحة واحتلها المحتلون، حتى طالبوا بالتعويض وعوّضوا أنفسهم ومن إليهم. باي قانون وأي حق تمّ ذلك؟ هل هناك من يعرف المبالغ التي صرفت باسم التعويض؟ لا يعلمها إلا الراسخون في العلم. من أين لك كل هذا؟ من خزينة الدولة العائشة بالديون والقروض، ولا يسلكها منها إلا الله. ليس هذا كل ما في الأمر. فنواب الشعب، ممثلوه الذين ينتظر منهم الدفاع عن مصالحه مصممون على وجوب بقاء الأمور بأيدي الساسة وحدهم، وإلا الويل كل الويل لمن يريد الخروج عن "السراط". جاءت حكومة تطلب التزكية فمنعت عنها بحجة أنها غير سياسية. وكما أن هذا لا يكفي، فقد تتالت التصريحات بأن الحكومة يجب أن تكون سياسية، فلا حكومة إلا من السياسيين، وهذا يلخص في "أريد المنصب لي أو على الأقل لزميلي أو رفيقي". فلنبحث أولا عن مصدر يمنح شهادة السياسة. ثمّ نسأل من هم السياسيون ومن هم غير السياسيين؟ ونسأل أيضا ما هي مكوّنات وصفات وخصائص السياسي؟ ونزيد تساؤلا، هل غير السياسيين ليسوا تونسيين؟ أليس لغير السياسي الحق في القيام بشؤون البلاد إذا توفرت فيه الكفاءة المفقودة لدى الكثيرين ممن يُدعون سياسيين. أما العبارات التي مجتها الأسماع لترديدها بدون اقتناع ولا إيمان، مثل النزاهة والخبرة والكفاءة، فهي بعض ما تحتاجه تونس الفريسة المنهوشة، أضيف إإلى هذه الاحتياجات الصدق والإخلاص لله وللوطن، إن كان في القلب إخلاص وإيمان– كما قال من قبل أبو البقاء الرُّندي وهو يرثي الأندلس: لمثل هذا يذوب القلب من كمد ** إن كان في القلب إخلاص وإيمان. مدريد 17-1-2020.