انتخاب عماد الدربالي رئيسا للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    عاجل/ انتخاب عماد الدربالي رئيسا لمجلس الجهات والأقاليم    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    مضاعفا سيولته مرتين: البنك العربي لتونس يطور ناتجه البنكي الى 357 مليون دينار    تخصيص 12 مليون م3 من المياه للري التكميلي ل38 ألف هكتار من مساحات الزراعات الكبرى    عاجل/ كشف هوية الرجل الذي هدّد بتفجير القنصلية الايرانية في باريس    الترجي الرياضي: يجب التصدي للمندسين والمخربين في مواجهة صن داونز    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 5 آخرين في حادث مرور    عاجل/ مفتّش عنه يختطف طفلة من أمام روضة بهذه الجهة    أبرز مباريات اليوم الجمعة.    كأس تونس لكرة السلة: البرنامج الكامل لمواجهات الدور ربع النهائي    نقابة الثانوي: وزيرة التربية تعهدت بإنتداب الأساتذة النواب.    وزارة التربية تقرر إرجاع المبالغ المقتطعة من أجور أساتذة على خلفية هذا الاحتجاج ّ    انزلاق حافلة سياحية في برج السدرية: التفاصيل    القصرين: تلميذ يطعن زميليْه في حافلة للنقل المدرسي    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    يورغن كلوب: الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيدنا    بطولة برشلونة للتنس: اليوناني تسيتسيباس يتأهل للدور ربع النهائي    تفاصيل القبض على 3 إرهابيين خطيرين بجبال القصرين    وزارة الفلاحة: رغم تسجيل عجز مائي.. وضعية السدود أفضل من العام الفارط    مستجدات الوضع الصحي للأستاذ الذي تعرض للطعن على يد تلميذه..    عاجل: زلزال يضرب تركيا    تنبيه/ رياح قوية على هذه المناطق في تونس..#خبر_عاجل    توزر: ضبط مروج مخدرات من ذوي السوابق العدلية    عاجل/ وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما..    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    كميّات الأمطار المسجلة بعدد من مناطق البلاد    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    قيس سعيد يُشرف على افتتاح الدورة 38 لمعرض الكتاب    الافراج عن كاتب عام نقابة تونس للطرقات السيارة    الخارجية: نتابع عن كثب الوضع الصحي للفنان الهادي ولد باب الله    استثمارات متوقعة بملياري دينار.. المنطقة الحرة ببن قردان مشروع واعد للتنمية    المنستير: ضبط شخص عمد إلى زراعة '' الماريخوانا '' للاتجار فيها    القيروان: هذا ما جاء في إعترافات التلميذ الذي حاول طعن أستاذه    الاحتلال يعتقل الأكاديمية نادرة شلهوب من القدس    المصور الفلسطيني معتز عزايزة يتصدر لائحة أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم لسنة 2024    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الجمعة 19 افريل 2024    عاجل/ مسؤول إسرائيلي يؤكد استهداف قاعدة بأصفهان..ومهاجمة 9 أهداف تابعة للحرس الثوري الايراني..    تجهيز كلية العلوم بهذه المعدات بدعم من البنك الألماني للتنمية    طيران الإمارات تعلق إنجاز إجراءات السفر للرحلات عبر دبي..    عاجل : هجوم إسرائيلي على أهداف في العمق الإيراني    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    بورصة تونس: "توننداكس" يقفل حصة الخميس على استقرار    جوهر لعذار يؤكدّ : النادي الصفاقسي يستأنف قرار الرابطة بخصوص الويكلو    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    سيدي بوزيد.. تتويج اعدادية المزونة في الملتقى الجهوي للمسرح    محمود قصيعة لإدارة مباراة الكأس بين النادي الصفاقسي ومستقبل المرسى    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    وزير الصحة يشدد في لقائه بمدير الوكالة المصرية للدواء على ضرورة العمل المشترك من أجل إنشاء مخابر لصناعة المواد الأولية    توزر: المؤسسات الاستشفائية بالجهة تسجّل حالات إسهال معوي فيروسي خلال الفترة الأخيرة (المدير الجهوي للصحة)    "سينما تدور": اطلاق أول تجربة للسينما المتجولة في تونس    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطاهر بوسمة يكتب لكم : محمد مزالي الاستثناء التونسي
نشر في الصريح يوم 25 - 07 - 2019

غادرنا نهائيا محمد مزالي رئيس الحكومة التونسية الأسبق في العهد البورقيبي يوم 23 جوان 2010، ودفن بالمنستير مسقط راْسه احتراما لتوصيته الاخيرة. كان ذلك قبل ثورة الحرية والكرامة التي انطلقت يوم 17 ديسمبر 2010 من سيدي بوزيد ولم يدركها بالرغم من أنه كان ينتظرها، بل كان يتمناها في أيّام منفاه التي طالت وأجبرته على هجرة قصرية استمرت لأكثر من 16 عاما قضاها في الغربة والحرقة عما كان يجري في تونس من انحرافات وتدهور للأوضاع التي كان يحسها ويتألم بسببها للحالة التي بلغتها تونس التي قضى فيها حياته مناضلا ومدرّسا وكاتبا ومديرا للشباب والرياضة ثم مديرا عاما للإذاعة والتلفزة الوطنية التي أنشأها من الصفر، وكانت حلما وأمنية للتونسيين، ليعين بعدها عضوا بالديوان السياسي للحزب الحاكم ووزيرا للشباب والرياضة قبل التربية الوطنية لمرات والصحة العمومية والدفاع الوطني وليتولى اخيرا الوزارة الأولى في فترة حرجة وفارقة تمر منها تونس وبعد محاولة زعزعة النظام والانقلاب عليه بأحداث قفصة الفاشلة ومرض الوزير الأسبق الهادي نويرة.
