في إطار الحكومة الجديدة التي شكلها محمد مزالي ، بعد مرض الوزير الأول الهادي نويرة ، الذي أصيب بالفالج ،( يبدو على خلفية الهجوم الليبي الجزائري على تونس في قفصة ، بقصد تفكيك الوطن التونسي ، وإقامة جماهيرية شعبية انطلاقا من مدينة قفصة بتواطئ بين جزائر هواري بومدين ، الذي كان عبد العزيز بوتفليقة ، أقرب المقربين إليه ، ومعمر القذافي ، باعتماد عدد من التونسيين الموتورين ، وهو حلم لم يتحقق بفضل وقوف التونسيين ضد هذا المشروع الذي لم تتحدد ملامحه بوضوح آنذاك ، وتضامن عربي دولي ، فرنسي أمريكي مغربي مصري ، رغم أن العلاقات كانت مقطوعة مع مصر السادات أيامها ) ، في ذلك الاطار جاءت حكومة محمد مزالي ، بخلفية تحرير الحياة السياسية ، معاضدة " لتحرير" الحياة الاقتصادية ، التي كان يقال إن الهادي نويرة نفذها منذ جاء للحكم في بداية السبعينيات. ومن هنا تشكلت حكومة مزالي بأسماء كبيرة ، وخاصة ممن وضعهم على الرف الوزير الأول نويرة ، تولى منصور معلى وزارة التخطيط والمالية ، وأشرف على إعداد المخطط الجديد ، بعد أن كان أشرف على إعداد مخطط 1972/1976 ، وعبد العزيز الأصرم في الاقتصاد ، وحسان بلخوجة في الخارجية ، والطاهر بلخوجة في الاعلام ، وإدريس قيقة في الداخلية ، وغيرهم من القامات الكبيرة التي تشكلت منها حكومة قوية ، قادرة على الفعل. هنا سنتحدث عن الاعلام الذي أراد محمد مزالي في البداية أن يكون سهمه الأول في إطار تحرير الحياة السياسية ، وكان الاختيار من قبله للطاهر بالخوجة موفقا لتنفيذ سياسات تحررية ، وهو الرجل الذي أبدى فيما سبق إصرارا على اتباع سياسة متحررة ، وهو على رأس وزارة الداخلية المفترض أن تكون اليد المتصلبة للحكومة. ولي مع الطاهر بلخوجة قصة طويلة ، لم أكن أعرفه بقدر ما يعرفه مواطن عادي، وأقدر أنه لم يكن يعرفني البتة ، فمن أنا ليعرفني رجل وصل إلى أعلى المراتب ، كان ذلك في بداية السبعينيات ، وبمناسبة انعقاد مؤتمرات لجان التنسيق للحزب الاشتراكي الدستوري ، تم التقدير في رئاسة تحرير ، بأنها فرصة لمعرفة النبض الحقيقي للشعب، فقد ساد الشعور آنذاك أن النقاش داخل الحزب الحاكم يتسم بالصراحة أكثر مما هو الأمر خارجه ، ولم تكن تلك الصراحة تخرج للشعب ، وفعلا قامت رئاسة التحرير بتخصسص فريق من المحررين لتغطية كل تلك المؤتمرات ، مع التوصية بعدم وضع أي رقابة ذاتية ، على ما يصدر عن المؤتمرين ، وفعلا قامت الصباح وقتها بتعرية أشياء كثيرة سلبية مما يعتمل في ضمائر الدستوريين ( سواء مناضلين أو متسلقين) ، وللواقع فإننا لم نجد أي ممانعة من السلطة ، ربما لم يكن في تقديرها أن الأمر لم يكن مهما جدا،،،، بعد تغطية كل المؤتمرات ، توليت شخصيا القيام بعمل تأليفي لاستنتاج ما يمكن استنتاجه ، وعلى ثلاث حلقات طويلة ومركزة ، توليت إبراز أشياء لم يكن