الشكندالي: "القطاع الخاص هو السبيل الوحيد لخلق الثروة في تونس"    أجور لا تتجاوز 20 دينارًا: واقع العملات الفلاحيات في تونس    عشر مؤسسات تونسية متخصصة في تكنولوجيا المعلومات ستشارك في صالون "جيتكس أوروبا" في برلين    تونس.. زيادة في عدد السياح وعائدات القطاع بنسبة 8 بالمائة    نقابة الصحفيين تندد بحملة تحريض ضد زهير الجيس بعد استضافته لسهام بن سدرين    توزر: إمضاء اتفاقية بين ديوان تربية الماشية وتوفير المرعى والمندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية لتحسين إنتاجية وجودة المنتجات الحيوانية    جريمة قتل شاب بأكودة: الإطاحة بالقاتل ومشاركه وحجز كمية من الكوكايين و645 قرصا مخدرا    القيروان: انتشال جثة طفل جازف بالسباحة في بحيرة جبلية    تعاون ثقافي بين تونس قطر: "ماسح الأحذية" في المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للمونودراما بقرطاج    مدنين: مهرجان فرحات يامون للمسرح ينطلق في دورته 31 الجديدة في عرس للفنون    معرض تونس الدولي للكتاب يختتم فعالياته بندوات وتوقيعات وإصدارات جديدة    عاجل/ تسجيل إصابات بالطاعون لدى الحيوانات..    أسعار الغذاء تسجّل ارتفاعا عالميا.. #خبر_عاجل    منوبة: احتراق حافلة نقل حضري بالكامل دون تسجيل أضرار بشرية    عاجل/ سوريا: الغارات الاسرائيلية تطال القصر الرئاسي    النادي الصفاقسي: 7 غيابات في مباراة الترجي    غرفة القصّابين: أسعار الأضاحي لهذه السنة ''خيالية''    عاجل/ في بيان رسمي لبنان تحذر حماس..    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    جندوبة: سكان منطقة التوايتية عبد الجبار يستغيثون    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    في مظاهرة أمام منزله.. دروز إسرائيل يتهمون نتنياهو ب"الخيانة"    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    الإفريقي: الزمزمي يغيب واليفرني يعود لحراسة المرمى ضد النادي البنزرتي    عاجل : ما تحيّنش مطلبك قبل 15 ماي؟ تنسى الحصول على مقسم فرديّ معدّ للسكن!    عاجل/ قضية التسفير..تطورات جديدة…    استقرار نسبة الفائدة في السوق النقدية عند 7.5 %..    البرلمان : مقترح لتنقيح وإتمام فصلين من قانون آداء الخدمة الوطنية    الرابطة المحترفة الاولى: صافرة مغربية لمباراة الملعب التونسي والاتحاد المنستيري    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    إلى الأمهات الجدد... إليكِ أبرز أسباب بكاء الرضيع    ارتفاع تكلفة الترفيه للتونسيين بنسبة 30%    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    في سابقة خطيرة/ ينتحلون صفة أمنيين ويقومون بعملية سرقة..وهذه التفاصيل..    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    عاجل/ هلاك ستيني في حريق بمنزل..    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    سعر ''بلاطو العظم'' بين 6000 و 7000 مليم    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد اللطيف الفراتي يكتب لكم : من الذاكرة..ثورة الخبز
نشر في الصريح يوم 24 - 04 - 2020

في إطار الحكومة الجديدة التي شكلها محمد مزالي ، بعد مرض الوزير الأول الهادي نويرة ، الذي أصيب بالفالج ،( يبدو على خلفية الهجوم الليبي الجزائري على تونس في قفصة ، بقصد تفكيك الوطن التونسي ، وإقامة جماهيرية شعبية انطلاقا من مدينة قفصة بتواطئ بين جزائر هواري بومدين ، الذي كان عبد العزيز بوتفليقة ، أقرب المقربين إليه ، ومعمر القذافي ، باعتماد عدد من التونسيين الموتورين ، وهو حلم لم يتحقق بفضل وقوف التونسيين ضد هذا المشروع الذي لم تتحدد ملامحه بوضوح آنذاك ، وتضامن عربي دولي ، فرنسي أمريكي مغربي مصري ، رغم أن العلاقات كانت مقطوعة مع مصر السادات أيامها ) ، في ذلك الاطار جاءت حكومة محمد مزالي ، بخلفية تحرير الحياة السياسية ، معاضدة " لتحرير" الحياة الاقتصادية ، التي كان يقال إن الهادي نويرة نفذها منذ جاء للحكم في بداية السبعينيات.