تذكرته في هذا الصيف الذي فارقنا في مثله ملتحقا بجوار ربه راضيا مرضيا بما فعله وقدمه خدمة للشباب والرياضة والفكر والأدب والثقافة والتعليم والصحة والسياسة سواء لما كان مناضلا عاديا أو مسؤولا أو كاتبا واديبا قبل أن يتولى الوزارة الأولى والأمانة العامة للحزب الأوحد الذي حاول فتحه للديمقراطية والرأي الآخر بالقدر المستطاع.
اكتب ذلك بصفتي من الشاهدين خاصة لما كنت معه نائبا في مجلس الأمة أو عضوا باللجنة المركزية للحزب الحاكم من مواقعي في السلطة والسياسة، رأيت كيف انقلبت عليه الدائرة المقربة وقتها من بورقيبة ولم تكن متعاونة معه، بل وأفسدوا عليه ما كان يقوم به وأفشلوه.
لقد تآمر عليه معسكر الشر في زمن خرف الرئيس الحبيب بورقيبة الذي استجاب لهؤلاء الذين أخافوه من تفتحه سياسيا وشنّوا حملة ممنهجة على الاتجاه الإسلامي الذي كانت قيادته وقتها مسجونة وخرجها محمد مزالي من السجون بنية اجراء مصالحة وطنية وادماجه هؤلاء في المسيرة الوطنية لتتعايش في نطاق الدستور الذي لم يكن يمنع التعدد لكل من يلتزم بالضوابط القانونية المتفق عليها في المؤتمر الاستثنائي للحزب الاشتراكي الدستوري الذي عقد مؤتمرا استثنائيا أجاز فيه بورقيبة علانية ذلك التمشي وصفق له المؤتمرون اقرارا ومباركة وتأييدا!
وأشهد أن محمد مزالي كان وقتها صادقا فيما كان يفعل ويقول، لقد كتبه لاحقا في مذكراته "نصيبي من الحقيقة" ولمن يريد أن يتأكد عليه بالرجوع اليها.
وتأكيداً لذلك أذكًر واقول بأن أول كتاب نشره مزالي كان في سلسلة "كتاب البعث" الذي كان يشرف عليه بالقاسم كرو في خمسينات القرن الماضي وكان عنوانه "الديمقراطية".
بل أكثر من ذلك كان عروبيا ومؤمنا بعروبة تونس وإسلامها وارتباطها بمحيطها الإفريقي والآسيوي الذي لم يكن يرتاح له أعداؤه من العلمانيين المتعلقين بفرنسا ونظامها الاستعماري، انهم كانون يتبعون خطواتها على حساب أصالة تونس وعروبتها التي لم تكن تتفق ومصلحتها الوطنية!
محمد مزالي الاستثناء:
لهذا ولغيره رأيت أن أخصه بهذا العنوان الذي أطلقته على هذا المقال وذلك تذكيرا بالمرحوم المتحدث عنه وتدليلاً على وجاهة ما اخترته صادقا عليه.
وللتذكير فالمرحوم محمد هو خريج المدرسة الصادقية بتونس وحامل لشهادتها الختامية والمتحصل على الإجازة في الفلسفة من جامعة السوربون الباريسية، كان يمكن له أن يكون لتلك الدولة الحامية مدينا، لأنه تعلم لغتها وعاش فيها سنين. ولكنه كان وطنيا صادقا يحب وطنه تونس أكثر من أي بلد آخر، ثم انه كان يميل للعروبة والإسلام، متمسكا بجذوره وجذور آبائه وأجداده من التونسيين الذين لم يتحملوا استعمار فرنسا طيلة 70سنة كاملة وثاروا عليها.