متوقعا إبرازها ، وإذ كان الأمر غير ملفت للإنتباه في بداية الأمر ، فقد أفادت جهات التوزيع في الجريدة ، أن أعدادا من المواطنين ممن فاتتهم تلك الحلقات توافدوا على الجريدة بكثافة لطلب نسخ منها ، لكن المفاجأة كانت عندما دعاني الرئيس المدير العام المرحوم الحبيب شيخ روحه إلى مكتبه ، حيث وجدته في غاية الاغتباط ضاحكا، وأبلغني أن وزير الداخلية الطاهر بلخوجة وهو صديقه منذ زمن طويل ، قد خاطبه بالهاتف مهنئا سواء بتغطية مؤتمرات لجان التنسيق ، أو خاصة بالتحليل السياسي الذي تولاه الصحفي عبد اللطيف الفراتي ، ورجاه إعلامي بذلك ، كنت للحقيقة مغتبطا بذلك التقييم ، ففي صحافتنا التونسية لم نكن متعودين على التحليل السياسي ، وكنت شغوفا بالتحاليل في جريدة لوموند ، وفي الإكسبريس ولونوفال أوبسارفاتو، وأيضا ما يأتينا من الشرق ، مثل النهار والأسبوع العربي ، والأهرام، وطفقت أبحث عن كتب الصحافة وأغراضها ، ابتداء من صنوف كتابة الخبر إلى الأغراض الأخرى ومنها الريبورتاج والحديث الصحفي ، والحملة ، وخاصة التحليل الصحفي أو التحليل السياسي ، وقد كتب ماهر المذيوب رسالة التخرج في علوم الصحافة ، بشأن التحليل السياسي الصحفي في تونس ، مبرزا أني شخصيا من السابقين فيه. لم أكن قد قابلت الطاهر بلخوجة ، رغم ما كان يصلني من أصداء عن إعجابه بكتاباتي عن طريق مديره للشؤون السياسية عبد الكريم موسى ، وهو الصحفي الذي رافق عددا من كبار السياسيين كمستشار مسموع الكلمة. في أحد أيام صيف 1978 ، دعاني عبد الكريم موسى إلى مكتبه ، وهي سابقة ، وكانت تلك أول مرة أدخل فيها إلى الوزارة ، عدا مرة سابقة استدعيت فيها لمحاسبتي على وضع توقيعي على بيان لفائدة أحمد بن صالح الوزير القوي الأسبق بعد إقالته. باختصار ، قال لي عبد الكريم موسى ، قد لا تعرف أن السيد الطاهر بلخوجة عندما كان سفيرا معتمدا في دول كل إفريقيا الغربية مع الاقامة في داكار ، ارتبط بصداقة عميقة ، مع السيد محمد علي حمادة، الذي أصبح رئيسا لمجلس إدارة مجموعة جريدة النهار التي يملكها غسان تويني ، ممثل لبنان آنذاك في الأممالمتحدة ، والسيدمحمد علي حمادة من القيادات الدرزية في لبنان ، وهو أب لمروان حمادة الوزير آنذاك ، ونادية حمادة زوجة غسان تويني وعرفت بأنها شاعرة مفوهة باللغة الفرنسية ، ونالت عدة جوائز، لم أكن أعرف ذلك ، جمعتنا جلسة أولى محمد علي حمادة ، وكان قد تجاوز سن التقاعد في الوظيفة بعد أن كان سفيرا ، وهو يجمع بين كياسة الرجل الذي قضى حياته في الديبلوماسية من أول سلمها إلى مستوى السفير ، وعبد الكريم موسى الصحفي رئيس التحرير الأسبق في جريدة العمل ، قبل أن يتولى السفارة في عدد من البلدان ، ثم يتولى الادارة العامة السياسية في وزارة الداخلية مع الطاهر بلخوجة ، والخارجية ، ثم في رئاسة الحكومة مع محمد