الجائحة الوبائية التي يمر بها العالم قد أودت بأرواح الملايين من البشر و تسببت في حدوث أضرار كبيرة في الوضع العالمي ونتج عنها إنهيار كبير للكثير من اقتصاديات العالم وخسارة الكثير من الشركات التي اضطرت إلى غلق وبيع مقراتها وخسارة الآلاف من مواطن الشغل بعد أن دخل ملايين من العمال والموظفين في بطالة فنية إجبارية رغم إجراءات المرافقة التي اتخذتها الحكومات من إعانات اجتماعية ومساعدات مالية من أجل المحافظة على العمل ومن وراء ذلك اضطرت المجتمعات أن تخضعإلى حجر صحي شامل و عملية إغلاق كلي جعلت الإنسان لا يغادر بيته إلا للضرورة القصوى لجلب الدواء أو الغذاء . ورغم هذه المخاطر التي تسبب فيها فيروس كورنا على الوضع الصحي والمالي للأفراد والتهديد الذي بات يمثله بعد إعلان منظمة الصحة العالمية أن البشرية تمر بمرحلة خطيرة تهدد بقاءها بعد أن اعترف العقل البشري بعجزه أمام انتشاره السريع وحصده يوميا الكثير من الأرواح إلا أن هذا الوباء على قبحه قد عرى صورة الإنسان و كشف للعالم وللبشرية وهي تتباهى بكونها في قمة نضجها وتقدمها العلمي والتكنولوجي عن ضعف منظومتها الصحية والاجتماعية وخاصة أنه كشف عن صورة قبيحة لبعض البشر وعرى حقيقة جزء من الانسانية بجشعها ونهمها وإفراطها في ممارسة الفساد الذي لم يوقفه ما يتعرض له كوكب الأرض من أخطار. لقد ظهر مع وباء كوفيد 19 وباء آخر هو وباء تغلغل الفساد والجشع وصورة الإنسان الذي لا يوقفه شيء في سبيل جمع المزيد من المال بكل الطرق وفي كل الأوقات لقد اتضح اليوم أن كل الانحرافات المجتمعية هي فيروسات قاتلة تنتشر بسرعة مثل سرعة الجوائح لقد اكتشفنا أن التهديد الحقيقي ليس الفيروس ولا الوباء فعلاج هذه الأمراض ممكن ومقدور عليه لكن وباء الإحتكار والغش والسرقة واستغلال الفرص لجني الأموال وتوظيف معاناة الناس لتحقيق مزيد من الثراء يحتاج إلى لقاح من نوع آخر . فحينما نجد أن الأزمة الصحية التي تمر بها البلاد وما خلفته من اضطراب في الحياة وخوف المواطن على عيشه وقوته لم توقف المحتكرين من مواصلة نشاطهم ولم تثن الفاسدين من استغلال الفرصة للتحكم في الأسعار والتلاعب بتوزيع المواد الفلاحية والغذائية فأعلم أن الفساد مرض قاتل و لا شيء قادر على إيقافه . اليوم وفي ظل هذه الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد وهذه الاكراهات التي يعاني منها المواطن نجد مسؤولين حكوميين قد تورطوا في شبهة فساد تتعلق باحتكار المواد الغذائية التي من المفروض أن توزع على المحتاجين ونجد من النواب من أصحاب المال و الأعمال والمشاريع من قد تورط هو الآخر في شبهة فساد تتعلق بصفقة صنع الكمامات التي نحتاجها حتى نتمكن من رفع الحجر الصحي وشبهة أخرى تمثلت في تسريب كراس الشروط قبل نشرها بصفه رسمية .. ونجد شبهات أخرى تتعلق بجمع مادة القماش من السوق المخصصة لصناعة هذه الكمامات لفائدة جهات معلومة حتى يتم الإنفراد بهذه الصفقة والتحكم في أثمانها .. ونجد من السياسيين من يبرر هذه الأفعال ويدافع عن الأشخاص المورطة ونجد شبهات أخرى تتعلق بشراء التحاليل السريعة التي نحتجها للتعرف على الوضع الصحي في البلاد ونجد وزيرا يدافع عن خياره الخاطئ عندما لم يوسع الإستشارة وذهب مباشرة إلى مصنّع بعينه لينجز له العمل المطلوب .. ونجد رئيسا للحكومة يدافع عن وزيره ويبرر أفعاله بأن الوضع الاستثنائي يسمح بذلك ويسمح بعدم إحترام تطبيق القوانين في مجال التنافس الاقتصادي ونجد مصحات عمومية تستغل الظروف الصحية لتفرض على من يرتادونها مبالغ ضخمة حتى يسمح لهم من الاستفادة من خدماتها .. ونجد صورا أخرى كثيرة من هذا الفساد الذي ينخر جسم المجتمع. اليوم هذا الوباء قد كشف لنا أن الفساد في تونس منظومة قوية وأن أصحاب النهم المالي و المحتكرين أخطبوط أذرعه عديدة ومتفرعة وأن الفساد هو مجموعة من الأشخاص هم نفسهم نجدهم في كل مرة يستغلون الظروف ويستفيدون من الأوضاع لتهديد الأمن الغذائي والصحي للناس وأن نفس الأفراد نجدهم دوما في مثل هذه الظروف الصعبة لتحقيق مكاسب شخصية والإثراء على حساب قوت الناس لقد اكتشفنا أن الفساد والفاسدين لهم منظومة تحميهم، منظومة تشريعية تتساهل معهم ولا تضرب بيد من حديد وخلفهم جهات سياسية وإعلامية تتستر وتبرر الفساد وتحمي الفاسدين وإدارة عميقة تتغاضى عن الفساد ولا تشهر به بل تحميه . لقد كشفت لنا هذه الجائحة أن الفساد وباء خطير ومنظومة متواصلة وشبكة علاقات واسعة وراءها لوبيات نافذة ومتحكمة تسندها منظومة أخرى تحميها وتتستر عليها من تشريعات وقوانين غير مفعلة ولا محيّنة ورجال سياسة مستفيدين من هذا الواقع ويبررون هذه الأفعال .. واليوم أمامنا فرصة كبيرة لهزم هذا الوباء بكل منظوماته وأذرعه وفرصة للقضاء على هذا التهديد الذي اتضح أنه أخطر من تهديد الكورونا لو توفرت العزيمة و الإرادة السياسية التي على ما يبدو لن تتوفر وكل الخوف أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه والحالة إلى عهدها السابق بعد انتهاء هذا الوباء ونرجع من جديد لنتعايش مع كل هذا الفساد الذي وصل إلى مفاصل الدولة ووصل إلى المسؤولين الحكوميين من عمد و ولاة ووزراء وبرلمانيين .. فاليوم لم نعد نتحدث عن فساد وراءه رجال أعمال وأصحاب المشاريع ولوبيات تعمل في التهريب والقطاع الموازي وإنما الفساد اليوم موجود في القطاع الرسمي وتدافع عنه التشريعات والقوانين ويبرره الساسة ومن يحكمنا .. لقد أظهرت لنا هذه الجائحة الوبائية أنه لدينا أناس خيرون وآخرون فاسدون.