كل ذلك كان بالرغم من إتقانه للغة الفرنسية كتابة ونطقا والتفوق فيها، لانه لم يهمل أصوله التونسية، اذ بدا عمله مدرسا للفلسفة باللغة العربية في الزيتونة، وأسس بعدها مجلة "الفكر" التي استمر صدورها لثلاثين عاما، وكان لها الفضل في التعريف بالكتاب والشعراء التونسيين شرقا وغربا ولم يكن قبلها يعرف عنهم العرب شيئا مذكورا.
تعرفت عليه صدفة مبكرا ومنذ سنة 1965 لما كنت معتمدا بعين دراهم وجاءها للراحة والاستجمام من التعب الذي أصابه زمن تأسيسه للتلفزة التونسية، بأمر من أطبائه الذين نصحوه بها، ومن وقتها لم تنقطع صلتنا، حتى لما أصبح وزيرا وأنا واليا، وكان يسعى دائما لزيارتي في المناطق التي عملت فيها، وكم تجاوبنا وقتها معا وفي أغلب القضايا التي كانت تجمعنا فكريا.
لم أكن أشعر في حضرته بالحرج، بالرغم من اختلاف تكويننا في الدراسة، كنا وقتها نجابه التخلف والصعاب التي تعترضنا بكثير من الصبر والحكمة، وكم فاجأته ببعض المواقف التي كانت تشغلني وتحيرني، ولم أكن أفاتح بها غيره ممن كانوا أكبر مني مسؤولية، وذلك خشية من الصدّ أو الإحراج، ولكنني كنت أجده أكثر مني تفتحا وقبولا، حتى في القرارات المصيرية التي كان يأخذها بورقيبة، ولم يكن لها لدى الرأي العام قبولا.
توطدت صلتنا أكثر لما جمعتنا قائمة واحدة في انتخابات مجلس الأمة في نهاية سنة1979 عن دائرة المنستير، وكنا مرشحين من الحزب الواحد لتعرض أسماؤنا في قائمة واحدة مضاعفة على الناخبين، كان خطوة أولى اتخذها الحزب ولكنه لم يعدها بحجة ما نتج عنها من ردود فعل الساقطين ممن كانت اماكنهم دائما محجوزة. أدركت تلك الطريقة مرة واحدة وفزت فيها عن طبلبة كما فاز وقتها المتحدث عنه محمد مزالي عن المنستير وثلاثة اخرين من جملة العشرة المترشحين وفيهم عبد العزيز بن ضياء عن المكنين وعمر بالخيرية عن جمال ومحسن نويرة شقيق الوزير الاول عن المنستير بينما تم إسقاط المنجى الكعلي والأربعة المرشحين الإضافيين وكانوا من الإطارات الجهوية!
تحمل المرحوم محمد مزالي في تلك الفترة النيابية الوزارة الاولى إثر مرض سلفه الهادي نويرة، وازدادت صلتي به كثيرا، وكان كثيرا ما يعهد لي ببعض المهمات السرية التي كان من المصلحة معالجتها بغير القنوات الرسمية، وكنت وقتها اجمع بين النيابة في مجلس النواب ومهنة المحاماة التي اباشرها دائما من وقتها لتبلغ المدة اربعين سنة بالإضافة الى العشرين التي قضيتها معتمدا ووال أو وال للولاة بوزارة الداخلية. وكانت لي علاقات متسعة مع الطبقة السياسية.
محمد مزالي وزيرا أول:
اختاره بورقيبة أولا لمهمة التنسيق بين الوزراء لما طال غياب سلفه الهادي نويرة للعلاج بالخارج، وبعد أشهر تم إقراره في تلك الخطة كوزير أول، لقد بدأها في ظروف شديدة التعقيد داخليا وخارجيا، وبعد الهجوم على مدينة قفصة من طرف مجموعة مسلحة دخلت علينا من الجزائر بعد تسليحها وتدريبها سرا بليبيا، وكانت القيادة النقابية الشرعية وقتها مسجونة بعد أحداث الخميس الأسود الذي جرى فيه صدام بين التونسيين يوم 26 جانفي 1978.