مزالي ، ويتسم بحس فني مرهف ، كيف لا وزوحته إلى جانب قيادة عدد من المؤسسات ، كانت رسامة بارعة ، وكانت تنظم معارض لرسومها بصورة دورية ، وكنت ثالثهما ، وجاء العرض الرسمي بتولي مراسلة جريدة النهار العربي والدولي التي تصدر من باريس ، كان محمد علي حمادة يتحدث وبين يديه قصاصات من مقالاتي وافتتاحياتي بعضها قديم جدا يعود لسنوات، ، وكان يشير من طرف خفي إلى أن الكتابة في جريدة دولية تتطلب حيادية أكثر والانفصال عن كل ذاتية . انطلقت في التجربة مباشرة ، وكنت أرسل مقالاتي غير الحينية بالبريد ، بكلفة عن كل إرسالية ب25 دينارا عن كل رسالة ، أما المقالات أو الأخبار العاجلة وعادة في اليوم الأخير أو الساعات الأخيرة قبا القفل ، فكنت أمليها بالتلفون ، وكنت أسجلها على الريكوردر الذي مدوني به من باريس ، وكنت أسجل ذلك ثم عند الإرسال أستعمل سرعة كبرى ، وفي رئاسة التحرير يعيدونه إلى السرعة العادية قبل التفريغ. كانت تلك هي الخطوات الأولى في التعامل مع صحافة غير تونسية ، ولقد تعلمت كثيرا من هذا الاحتكاك مع عمالقة عرب ودوليين ، فقد تزاملت مع عبد الكريم أبو النصر وهو دائرة معارف واسعة ، ومقتنص أخبار لما يملكه من كنش أسماء وتليفونات عبر العالم ، وإلياس الديري الأديب الصحفي ، وأمين معلوف وهو أحد الكتاب الكبار في فرنسا ونال أكثر من جائزة عالمية ، والشهير مصطفى أمين رئيس تحرير الأخبار المصرية ، الذي كان بمثابة الشخص الملهم لمؤسسي الشرق الأوسط والعرب نيوز ومجلة المجلة وسيدتي ، وجهاد الخازن ، و محمد جاسم الصقر رئيس تحرير القبس ، ومجلة الوسط وخاصة غابريال طبراني وغسان شربل وجريدة الراية القطرية مع أحمد العلي والشرق . وكذلك بيزنيس ويك الأمريكية والمختار الأمريكية أيضا. وإذ كانت استفادتي كبيرة من مجاورة عمالقة في الصحافة العربية ، والدولية مثل باترك سيل ، فقد لمست الفارق بين التناول الصحفي في المدرستين الكبيرتين المصرية واللبنانية ، والتنافس بينهما خاصة أيام اشتغلت في الشرق الأوسط ، فالصحفيون اللبنانيون يعتمدون التقطيع وترتيب المقالات على أساس 1 و2 و 3 إلخ لسرد الأحبار والتحاليل وتطورها، بينما كان الزملاء المصريون يفضلون السردية المتدفقة على الطريقة الأنقوسكسونية. وقد اخترت منذ ذلك الوقت التعامل الصحفي وخاصة في التحاليل بالطريقة اللبنانية . ** إذن حصل توجه في اتجاه التحرر السياسي بمبادرة من المثقف محمد مزالي ، فحصل انفتاح حقيقي في التناول الصحفي ، من ذلك أن الطاهر بلخوجة بوصفه وزير الاعلام ، عمد إلى تنظيم بلاتو مباشر ، حول التوجات الاقتصادية المقبلة ، تولى قيادة فعالياته واحد من أفضل الصحفيين التلفزيونيين الحبيب حريز ، وهو يتميز بالجرأة بمقاييس ذلك الوقت ، وكان مسنودا من حسان بلخوجة وزير الخارجية ، والمسوع الكلمة لدى الرئيس الحبيب