ومن هنا تشكلت حكومة مزالي بأسماء كبيرة ، وخاصة ممن وضعهم على الرف الوزير الأول نويرة ، تولى منصور معلى وزارة التخطيط والمالية ، وأشرف على إعداد المخطط الجديد ، بعد أن كان أشرف على إعداد مخطط 1972/1976 ، وعبد العزيز الأصرم في الاقتصاد ، وحسان بلخوجة في الخارجية ، والطاهر بلخوجة في الاعلام ، وإدريس قيقة في الداخلية ، وغيرهم من القامات الكبيرة التي تشكلت منها حكومة قوية ، قادرة على الفعل.
هنا سنتحدث عن الاعلام الذي أراد محمد مزالي في البداية أن يكون سهمه الأول في إطار تحرير الحياة السياسية ، وكان الاختيار من قبله للطاهر بالخوجة موفقا لتنفيذ سياسات تحررية ، وهو الرجل الذي أبدى فيما سبق إصرارا على اتباع سياسة متحررة ، وهو على رأس وزارة الداخلية المفترض أن تكون اليد المتصلبة للحكومة.
ولي مع الطاهر بلخوجة قصة طويلة ، لم أكن أعرفه بقدر ما يعرفه مواطن عادي، وأقدر أنه لم يكن يعرفني البتة ، فمن أنا ليعرفني رجل وصل إلى أعلى المراتب ،
كان ذلك في بداية السبعينيات ، وبمناسبة انعقاد مؤتمرات لجان التنسيق للحزب الاشتراكي الدستوري ، تم التقدير في رئاسة تحرير ، بأنها فرصة لمعرفة النبض الحقيقي للشعب، فقد ساد الشعور آنذاك أن النقاش داخل الحزب الحاكم يتسم بالصراحة أكثر مما هو الأمر خارجه ، ولم تكن تلك الصراحة تخرج للشعب ، وفعلا قامت رئاسة التحرير بتخصسص فريق من المحررين لتغطية كل تلك المؤتمرات ، مع التوصية بعدم وضع أي رقابة ذاتية ، على ما يصدر عن المؤتمرين ، وفعلا قامت الصباح وقتها بتعرية أشياء كثيرة سلبية مما يعتمل في ضمائر الدستوريين ( سواء مناضلين أو متسلقين) ، وللواقع فإننا لم نجد أي ممانعة من السلطة ، ربما لم يكن في تقديرها أن الأمر لم يكن مهما جدا،،،، بعد تغطية كل المؤتمرات ، توليت شخصيا القيام بعمل تأليفي لاستنتاج ما يمكن استنتاجه ، وعلى ثلاث حلقات طويلة ومركزة ، توليت إبراز أشياء لم يكن متوقعا إبرازها ، وإذ كان الأمر غير ملفت للإنتباه في بداية الأمر ، فقد أفادت جهات التوزيع في الجريدة ، أن أعدادا من المواطنين ممن فاتتهم تلك الحلقات توافدوا على الجريدة بكثافة لطلب نسخ منها ، لكن المفاجأة كانت عندما دعاني الرئيس المدير العام المرحوم الحبيب شيخ روحه إلى مكتبه ، حيث وجدته في غاية الاغتباط ضاحكا، وأبلغني أن وزير الداخلية الطاهر بلخوجة وهو صديقه منذ زمن طويل ، قد خاطبه بالهاتف مهنئا سواء بتغطية مؤتمرات لجان التنسيق ، أو خاصة بالتحليل السياسي الذي تولاه الصحفي عبد اللطيف الفراتي ، ورجاه إعلامي بذلك ، كنت للحقيقة مغتبطا بذلك التقييم ، ففي صحافتنا التونسية لم نكن متعودين على التحليل السياسي ، وكنت شغوفا بالتحاليل في جريدة لوموند ، وفي الإكسبريس ولونوفال أوبسارفاتو، وأيضا ما يأتينا من الشرق ، مثل النهار والأسبوع العربي ، والأهرام، وطفقت أبحث عن كتب الصحافة وأغراضها ، ابتداء من صنوف كتابة الخبر إلى الأغراض الأخرى ومنها الريبورتاج والحديث الصحفي ، والحملة ، وخاصة التحليل الصحفي أو التحليل السياسي ، وقد كتب ماهر المذيوب رسالة التخرج في علوم الصحافة ، بشأن التحليل السياسي الصحفي في تونس ، مبرزا أني شخصيا من السابقين فيه.