كانت الدولة ايامها مشلولة بالرغم من التعاطف الذي ظهر تلقائيا من المواطنين الذين لم ينساقوا للعنف الذي كانت تسعى اليه دول مجاورة تريد إسقاط حكومة الهادي نويرة التي أفسدت اتفاقية الوحدة مع ليبيا الممضاة بجربة بين الرئيس بورقيبة والعقيد القذافي يوم 12 جانفي 1974 ولم ترض عنها الجزائر التي قال رئيسها وقتها هواري بومدين لبورقيبة الذي خاطبه لإعلامه وطلب الانخراط فيها قال له يومها مهددا، انه لا يركب القطار وهو يسير، لقد انطلقت ايامها اذاعة مجهولة تبث من خارج الحدود تدعو الموطنين للثورة على بورقيبة وذلك باستعمال الأسلحة المسربة خلسة لتونس والتي بقيت مكدسة في طرقات مدينة قفصة بدون ان يلتفت احد اليها.
جرت بعد تلك الاحداث محاكمات لمن تعمدوا المجازفة الفاشلة وتنفيذ الاحكام الصادرة ضد الفاعلين، ودخلت إثرها تونس في عهد جديد دشنه محمد مزالي بكثير من الحنكة والتسامح اعطت نتائج ايجابية.
لقد بدأ عهده بتحرير الاعلام وبإطلاق سراح المعارضين والنقابيين وبعودة المنظمة الشغيلة الشرعية بعدما نظمت لها مؤتمرا استثنائيا بقفصة أنتج قيادة جديدة وبقي الحبيب عاشور تحت الاستثناء لمدة إضافية تم رفعها اخيرا.
سعى بعدها محمد مزالي لعقد مؤتمر استثنائي للحزب الاشتراكي الدستوري في ربيع 1981 وافتك فيه من بورقيبة المبادرة بالسماح بتكون أحزاب ومنظمات اخرى قطعا مع ما كان جاريا من احتكار للسياسة من طرف الحزب الأوحد، وقام إثرها بتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في خريف 1981بعدما تم حل البرلمان إراديا وكان كله مشكلا من لون واحد، وذلك تجسيما للتعددية الحقيقية، بعدما أمضينا على لائحة انضباطا مع التعليمات الحزبية قبلنا فيها بحل المجلس النيابي تلقائيا.
لكن تلك الانتخابات الجديدة جرت حملتها في ظروف طيبة للغاية وشاهدها التونسيون على شاشات التلفاز وأمواج الأثير والاجتماعات العامة، لكنها لم تتجاوز حسن النية، ويوم الاقتراع عادت الامور الى طبيعتها لعادية، وتمت مضايقة الملاحظين من أحزاب المعارضة وتزوير النتائج في الاثناء ولم يفز فيها غير المرشحين من الحزب الحاكم وممن تحالف معه من الطامعين ومنهم اتحاد الشغالين في قيادته الجديدة.
علمنا فيما بعد ان تعليمات سرية عليا صدرت للمشرفين بإسقاط كل القائمات الغير البورقيبية، وكانت النكسة الأولي التي مني بها محمد مزالي. وقدرت وقتها أنه كان عليه أن ينسحب من الحكم ولكنه لم يفعل.
لم يقتصر خصومه على ذلك بل أقنعوا بورقيبة وأخافوه من الاتجاه الإسلامي الذي أراد مزالي أن يسمح له بالتعايش والتواجد مثل الأحزاب الأخرى المعارضة المرخص لها في النشاط ويبقيه تحت المجهر ويشترط عليه بالالتزام بالدستور وبالقانون واحترام القواعد المسطرة لكل الاحزاب المدنية، ولكن بورقيبة رأى خلاف ذلك، وأعادهم للمحاكمات والسجون وهو ما أفقد مزالي مصداقيته نهائيا، لقد بقي يحرث في البحر حتى جاءت نهايته التي تأخرت كثيرا وانتهت بتوريطه في أحداث الخبز التي لبسها لأنه أفرط في الترويج لها بالرغم من انه لم يكن موافقا عليها وقطع الحديث ذات ليلة على وزيره منصور معلى مباشرة لما كان يروج لها على شاشات التلفاز الوطني تمهيدا للتخفيف من الدعم المستفحل امره والذي اثر سلبا على التوازنات المالية، لقد ورطه فيها بورقيبة الذي تراجع فيها امام الاحداث الدموية التي عمت البلاد شرقا وغربا شملا وجنوب ومات فيها عدد من المتظاهرين، كانت انتفاضة تلقائية خلفت اثرا سيئا على الحكومة وخاصة على رئيسها الذي غير سياسته جذريا.