بورقيبة ، بسرعة تطرق الحديث بمبادرة مني إلى موضوع التعويض والدعم ، الذي كنت وما زلت أرى أنه غير عادل ، ويتوجه لمن يستحقونه ومن لا يستحقونه ، وأجاب منصور معلى بكل أريحية ، بأن الموضوع يستحق الدرس ، وينبغي العمل على إدراجه مستقبلا وتحديد الذين يستحقون الدعم وكيف يصرف إليهم ، مع تعديل تدريحي بعد ذلك في أسعار المواد المدعومة ، ما إن انتهى الوزير معلى من حديثه وربما حتى قبل إكماله ، حتى تدخل الوزير الأول محمد مزالي تليفونيا ومباشرة في البرنامح ، وفي تقديري أن محمد مزالي كان إلمامه الاقتصادي محدودا في أحسن الأحوال ليقول ، بانه لن تقع مراجعة أسعار المواد الأساسية بما فيها الخبز ، سكت منصورمعلى ، ولم يدخل في سجال مع الوزير الأول ، وفي قرارة نفسي لم أكن أشعر ، بأن ما حصل من الوزير الأول على المباشر ، ليس لائقا على الأقل ، ولا يمكن أن يصدر عن رجل دولة. في الأثناء اشتد الخلاف بين منصور معلى والطاهر بالخوجة وبشكل أقل مع وزير الاقتصاد عبد العزيز الأصرم ، وبين محمد مزالي ، واعتبر مزالي أنه حقق انتصارا عندما أقنع الرئيس بورقيبة بإقالة معلى وبلخوجة ، في انتظار استقالة عبد العزيز الأصرم ، الذي كان معارضا وهو وزير لمضاعفة أسعار الرغيف والمواد الأساسية ، وكان اعتقاده أنه لن يمر كبير وقت و يخلق للحكومة مشكلا مجتمعيا لا قبل لها به، انقاد محمدمزالي في تناقض كبير بينه وبين نفسه ، عندما تحول من معارض شديد كما حصل على التلفزيون ، لأي تغيير تدريجي في أسعار المواد الأساسية ، إلى متحمس شديد لمضاعفة أسعار الرغيف ومشتقات الحبوب، ورغم ما نبهه له البعض مثل عزوز الأصرم ، فإنه أصر على رأيه ، مقتنعا بأنه بذلك سيرضي الرئيس بورقيبة الذي زين له زكرياء بن مصطفى رئيس بلدية تونس ، أن هناك تبذيرا كبيرا في الخبز لتهاود ثمنه، وكان السباق على أشده على الخلافة ، وقد اشتد المرض بالرئيس بورقيبة ، وتكاثر التكالب لإرضائه بأي ثمن ، ولم يلعب محمد مزالي دوره في تخفيف غلواء الرئيس ، الذي كانوا يزينن له كل يوم أنه وجب ترفيع أسعار المواد الأساسية للضعف بعيدا عن أي منطق ، ولما كان البرلمان مجرد غرفة تسجيل مر الأمر بأغلبية كاسحة ، رغم معاضة الأعضاء من النقابيين، كما كانت معارضة اتحاد الشغل بزعامة الحبيب عاشور في قمة اللين، وأذكر أني ذهبت إلى منصور معلى في مقر البنك الذي كان يرأسه ، والذي تم إخراجه منه زمن الرئيس بن علي لرأي اعتبره معاكسا لما يراه ، وسألته مستفزا، ها هو مزالي الذي تدخل في التلفزيون ضد ما اقترحته من الزيادة في أسعار المواد الأساسية ، يعود إلى رأيك ، أجابني بشيء من الانفعال : ليس هذا رأيي ما كنت أرغب فيه هو أن نعوض لأصحاب الحاجة للدعم ، وبالتدريج ، ما تفعله الحكومة من قرار مضاعفة سعر الرغيف أو الدقيق والسميد والكسكسي والمكرونة وكل