لم أكن قد قابلت الطاهر بلخوجة ، رغم ما كان يصلني من أصداء عن إعجابه بكتاباتي عن طريق مديره للشؤون السياسية عبد الكريم موسى ، وهو الصحفي الذي رافق عددا من كبار السياسيين كمستشار مسموع الكلمة.
في أحد أيام صيف 1978 ، دعاني عبد الكريم موسى إلى مكتبه ، وهي سابقة ، وكانت تلك أول مرة أدخل فيها إلى الوزارة ، عدا مرة سابقة استدعيت فيها لمحاسبتي على وضع توقيعي على بيان لفائدة أحمد بن صالح الوزير القوي الأسبق بعد إقالته.
باختصار ، قال لي عبد الكريم موسى ، قد لا تعرف أن السيد الطاهر بلخوجة عندما كان سفيرا معتمدا في دول كل إفريقيا الغربية مع الاقامة في داكار ، ارتبط بصداقة عميقة ، مع السيد محمد علي حمادة، الذي أصبح رئيسا لمجلس إدارة مجموعة جريدة النهار التي يملكها غسان تويني ، ممثل لبنان آنذاك في الأمم المتحدة ، والسيدمحمد علي حمادة من القيادات الدرزية في لبنان ، وهو أب لمروان حمادة الوزير آنذاك ، ونادية حمادة زوجة غسان تويني وعرفت بأنها شاعرة مفوهة باللغة الفرنسية ، ونالت عدة جوائز، لم أكن أعرف ذلك ، جمعتنا جلسة أولى محمد علي حمادة ، وكان قد تجاوز سن التقاعد في الوظيفة بعد أن كان سفيرا ، وهو يجمع بين كياسة الرجل الذي قضى حياته في الديبلوماسية من أول سلمها إلى مستوى السفير ، وعبد الكريم موسى الصحفي رئيس التحرير الأسبق في جريدة العمل ، قبل أن يتولى السفارة في عدد من البلدان ، ثم يتولى الادارة العامة السياسية في وزارة الداخلية مع الطاهر بلخوجة ، والخارجية ، ثم في رئاسة الحكومة مع محمد مزالي ، ويتسم بحس فني مرهف ، كيف لا وزوحته إلى جانب قيادة عدد من المؤسسات ، كانت رسامة بارعة ، وكانت تنظم معارض لرسومها بصورة دورية ، وكنت ثالثهما ، وجاء العرض الرسمي بتولي مراسلة جريدة النهار العربي والدولي التي تصدر من باريس ، كان محمد علي حمادة يتحدث وبين يديه قصاصات من مقالاتي وافتتاحياتي بعضها قديم جدا يعود لسنوات، ، وكان يشير من طرف خفي إلى أن الكتابة في جريدة دولية تتطلب حيادية أكثر والانفصال عن كل ذاتية .
انطلقت في التجربة مباشرة ، وكنت أرسل مقالاتي غير الحينية بالبريد ، بكلفة عن كل إرسالية ب25 دينارا عن كل رسالة ، أما المقالات أو الأخبار العاجلة وعادة في اليوم الأخير أو الساعات الأخيرة قبا القفل ، فكنت أمليها بالتلفون ، وكنت أسجلها على الريكوردر الذي مدوني به من باريس ، وكنت أسجل ذلك ثم عند الإرسال أستعمل سرعة كبرى ، وفي رئاسة التحرير يعيدونه إلى السرعة العادية قبل التفريغ.
كانت تلك هي الخطوات الأولى في التعامل مع صحافة غير تونسية ، ولقد تعلمت كثيرا من هذا الاحتكاك مع عمالقة عرب ودوليين ، فقد تزاملت مع عبد الكريم أبو النصر وهو دائرة معارف واسعة ، ومقتنص أخبار لما يملكه من كنش أسماء وتليفونات عبر العالم ، وإلياس الديري الأديب الصحفي ، وأمين معلوف وهو أحد الكتاب الكبار في فرنسا ونال أكثر من جائزة عالمية ، والشهير مصطفى أمين رئيس تحرير الأخبار المصرية ، الذي كان بمثابة الشخص الملهم لمؤسسي الشرق الأوسط والعرب نيوز ومجلة المجلة وسيدتي ، وجهاد الخازن ، و محمد جاسم الصقر رئيس تحرير القبس ، ومجلة الوسط وخاصة غابريال طبراني وغسان شربل وجريدة الراية القطرية مع أحمد العلي والشرق . وكذلك بيزنيس ويك الأمريكية والمختار الأمريكية أيضا.
