إن العمر الثالث، حسب التعبير الذي يتحاشى تأدبا نعته باسمه الحقيقي وهو الشيخوخة، له خصائص عديدة قد يكون أبرزها وأشهرها لدى العموم، ممن لم يبلغوا بعد ما يأهلهم لحمل ذلك الاسم، أو النعت المشرّف، اجترار الماضي والتحسر عليه، وما منه أكثر انتقادا من طرف الآخرين، هو مقارنتهم الحاضر بالماضي، وتفضيل هذا الأخير طبعا، مع إبراز محاسنه ومزاياه التي، في نظرهم، أعني السادة المسنين الشيوخ أصحاب العمر الثالث، كانت وبقيت أحسن وأفضل وأنسب مما أتت به السنون الحاضرة. دخلت، بفضل الله وعنايته، مرحلة العمر الثالث، مجال الشيخوخة، بقدم راسخ، أحمل على كاهليّ أعباء السنين، حلوها ومرّها، فرحها وحزنها، ضيقها ورحابتها، يسرها وعسرها، متّبعا، حسب نيتي واعتقادي على الأقل، ما قاله الله ورسوله، كما لُقِنته في الوسط العائلي، وكما تعلمته في دور العلم والدراسة، ولا حكم لي الآن على سيرتي وسلوكي إذ الحكم لله وحده، وما بوسعي سوى طلب عفوه وغفرانه، وممن عاشرت ومعهم تعاملت الصفح والعفو إن أخطأت أو اسأت. يأتي ذلك الاجترار وذلك التحسر خلال الوحدة التي يتعرّض إليها المسنّون، أو عندما يناقشون صغارهم بعد ملاحظات من أحد الجانبين. أما أنا، فلله المنة والفضل، لا أشكو الوحدة لأني، إذا غاب الإنس والجن من حولي، وجدت في الكتاب مؤنسا وفي القلم والقرطاس رفيقا، ولئن غاب اليوم القلم والقرطاس وحضر هذا الجهاز السحري العملي، سريع الإنجاز، كثير التخزين والاحتفاظ، المدعو بأسماء أجنبية أفضل عليها الاصطلاح العربي "حاسوب" كي لا يكون الاسم نشازا في موسيقى ما يكتب. رغم انعدام الوحدة والفراغ، فإني، ككل بشر حي يرزق، أخلو لنفسي أحيانا. كثرت هذه الأحيان منذ اندلاع الثورة وسقوط النظام السالف، وانفتاح باب، بل أبواب الأمل والتمنّي والطموح والانتظار، ترقبا لتحقيق الأحلام وإنجاز الطموحات. أخلو لنفسي كلما سمعت أو قرأت خبرا غير سار، ينبئ بما لم أكن أنتظره أو أتصوّره من أبناء وطن، ظننت أني خبرته وخبرت مواطنيه، اعتمادا على تجارب الماضي طبعا، فلا أصدق أن ما قرأته أو سمعته صدقا وحقيقة. أغمض إذّاك عينيّفأجترّ وأجترّ، أكثر من ناقة حلوب،متسائلا من أين أتى هذا لتونس. بيني وبين نفسي، محدّثا إياها بصوت مسموع في بعض الأحيان، أضع الحاضر في الميزان، ولا مناص من وضع الماضي في الكفة الأخرى. أحاول أن أكون منصفا، محايدا، موضوعيّا، متناسيا بعض صفات الماضي وحسناته، لكن بالرغم منّي أرى كفة هذا الأخير تثقل وتثقل حتى لأظن أني نسيت أن أضع الحاضر في الكفة الأخرى.معظم ما عرف عن الشعب التونسي يكاد يكون مفقودا. تغيّر الكثير إلى أسوأ، لا حسب حكمي، بل حسب ما يقال ويكرّر بالداخل والخارج. الأخلاق والتصرفات العامة، السيرة، المعاملة، فهم الحلال والحرام، مفهوم الوطنية، عزة النفس والكرامة – من طلبات الثورة لفقدانها – وقائمة طويلة من المبادئ والأخلاقيات والمشاعر الجماعية ليست اللغة دونها، فهي أيضا تدهورت كي لا أقول ضاعت. لا أعني باللغة اللسان العربي الفصيح، لأن ذلك له شأن وقول آخر، بل لغتنا الشعبية، لغة "ممّاتي وممّاتك"، لغة العروي، كما سمّيت، هي الأخرى أصابها ما أصاب البلاد من انحلال، وتدهور، وضياع سبيل وأهداف. أنا ابن جيل، ورث، عن سابقه والسلف أيضا، زبدة وخلاصة أسس ومبادئ، وطرق وضوابط، وإخلاص وتضحية، وغير هذه كثير، مما يمكن تسميته أسس وقواعد الوطنية، أو دروب ومسالك الانتماء إلى الوطن، أو النضال من أجل