المشتقات ، هو قرارسيثير الناس ، ولن يمر بسلام. بعد أيام قليلة وفي مفتتح شهر جانفي 1984 ، دخل رئيس شعبة من شعب ولاية قبلي ، إلى عطار الحومة لشراء شيء من الدقيق أو السميد لا أذكر ، وعند الدفع فوجئ بأن الثمن هو ضعف ما كان يدفعه من، وساروا في مظاهرة عفوية منددين بالزيادة التي كان بدأ تطبيقها ، وقطرة بعد قطرة انتظمت المظاهرات في كل مكان ، ولعلع الرصاص وسقط من التونسيين عدد لست قادرا لليوم على إعطاء إحصائية عنهم. أعلنت حالة الطوارئ ، وفرض منع الجولان ، وتعرض موكب رئيس الدولة ، عند عودته من قصر هلال إلى المضايقة ، وهي أول مرة منذ الاستقلال ، وهتف الناس بسقوط بورقيبة ، وهو ما لم يكونوا يجرؤون عليه منذ سنوات طويلة. في اليوم الموالي أعلن بورقيبة بنفسه ، عن إسقاط القرارات حتى قبل العودة لمجلس النواب الذي صادق عليها ، ويقول العارفون إنه لو كان أخذ العصا من وسطها فقرر خفض الزيادة للنصف لبلع الشعب " الحربوشة " ، وكان يكون مسرورا ، ولكن غاب القرار السياسي المعقلن. يومها تم تثبيت محمد مزالي في موقعه كوزير أول ، وسقطت مطرقة ثقيلة ، على رأس وزير الداخلية ، إدريس قيقة، ومعاونيه ، تم التسريب فركب وزير الداخلية إدريس قيقة وطار إلى باريس ، بعد ساعات من صدور جريدة تبشر به معوضا لمحمد مزالي ، و تم سحبها قبل الوضع في السوق . ليلتها بعكس ما كان في 1978 كان الدور علي لمرافقة إصدار الصباح ليلا ، تسلحت بكمية من الفواكه وزجاجات المشروبات الغازية بما يكفي للعاملين ليلتها من مطبعيين وصحفيين ،،، خلال العودة للبيت ما بعد منتصف الليل ، لاحظت مدى جدية الحراسة المشتركة بين الأمن والجيش ، فقد تعددت نقط المراقبة وكانت أشدها في ساحة باستور ، حيث لم تكتف الدورية ، بمدها بترخيص الجولان ، بل كذلك بأوراقي الشخصية وأوراق السيارة ، وفي مستوى حي المهرجان ، انعطفت ألى اليسار مقدرا أن الدوريات سيكون عددها أقل ، وأنني سوف لن أضطر للوقوف مرتين أو ثلاثة قبل الوصول إلى بيتي في المنزه الأول ، وفعلا لم تعترضني دورية إلا في نقطة الالتقاء بين الطريق الرابطة بين الصيدلية المركزية ، والمنزه الأول ، وقررت من ليلتها أن أبيت على عين مكان الشغل ، في الليلة الموالية تسلحت بالمكسرات والمشروبات الغازية وترموس كبير من القهوة والآخر من الشاي، مع كامل العدة من فناجين وكؤوس ، ولم يكن قد درج بعد الماء المعدني على نطاق واسع ، كما تسلحت بمجموعات من أوراق اللعب رامي وبيلوت وشكبة، وأيضا قطع الدومينو، وقد لاحظت أهمية عدد الباقين مثلي في مكان العمل ، والذين فضلوا مثلي البقاء ، على ركوب مغامرة الدخول إلى بيوتهم، نام الكثيرون منا على كراسيهم ، فيما تكونت مجموعات للعب ، ارتفعت أصواتها وخلافاتها كما هي عادة اللاعبين ، وإذ كنت مشهورا بالقدرة على مقاومة النوم ، فقد لاحظت أنه