وإذ كانت استفادتي كبيرة من مجاورة عمالقة في الصحافة العربية ، والدولية مثل باترك سيل ، فقد لمست الفارق بين التناول الصحفي في المدرستين الكبيرتين المصرية واللبنانية ، والتنافس بينهما خاصة أيام اشتغلت في الشرق الأوسط ، فالصحفيون اللبنانيون يعتمدون التقطيع وترتيب المقالات على أساس 1 و2 و 3 إلخ لسرد الأحبار والتحاليل وتطورها، بينما كان الزملاء المصريون يفضلون السردية المتدفقة على الطريقة الأنقوسكسونية. وقد اخترت منذ ذلك الوقت التعامل الصحفي وخاصة في التحاليل بالطريقة اللبنانية .
**
إذن حصل توجه في اتجاه التحرر السياسي بمبادرة من المثقف محمد مزالي ، فحصل انفتاح حقيقي في التناول الصحفي ، من ذلك أن الطاهر بلخوجة بوصفه وزير الاعلام ، عمد إلى تنظيم بلاتو مباشر ، حول التوجات الاقتصادية المقبلة ، تولى قيادة فعالياته واحد من أفضل الصحفيين التلفزيونيين الحبيب حريز ، وهو يتميز بالجرأة بمقاييس ذلك الوقت ، وكان مسنودا من حسان بلخوجة وزير الخارجية ، والمسوع الكلمة لدى الرئيس الحبيب بورقيبة ، بسرعة تطرق الحديث بمبادرة مني إلى موضوع التعويض والدعم ، الذي كنت وما زلت أرى أنه غير عادل ، ويتوجه لمن يستحقونه ومن لا يستحقونه ، وأجاب منصور معلى بكل أريحية ، بأن الموضوع يستحق الدرس ، وينبغي العمل على إدراجه مستقبلا وتحديد الذين يستحقون الدعم وكيف يصرف إليهم ، مع تعديل تدريحي بعد ذلك في أسعار المواد المدعومة ، ما إن انتهى الوزير معلى من حديثه وربما حتى قبل إكماله ، حتى تدخل الوزير الأول محمد مزالي تليفونيا ومباشرة في البرنامح ، وفي تقديري أن محمد مزالي كان إلمامه الاقتصادي محدودا في أحسن الأحوال ليقول ، بانه لن تقع مراجعة أسعار المواد الأساسية بما فيها الخبز ، سكت منصورمعلى ، ولم يدخل في سجال مع الوزير الأول ، وفي قرارة نفسي لم أكن أشعر ، بأن ما حصل من الوزير الأول على المباشر ، ليس لائقا على الأقل ، ولا يمكن أن يصدر عن رجل دولة.
في الأثناء اشتد الخلاف بين منصور معلى والطاهر بالخوجة وبشكل أقل مع وزير الاقتصاد عبد العزيز الأصرم ، وبين محمد مزالي ، واعتبر مزالي أنه حقق انتصارا عندما أقنع الرئيس بورقيبة بإقالة معلى وبلخوجة ، في انتظار استقالة عبد العزيز الأصرم ، الذي كان معارضا وهو وزير لمضاعفة أسعار الرغيف والمواد الأساسية ، وكان اعتقاده أنه لن يمر كبير وقت و يخلق للحكومة مشكلا مجتمعيا لا قبل لها به، انقاد محمدمزالي في تناقض كبير بينه وبين نفسه ، عندما تحول من معارض شديد كما حصل على التلفزيون ، لأي تغيير تدريجي في أسعار المواد الأساسية ، إلى متحمس شديد لمضاعفة أسعار الرغيف ومشتقات الحبوب، ورغم ما نبهه له البعض مثل عزوز الأصرم ، فإنه أصر على رأيه ، مقتنعا بأنه بذلك سيرضي الرئيس بورقيبة الذي زين له زكرياء بن مصطفى رئيس بلدية تونس ، أن هناك تبذيرا كبيرا في الخبز لتهاود ثمنه، وكان السباق على أشده على الخلافة ، وقد اشتد المرض بالرئيس بورقيبة ، وتكاثر التكالب لإرضائه بأي ثمن ، ولم يلعب محمد مزالي دوره في تخفيف غلواء الرئيس ، الذي كانوا يزينن له كل يوم أنه وجب ترفيع أسعار المواد الأساسية للضعف بعيدا عن أي منطق ، ولما كان البرلمان مجرد غرفة تسجيل مر الأمر بأغلبية كاسحة ، رغم معاضة الأعضاء من النقابيين، كما كانت معارضة اتحاد الشغل بزعامة الحبيب عاشور في قمة اللين، وأذكر أني ذهبت إلى منصور معلى في مقر البنك الذي كان يرأسه ، والذي تم إخراجه منه زمن الرئيس بن علي لرأي اعتبره معاكسا لما يراه ، وسألته مستفزا، ها هو مزالي الذي تدخل في التلفزيون ضد ما اقترحته من الزيادة في أسعار المواد الأساسية ، يعود إلى رأيك ، أجابني بشيء من الانفعال : ليس هذا رأيي ما كنت أرغب فيه هو أن نعوض لأصحاب الحاجة للدعم ، وبالتدريج ، ما تفعله الحكومة من قرار مضاعفة سعر الرغيف أو الدقيق والسميد والكسكسي والمكرونة وكل المشتقات ، هو قرارسيثير الناس ، ولن يمر بسلام.