أحداث الخبز وما تبعها من تغيرات
في نهاية سنة 1983 وقبل إعداد ميزانية الدولة للسنة القادمة أذن بورقيبة برفع الدعم عن الرغيف ومشتقات الحبوب دفعة واحدة، مما استوجب تضعيف أثمانها دفعة واحدة؟
كان ذلك بعد مؤامرة أعدها أعداء الوزير الاول الذين نبهوا بورقيبة إلى التبذير الذي تفشى برمي فواضل الرغيف في المزابل، وإعطائه علفا للحيوان، لأنه بات أرخص ثمنا من العلف الطبيعي. وأقاموا الحجة على ذلك بواسطة شريط أعد للغرض خصيصا، ومرره في أخبار الثامنة مساء، وشاهده بورقيبة ليلتها، بالرغم من أنه لم يكن يهتم عادة بأخبار التلفزة ويفضل عليها الإذاعة التي لا يفرط في برنامجها يوميا.
لذلك أعطى تعليماته لوزيره الأول في الحال وأمره بتضعيف ثمن الرغيف ومشتقات الحبوب دفعة واحدة.
ومن المفارقات، أن وزير التخطيط والمالية وقتها منصور معلى كان أعلن عن نية الحكومة مراجعة صندوق الدعم الذي بات سببا في اختلال الموازنة، وكان ذلك في حوار تلفزي صادف أن كان الوزير الأول يتابعه ليلتها، فقاطعه وكذبه معلنا بأنه لا نية للحكومة في القيام بذلك،
لم يكن ذلك لائقا بالوزير الأول الذي كذب وزيره على الهواء مباشرة، ولكنه برر ذلك لما تعجبنا من فعلته تلك وفاتحناه ذات مساء، وكنا جماعة نتقابل معه كل يوم الأحد لنلعب معه لعبته المفضلة (البلوط) وكنت من بينهم، فقال لنا بأنه اضطر لذلك، لأن ذلك الوزير كان يعلم بخلاف ما قاله، وكان من ضمن الحاضرين في مجلس وزاري مضيق تقرر فيه عدم المسّ من ذلك الصندوق في تلك السنة!
وتمر الأيام بعدها ويجبر الوزير الأول على التراجع فيما قاله، نزولا عند رغبة رئيس الجمهورية الذي لا ترد له كلمة لو كُنتُم لا تعلمون.
حضرت فيما بعد تلك الاحداث بصفتي عضوا باللجنة المركزية للحزب الحاكم التي جمعها الأمين العام للحزب أيامها وتكلمت يومها كما تكلم غيري ونبهناه لما جرى بمصر والمغرب والأردن والسودان، لما قامت ثورات فيها عندما وقع المسّ من ثمن الغذاء وتراجعت الحكومات المذكورة في ذلك بعد سقوط ضحايا وشهداء فيها!
كما حضرت وشاركت في تلك الأحداث من قريب وخاصة لما زار بورقيبة يوم 3 جانفي 1984 مدينة قصر هلال للإشراف على ذكرى نصف قرن على انشقاق حزبه عن الحزب القديم، وكان كثيرا ما يفتخر بنجاحه فيه، كانت تلك المناسبة عزيزة عليه يحييها كل سنة بنفسه تقريبا، رأيت بعيني ما جرى فيها، وكيف يقطع الطريق على ركب الرئيس بورقيبة بالعجلات المحترقة ورمي سيارته بالحجارة، واضطرار البوليس إلى إطلاق الرصاص، في ذلك اليوم الذي تم قطع الزيارة الرئاسية فيه واختصارها عما كان مقررا اليها وتقديم أمسية ثقافية يتبارى فيها شعراء الفصحى والملحون بما كان يطرب اليه بورقيبة،
واضطر بورقيبة بعد مأدبة الغداء مغادرة المكان بسرعة إلى المنستير أين استراح قليلا في فندق من فنادقها والعودة للعاصمة في الطائرة المخصصة له لتلك المناسبة، كنت ضمن الوفد الذي عاد معه ليلتها للعاصمة، ورأينا من الفضاء كيف تشتعل الحرائق بتونس المدينة، ونتيجة لتلك الأجواء المكهربة، تراجع بورقيبة في قراره بالزيادة وألغاها كلها بعد ايّام عصيبة.
تسببت تلك الاحداث في موت العديد من الأنفس، وخسائر في الأملاك، أثرت على موقع الوزير الأول من يومها سلبيا.
تصرف الوزير الأول بعدها:
كنت شاهدا ومشاركا فيما بعد ذلك اليوم الذي تراجع فيه الرئيس في قراره بدون إعلام وزيره الاول محمد مزالي الذي استمع من وزيره للاقتصاد رشيد صفر الذي خير الوفاء له بانضباط ولم يحترم وصية السيدة وسيلة التي ترجته كي لا يخبر مزالي بالقرار الذي اتخذه بورقيبة ليلا ودعي وسائل الاعلام لنشر الخبر صباحا.