لم يبق الكثيرون ساهرين ، وانفضت مجموعات اللاعبين و"المكندرين " منهم من نام على كرسي ومنهم من افترش مكتبا ، انتهى مفعول القهوة والشاي ، وقاومت النوم حتى جاء وقت رفع حظر التجوال في السادسة صباحا إن لم تخني الذاكرة ، في الحادية عشرة كنت في مكتبي لمشاركة صديقي المرحوم عبد الجليل دمق في الاشراف على إعداد الدفعة اليومية من جريدة الصباح ، التي كانت أيامها الأوسع انتشارا بين الصحف التونسية ، وكانت امتازت وقتها ،سواء بتنوع وصدقية أخبارها ، وبتعدد تحاليلها ، وأذكر لليوم وكان يوم أحد كتبت فيها افتتاحية تلقيت عنها عشرات إن لم يكن أكثر من المكالمات ، مقدرة شاكرة ، وبقدر وفق ما أذكر كانت تلك الافتتاحية متزنة ، فإنها كانت جريئة ، ولما بقيت في البيت يومها على اعتبار أن الصحيفة لا تصدر يوم الإثنين ، فوجئت بمكالمة متأخرة وقتا ، ولكنها أسعدتني كانت صادرة عن الأستاذ الدكتور عبد المجيد الشرفي ، لأاأذكر إن كان يومها عميدا لكلية الآداب أم لا ، غير أني سعدت بها وبما جاء فيها، وعبد المجيد الشرفي هو اليوم رئيس بيت الحكمة ، أعطاها من علمه ، وقدراته وحكمته ما جعلها مؤسسة علمية عالية الشأن ، تتمتع بسمعة عربية ودولية غير مسبوقة . هنا أيضا لم يعرف لحد الآن عدد ضحايا تلك المجزرة ، مجزرة ثورة الخبز ، غير أن ما أعرف أنه صدرت أحكام بالإعدام قاسية ، وما كنت أتابعه عن طريق رابطة حقوق الانسان الفتية أيامها ، أن مقابلة حاسمة جرت عن طريق باب موارب بين محمد الشرفي ( مرة أخرى شرفي ) الذي لم يكن وقتها قد أصبح رئيسا للرابطة ، " والماجدة " وسيلة بورقيبة ، على كره منه ، لأنه لم يكن يؤمن إلا بالتعامل مع من في يدهم شرعية القرار، وهي مقابلة أثمرت قرارا من الرئيس بورقيبة بالعفو عن أولئك الشبان ، الذين اتهموا بتأجيج الوضع " والتسبب " في قتل من قتل. ولعله جاء الوقت لاماطة اللثام عن أسرار ما حصل يوم 26 جانفي 1978 ، وجانفي 1984 وربما أيضا ، أسرار مجزرة جويلية 1961 من أحداث في بنزرت ، أورد جانبا منها الطاهر بلخوجة في مذكراته. والأحداث الثلاثة كان لها رجع صدى في مسار الأحداث في السياسة التونسية ، محمد مزالي نجح في إزاحة إدريس قيقة ، الأخير صاحب الوزن السياسي في حكومته ، وسفه أحلام من رجحوا صرفه من الوزارة الأولى ، فعادة بورقيبة كان ينتصر دائما لعضده الأعلى رتبة على حساب من يعتبره منافسا في انتظار الوقت المناسب للإجهاز عليه كفريسة بلا دفاع ، وكانت تلك الأحداث في جانفي 1984 ، مقدمة لسحب الثقة من مزالي ، فقد استعاد بورقيبة صلاحية ترؤس اجتماعات مجلس الوزراء ، قبل أن يقضي بعد عامين ونيف على مزالي ، ويدفع به للمحاكمة ولو غيابيا ، ويحاول القضاء عليه سياسيا ، ذلك هو بورقيبة في كما تعلم من فلسفة ميكيافيللي ، ونفذها طيلة حياته أحسن تنفيذ. [email protected]