بعد أيام قليلة وفي مفتتح شهر جانفي 1984 ، دخل رئيس شعبة من شعب ولاية قبلي ، إلى عطار الحومة لشراء شيء من الدقيق أو السميد لا أذكر ، وعند الدفع فوجئ بأن الثمن هو ضعف ما كان يدفعه من، وساروا في مظاهرة عفوية منددين بالزيادة التي كان بدأ تطبيقها ، وقطرة بعد قطرة انتظمت المظاهرات في كل مكان ، ولعلع الرصاص وسقط من التونسيين عدد لست قادرا لليوم على إعطاء إحصائية عنهم.
أعلنت حالة الطوارئ ، وفرض منع الجولان ، وتعرض موكب رئيس الدولة ، عند عودته من قصر هلال إلى المضايقة ، وهي أول مرة منذ الاستقلال ، وهتف الناس بسقوط بورقيبة ، وهو ما لم يكونوا يجرؤون عليه منذ سنوات طويلة.
في اليوم الموالي أعلن بورقيبة بنفسه ، عن إسقاط القرارات حتى قبل العودة لمجلس النواب الذي صادق عليها ، ويقول العارفون إنه لو كان أخذ العصا من وسطها فقرر خفض الزيادة للنصف لبلع الشعب " الحربوشة " ، وكان يكون مسرورا ، ولكن غاب القرار السياسي المعقلن.
يومها تم تثبيت محمد مزالي في موقعه كوزير أول ، وسقطت مطرقة ثقيلة ، على رأس وزير الداخلية ، إدريس قيقة، ومعاونيه ، تم التسريب فركب وزير الداخلية إدريس قيقة وطار إلى باريس ، بعد ساعات من صدور جريدة تبشر به معوضا لمحمد مزالي ، و تم سحبها قبل الوضع في السوق .
ليلتها بعكس ما كان في 1978 كان الدور علي لمرافقة إصدار الصباح ليلا ، تسلحت بكمية من الفواكه وزجاجات المشروبات الغازية بما يكفي للعاملين ليلتها من مطبعيين وصحفيين ،،،
خلال العودة للبيت ما بعد منتصف الليل ، لاحظت مدى جدية الحراسة المشتركة بين الأمن والجيش ، فقد تعددت نقط المراقبة وكانت أشدها في ساحة باستور ، حيث لم تكتف الدورية ، بمدها بترخيص الجولان ، بل كذلك بأوراقي الشخصية وأوراق السيارة ، وفي مستوى حي المهرجان ، انعطفت ألى اليسار مقدرا أن الدوريات سيكون عددها أقل ، وأنني سوف لن أضطر للوقوف مرتين أو ثلاثة قبل الوصول إلى بيتي في المنزه الأول ، وفعلا لم تعترضني دورية إلا في نقطة الالتقاء بين الطريق الرابطة بين الصيدلية المركزية ، والمنزه الأول ، وقررت من ليلتها أن أبيت على عين مكان الشغل ، في الليلة الموالية تسلحت بالمكسرات والمشروبات الغازية وترموس كبير من القهوة والآخر من الشاي، مع كامل العدة من فناجين وكؤوس ، ولم يكن قد درج بعد الماء المعدني على نطاق واسع ، كما تسلحت بمجموعات من أوراق اللعب رامي وبيلوت وشكبة، وأيضا قطع الدومينو، وقد لاحظت أهمية عدد الباقين مثلي في مكان العمل ، والذين فضلوا مثلي البقاء ، على ركوب مغامرة الدخول إلى بيوتهم، نام الكثيرون منا على كراسيهم ، فيما تكونت مجموعات للعب ، ارتفعت أصواتها وخلافاتها كما هي عادة اللاعبين ، وإذ كنت مشهورا بالقدرة على مقاومة النوم ، فقد لاحظت أنه لم يبق الكثيرون ساهرين ، وانفضت مجموعات