كلمني بالهاتف ليلتها آمر الحرس الوطني عامر غديرة ووضعني في الصورة ونبهني إلى أن مزالي كان يعتزم تقديم استقالته للرئيس في الصباح احتجاجا على تجاهله، وطلب مني النظر في تلافي ما يمكن تلافيه!
لم أكن أقدر على فعل أي شيء، إلا الاتصال بالوزير الأول ليلتها بعد الساعة العاشرة مساء، فأكد لَي الخبر ونيته في الاستقالة لأنه لم يعد له مكان، بعدما مات من مات وعاد الهدوء للبلاد نسبيا.
عارضته في ذلك وذكرته بأنه عليه أن يتذكر بأنه يعمل في نظام حكم رئاسي، يوجب عليه الطاعة العمياء، وأنه كان استجاب لأمر الرئيس ورفع بالزيادة، وعليه الآن التراجع بدون مناقشة.
لم يعدني ليلتها بشيء قطعا، ولكنه طمأنني بالتريث ليرى ما يمكن، وهكذا دوّن ذلك في مذكراته "نصيبي من الحقيقة" الذي نشرها في المنفى.
تصورت ليلتها لو تعنّت، فأن بورقيبة لن يغفر له ذلك، وسوف يقدمه قربانا للمحكمة العليا التي حاكم بواسطتها وزيره للتخطيط والمالية والاقتصاد الوطني والفلاحة والتربية الوطنية احمد بن صالح بعد عزله منها لما فشلت سياسة التعاضد التي كان بورقيبة يراهن عليها، لقد تورّط فيها بورقيبة، وأصيب بالإحباط وسافر للعلاج مرات ومرات للخارج ولم يشف من مرضه وبات يتمنى موت بن صالح ولو بالطرق الغير القضائية التي أحاله عليها بدون فائدة لان الاعمال كانت كلها مشمولة باجماع الحاكمين وعلى رأسهم بورقيبة.
اقول للتاريخ ان المحكمة العليا تم أحداثها بقانون لاحق عن الأفعال ولا يمكن للقضاء ان يحكم عن افعال سابقة ولو كانت محكمة عليا تختص بالخيانة العظمى؟
ذلك ما تصورته ليلتها ولم تكن حالة محمد مزالي مشابهة وقدرت انه سيقع ضحية للفشل الذي انتهت اليه الزيادة في أسعار الخبر ويكون كبش الفداء المناسب لأخطاء اركان الدولة
انتصار مزالي مؤاقا على خصومه
أما الذي حصل فهو تضحية بورقيبة بوزير للداخلية إدريس قيقة الذي استعجل وأرسل للوزير الأول ينصحه بالاستقالة بعدما حصل من معارضة جماهيرية.
رآى ذلك بورقيبة تجاوزا من وزيره للداخلية لصلاحياته، فأقاله في الحين وعهد بوزارة الداخلية للوزير الأول محمد مزالي، وتعيين قريبه عامر غديرة ككاتب دولة للداخلية ليساعده على تسييرها وفتيا، ومن ذلك اليوم تغيرت الأوضاع، وظن محمد مزالي أن بورقيبة بفعله ذلك جدّد ثقته فيه وزاده وزارة الداخلية كي يطمئن أكثر، ولكن الأيام كانت تخفي خلاف ذلك، وانتهى به الأمر إلى الأسوأ.
تغيرت المعادلة وعاد زين العابدين لموقعه السابق كمدير عام للأمن الوطني بعدما افتقد تلك الخطة اثر أحداث قفصة الدامية التي لم يتفطن اليها، فأرسل به إثرها سفيرا لتونس في بولونيا، ليستريح ويتدارك تقصيره الذي لم يدم طويلا، وعاد للحكم تدريجيا وانتهى أخيرا إلى الاستيلاء عليه ذات ليلة من شهر نوفمبر 1987 يوم السابع منه لما شعر بعزم بورقيبة على إقالته من موقعه لأسباب، قالوا إنه اكتشفها اخيرا وهي تدني مستواه العلمي.
وهكذا أراد الله لتونس أن تتحمل ما جرى لغيرها من الحكم المطلق والانحراف بها إلى أن جاءت الثورة المباركة، وتغيرت الأحوال، وأمكننا أن نتنفس ونكتب التاريخ كما هو بدون تزييف أو تدليس خدمة للحكام.