الوطن. جيل جرت في شرايينه وعروقه، مبادئ وقوانين وشروط العمل مع الجميع، من أجل الجميع، أخذها عن الجيل الذي سبقه والسلف، فأسعده الحظ والعمل الجماعي، بإخلاص وانضباط، أن إنزاح المستعمر وكابوسه على يديه. جيل أخذ عمّن سبقه متتلمذا عليه، نكران الذات، تسبيق الغير عن النفس، سمو وفائدة التضامن والتآزر، الصدق في القول والوفاء بالعهد، فكان ما كان من وحدة كلمة وصف، وقوة وسير دؤوب، وعزيمة وتضحيات، فكانت النتيجة نصرا وتوفيقا. إن كل هذا، في نظري المتواضع على الأقل،ناتج عن أنّ الأغلبية الساحقة من الناشطين، قادة أو تابعين، كانوا وطنيين لا سياسيين، ولو استعمل القادة السياسة عند الوجوب. كانوا وطنيين لأن الوطني يعطي ويضحي ولا يأخذ، أما السياسي يأخذ ولا يعطي، ويضحي بالآخر لبلوغ غاياته. الوطني يعد ويفي، بينما السياسي يعد ولا يفي بوعده، بل وعوده لأنه يكثر منها ليقينه أنه ليس في حاجة للبحث أو التعب لتحقيقها، فهو لا يفكر في الوفاء بها. الوطني غاياته جماعية، بينما السياسي غاياته فردية شخصية أنانية.أخيرا لا آخرا، الوطني يحاول أن تكون الوسيلة تبرّر الغاية، لكن السياسي مبدأه الغاية تبرّر الوسيلة. يضيق المقام عن شرح وتأريخ كيف بلغ شعبنا هذا التكوين وهذه التربية الكاملة الشاملة، دينيا واجتماعيا وثقافيا ووطنيا، فالفضل لسلف بعيد وقريب زمنيا، لم يعد يذكره إلا القليلون، معظمهم تتلمذوا عن جيل أو آخر. قد يفهم قولي بما ليس فيه. يجب الفهم والتيقن أني لا أعني أن شعبنا ومجتمعنا كان منزها كامل الصفات. الكمال لله ورسوله. فالشذوذ لم يفقد، والخروج عن الصف كذلك، والرضوخ للأنانية وحب الذات والمصالح الخاصة أيضا، وغير هذه من النقائص التي لا يخلو منها بشر أو مجتمع. لكن الحكم للأغلبية وبالأغلبية وعلى الأغلبية، وليست أغلبية خمسين وواحد، بل أغلبية تفوق الثلثين وأكثر في بعض الأحيان والظروف. أغلبية تختلف كلّية عن أغلبية ما يسمّى مجلس نواب الشعب، ورغم هذا رفض بموجبها تزكية حكومة، لا فائدة من توقفي عند ما توفرت فيها من صفات جديرة بإخراج تونس من بعض، إن لم يكن الكل، مما هي غارقة فيه. لماذا رفضت؟ قالوا لأنها غير سياسية، وأضاف بعضهم: يجب أن تكون من الأحزاب، وعلى السامع أن يضيف وإلى الأحزاب.هل هذا يعني أن من لا ينتمي إلى حزب من الأحزاب، صحت تسميتها بهذا الاسم أو غيره، ليس له حق المواطنة والمساهمة في العمل من أجل الوطن ولمصلحة الوطن؟ هل خدمة الوطن موقوفة على مكوّني الأحزاب والمنتسبين إليها؟ تكثر الأسئلة هنا والتساؤلات، ولا جواب سوى "بيدي ولا بيد عمرو" بعكس مفهوم هذا المثل، أي لي لا لعمرو،وهو الأصح، لذا أبلغ جواب نجده في المثل الشعبي: "الماء الماشي للسدرة، الزيتونة أولى به". فالشعب سدرة والسادة النواب المتحزبون زيتونة. والفاهم يفهم. لذا، وبعد كل هذا، وأمام المهزلة المؤسفة المخجلة، التي نشاهدها منذ قرابة العقد، أقول لمن نصبوا أنفسهم قادة وسياسيين، أن يرحمونا ويرحموا هذا الشعب من مضغ وتكرار مفردات وعبارات ووعود، هي نفسها لدى كل فرد وكل كتلة، لأنها أصبحت بلا معنى، خاوية جوفاء، يعرف الشعب باسره أنها لغو وملء فراغ، والغاية المقصودة من الناطقين بها غير المعلنة. أقول لهم بكل صدق ورأفة، ارحموا أنفسكم قبل أن يصيبكم ما ليس في الحسبان فيحمل الطوفان الجميع، لا قدر الله، لأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيرلله انقطع وانفصل. مدريد في 20-1-2020.