اللاعبين و"المكندرين " منهم من نام على كرسي ومنهم من افترش مكتبا ، انتهى مفعول القهوة والشاي ، وقاومت النوم حتى جاء وقت رفع حظر التجوال في السادسة صباحا إن لم تخني الذاكرة ، في الحادية عشرة كنت في مكتبي لمشاركة صديقي المرحوم عبد الجليل دمق في الاشراف على إعداد الدفعة اليومية من جريدة الصباح ، التي كانت أيامها الأوسع انتشارا بين الصحف التونسية ، وكانت امتازت وقتها ،سواء بتنوع وصدقية أخبارها ، وبتعدد تحاليلها ، وأذكر لليوم وكان يوم أحد كتبت فيها افتتاحية تلقيت عنها عشرات إن لم يكن أكثر من المكالمات ، مقدرة شاكرة ، وبقدر وفق ما أذكر كانت تلك الافتتاحية متزنة ، فإنها كانت جريئة ، ولما بقيت في البيت يومها على اعتبار أن الصحيفة لا تصدر يوم الإثنين ، فوجئت بمكالمة متأخرة وقتا ، ولكنها أسعدتني كانت صادرة عن الأستاذ الدكتور عبد المجيد الشرفي ، لأاأذكر إن كان يومها عميدا لكلية الآداب أم لا ، غير أني سعدت بها وبما جاء فيها، وعبد المجيد الشرفي هو اليوم رئيس بيت الحكمة ، أعطاها من علمه ، وقدراته وحكمته ما جعلها مؤسسة علمية عالية الشأن ، تتمتع بسمعة عربية ودولية غير مسبوقة .
هنا أيضا لم يعرف لحد الآن عدد ضحايا تلك المجزرة ، مجزرة ثورة الخبز ، غير أن ما أعرف أنه صدرت أحكام بالإعدام قاسية ، وما كنت أتابعه عن طريق رابطة حقوق الانسان الفتية أيامها ، أن مقابلة حاسمة جرت عن طريق باب موارب بين محمد الشرفي ( مرة أخرى شرفي ) الذي لم يكن وقتها قد أصبح رئيسا للرابطة ، " والماجدة " وسيلة بورقيبة ، على كره منه ، لأنه لم يكن يؤمن إلا بالتعامل مع من في يدهم شرعية القرار، وهي مقابلة أثمرت قرارا من الرئيس بورقيبة بالعفو عن أولئك الشبان ، الذين اتهموا بتأجيج الوضع " والتسبب " في قتل من قتل.
ولعله جاء الوقت لاماطة اللثام عن أسرار ما حصل يوم 26 جانفي 1978 ، وجانفي 1984 وربما أيضا ، أسرار مجزرة جويلية 1961 من أحداث في بنزرت ، أورد جانبا منها الطاهر بلخوجة في مذكراته.
والأحداث الثلاثة كان لها رجع صدى في مسار الأحداث في السياسة التونسية ، محمد مزالي نجح في إزاحة إدريس قيقة ، الأخير صاحب الوزن السياسي في حكومته ، وسفه أحلام من رجحوا صرفه من الوزارة الأولى ، فعادة بورقيبة كان ينتصر دائما لعضده الأعلى رتبة على حساب من يعتبره منافسا في انتظار الوقت المناسب للإجهاز عليه كفريسة بلا دفاع ، وكانت تلك الأحداث في جانفي 1984 ، مقدمة لسحب الثقة من مزالي ، فقد استعاد بورقيبة صلاحية ترؤس اجتماعات مجلس الوزراء ، قبل أن يقضي بعد عامين ونيف على مزالي ، ويدفع به للمحاكمة ولو غيابيا ، ويحاول القضاء عليه سياسيا ، ذلك هو بورقيبة في كما تعلم من فلسفة ميكيافيللي ، ونفذها طيلة حياته أحسن تنفيذ.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.