وأعود لمزالي الذي من وقتها خسر الجولة الثانية بعدما استبد برأيه ولم يعد يقبل في مديره للأمن العائد أي كلام يذكر، بل رقّاه لخطة كاتب دولة خلصته من رئاسة قريب الوزير الاول عامر غديرة الذي كان يشتكي لي من تجاوزات هذا المذكور بدون أن يسمع منه أحد لأي كلام.
ليس موضوعنا مسيرة زين العابدين بن علي هذه المرة، ولكن الأحداث تفرض علىَّ الكلام في بعض المراحل التي أوصلت مزالي إلى ما وصل إليه، خاصة لما اعتد برأيه ولم يعد يسمع أي كلام يسدى له مخالفا فيه.
لقد دخل في خصومة مع الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان يطالب بتحسين أوضاع العمال لمجابهة الغلاء الذي استفحل، وأذن بورقيبة وقتها بإيداع زعيمه الحبيب عاشور السجن بالرغم من التزام وزيره الأول أمام البرلمان بخلاف ذلك علنيا، ودخلت الحكومة من وقتها في هزات أدت بها إلى تشجيع قيام منظمة شغلية ثانية موازية، وتم في أغلب الأحيان استعمال الطرق الغير القانونية، وعشت تلك الأيام العصيبة ملاحظا وقريبا من محمد مزالي ووسيطا بينه وبين السيدة وسيلة التي كانت كثيرا ما تلتجئ لي لتبليغ الرسائل، ومثلها كان الوزير الأول محمد مزالي الذي في ربيع سنة 1986 بدأ يقع في العد التنازلي، إذ بدأ انتهاء عهده بمسلسل الاثنين الذي يقال فيه كل أسبوع أحد الوزراء المقربين منه وتعيين معارض له بدون علم او مشورة منه، ،حتى بقي وحده يقاوم إلى مؤتمر الحزب الذي انعقد في جوان 1986 ، فكانت النهاية التراجيدية التي أخرجت مزالي من الحكم نهائيا بالرغم من تأكيد بورقيبة له علنيا ثقته فيه.
لقد تمت إقالته يوم 8 جويلية 1986 إثر اجتماع عقده بورقيبة بالمنستير صباحا لم يحضره وزيره الأول، للنظر في القضايا الاقتصادية والمالية، وأقنع الحاضرون بورقيبة فيه بفشل الوزير الاول في ادارة الشأن الاقتصادي بدون أن يجابه بتلك القضية، لقد استمع بإنهاء مهامه بالإقالة في وكالة الأنباء الوطنية وتلك من عادات بورقيبة اذا اراد بأحد شرا.
زرته صباح اليوم الموالي، في مقره بسكرة، ووجده وحيدا، ولم يقطع علينا جلستنا يومها احد من المتطفلين وكانوا قبلها كثر!
المحنة التي مر بها مزالي والعودة
لم تكن له خطة ولم يكن يعرف ما يفعله وخير انتظار تطور الامور ولكنه كان يفكر في التفرغ للرياضة واللجنة الأولمبية ومجلة الفكر ونسي ان خصومه لن يرحموه وكانوا يخشون تقلب بورقيبة الذي لم يعد يستقر امره على قرار، اذ دخل وقتها في الخرف الى درجة انه اقدم على الشك في زوجته وسيلة وبدا يتابع المقربين منها قضائيا.
كانت المؤشرات تؤكد ذلك اذ ان خصوم الوزير الاول بداوا في اثارة القضايا ضد المقربين منه وكان ابنه المختار الذي تحمل مسؤولية خاله فريد المختار في شركة الستيل محل بحث لدى الفرقة الاقتصادية بأمر من النيابة العمومية، وسلمني يومها محمد مزالي نسخة من الأبحاث الأولية وبقينا على اتصال دائم، بعدما تعهدت بالدفاع عن ابنه المختار قبل ايقافه بعد اقالة والده من الوزارة الاولى، قمت بذلك بصفتي محاميا، وصديقا مقربا، وتتبعت كل مراحل هجرته والأحكام الغيابية التي أصدرها القضاء ضده استجابة لطلبات النظام، في زمن تغير مزاج بورقيبة الذي طلق فيه زوجته السيدة وسيلة غيابيا، انها كانت تعالج بالخارج بإذنه، وتلك قصة أخرى ربما يأتي الحديث عنها في مناسبة أخرى.
وبقي مزالي مدة في داره يترقب تطورات الأحداث التي كانت تطال الدائرة المقربة منه وإقحام أولاده وصهره رفعت الدالي في قضايا عدة، وحكم على البعض منهم ظلما وعدوانا وانحرافا بالقضاء بلغ حدّه.
أما مزالي فكانت آخر مقابلة له مع بورقيبة يوم زيارته لتوديعه، إذ لم ينطق بورقيبة أمامه إلا بكلمات موجزة مفادها: "لقد أفرطت في التعريب يا ابني" قالها بورقيبة أمام الملأ ودونها لاحقا محمد مزالي في مذكراته فكانت رسالة فهمها وفهمناها نحن لاحقا إذ أن المقربين من بورقيبة لم يتركوا بابا إلا وأغلقوه في وجهه، ومنعوه من السفر لأداء مهامه الأولمبية التي كان لمدى حياته عضوا فيها.
لذلك قرر الفرار بجلده لما شعر بالخناق بضيق حول رقبته ونية خصومه في إنهاء حياته والتخلص منه نهائيا، ولأن بورقيبة بقي يفكر فيه وكان يعتزم تعيينه رئيسا للبرلمان في دورة الخريف والشتاء المقبل، كتب ذلك لاحقا الباجي قائد السبسي في مذكراته "الأهم والمهم" نشره قبل الثورة بشهور وقرأه محمد مزالي في حياته وتعجب كثيرا، وطلب مني التأكد من المعلومة وهو ما سمعته من السيد الباجي قائد السبسي شخصيا.
أما فيما بعد ذلك فقد تتبعت قضاياه كلها إلى آخر يوم من حياته ورجوعه الى تونس يوم6 أوت2002 بعد مفاوضات مثّلتُه فيها، وانتهت بإلغاء كل الأحكام الكيدية من طرف محكمة التعقيب وقضت ببطلان الاجراءات المتبعة، كان ذلك بطلب من الوكيل العام لدى محكمة التعقيب بطلب من وكيل الدولة لدى محكمة التعقيب التي صححت الإجراء وقضت ابطال الحكم الجنائي لصالح القانون وبدون احالة.
بقي بعدها محمد مزالي بين الإقامة بالخارج والعودة لتونس إلى أن مرض ذات يوم ودخل المصحة لفحوص استوجبت نقله إلى باريس أين توفي يوم 23 جوان 2010 قبل ثورة الحرية والكرامة بأشهر قليلة ولم يدركها لينعم بالحرية التي كان يسعى اليها، ودفن بالمنستير في موكب خاشع، وتم تأبينه من طرف السيد فؤاد المبزع رئيس مجلس النواب الذي قبلت به عائلته، لأنه لم يتورط في شتمه في غيبته، وبذلك تنتهي مأساته، ولكن ذكراه وأعماله لن تطوى، بل كانت محل متابعة وإعجاب وآخر ملتقى نظم له كان في مؤسسة التميمي بالاشتراك مع مؤسسة كوراد أد يناور الألمانية، شارك فيه عدد مهم من الأوفياء للمرحوم محمد مزالي وكنت من بينهم وتم تدوين ذلك العمل في كتاب خاص تم طبعه وتوزيعه من طرف مؤسسة التميمي التي كان صاحبها وفيا لذلك الرجل الذي أبقى لتونس إرثا هائلا ولم ينعم من النظام الجديد بعد الثورة بتكريمه ولو بإطلاق اسمه على جامعة أو مركب رياضي سوى ما وقع بمسقط راْسه بالمنستير اخيرا بإطلاق اسمه على قاعة الرياضة المغطاة وقد كنت حاضرا مع حرمه المرحومة فتحية المختار وأبناؤه وذلك تذكيرا للشباب بقامة سياسية وعلمية وأولمبية أفنت حباتها في خدمة بلدها تونس.
قلت انه استثناء لأنه كان دائما يسير ضد التيار ويعمل على تنفيذ أفكاره ومواقفه بحيلة وصعوبة مؤمنا بإمكانية الإصلاح من الداخل في منظومة منبته تفكر بالتبعية لفرنسا متخلية عن جذورها الأصلية لا ينفع فيها الا الثورة التي حصلت اخيرا وما زالت عرضة للتشويش علها داخليا من طرف الادارة العميقة المتورطة سابقا في الانحراف والتجاوز والتبعية للغرب ومن الخارج وخاصة بعض دول الخليج التي باتت تخشى العدوى منها! وبإيجاز شديد كان يميل للعروبة والإسلام ويعمل على تخليص تونس من الهيمنة الاستعمارية وقد خرجت تونس منها عسكريا وبقيت ثقافيا واقتصاديا وماليا مؤثرة فينا.
تونس في 25 جويلية 2019


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.