سؤال قديم جديد ويعاد طرحه باستمرار وحوله جدل قديم ومواقف مختلفة بين العلماء وهو سؤال مشروع لأهل الإيمان من كل الأديان والطوائف وهو سؤال حارق حتى داخل الدائرة الإسلامية نفسها هذا السؤال يقول لمن جعلت الجنة التي وعد الله بها البشر مذ خلق آدم وحواء وانزلهما الأرض لتبدأ رحلة الإنسان في هذه الحياة الدنيا ؟ ومن يدخل الجنة من أهل الإيمان ؟ هل يدخلها كل مؤمن بالله مهما كانت ديانته وعقيدته ؟ وما هي شروط دخولها ؟ وهل هي حكر على قوم دون قوم أم أن الله جعلها لجميع خلقه بشروط معينة ؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي هذه الشروط المحددة لدخول الجنة ؟ وإلى جانب هذه الأسئلة هل أن غير المسلم يدخل الجنة أم لا ؟ بمعنى هل أن النعيم الأخروي مخصص للمسلمين فقط وبالتالي قد جعلت النار لباقي البشر من غير المسلمين ؟ في الحقيقة هي أسئلة كثيرة مازالت إلى اليوم تثار رغم أننا نجد في بعض مؤلفات القدامى أجوبة ولكن مع ذلك يبقى إعادة طرح السؤال مشروعا ومعه يبقى التدبر في القرآن هو أيضا مشروعا. تعرض القرآن الكريم إلى هذه الاشكالية منذ أن اختصمت اليهود والنصاري حول أيهما كان على حق ؟ و أيهما أحق بالجنة من غيره ؟ " وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ..." البقرة / 111 وهو قول يلخص الصراع المحموم الذي سجله القرآن بين أتباع النبي موسى وأتباع النبي عيسى فكل ملة تدعي أنها هي أحق برضى الله وأنه ليس هناك غيرها على حق حتى انحصر دخول الجنة في أتباع الديانتين فقط وبذلك تم اقصاء غيرهما من البشر الذين لا يدينون ديانتهما وهو خطاب أدانه القرآن وفنده لكونه لا يقوم على دليل منطقي مقنع سوى الادعاء والتبرير " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ..." المائدة / 18 وهي حجة تمسك بها اتباع كلا الديانتين وهي أن الله أختارهم لحمل رسالته للناس وهم صفوته من البشر الذين ارتضاهم لقيادة البشرية إلى الخير وبالتالي وبناء على ذلك فإن الحقيقة لا يمكن أن تكون خارج اليهودية أو المسيحية بل إن الحقيقة لا يمكن حسب هذا الظن أن تكون إلا ما قالته التوراة أو ما جاء به الانجيل وهذا يعني أنه ليس هناك غيرهم من يستحق الجنة. كانت هذه صورة الصراع القديم حول من يدخل الجنة وكان هذا جانبا من الخطاب الذي يبرر به اتباع اليهودية وإتباع المسيحية أحقيتهم بالجنة وامتلاكهم للحقيقة الإلهية وهو خطاب اقصائي يدعي امتلاك الحقيقة ولا يعترف بأن غيرهم على صواب وبأن الحق قد يكون لدى قوم آخرين لذلك كان جواب القرآن حاسما وواضحا معتبرا أن هذا الكلام هو مجرد أمان وأحلام يفتقد للحجة ولا يقوم على يقين "...تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ..." البقرة / 111 وزاد في إحراجهم بأن جادلهم في رأيهم بادعائهم أنهم هو وحدهم من اختارهم الله لجنته " ... قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر مما خلق ..." المائدة / 18. في هذا المستوى من هذه السردية لهذا الصراع الأزلي حول من له أحقية دخول الجنة وهذه المعركة بين اليهود والنصارى القائمة على إلغاء الآخر المختلف ونفي المخالف في الرأي والديانة يأتي الخطاب القرآني وتأتي النظرة التصحيحية الجديدة ويأتي التصور المغاير لتأسس ثقافة الاختلاف وثقافة المشترك وثقافة الاعتراف بالآخر وأنه مهما ادعينا امتلاك الحقيقة فهي تبقى دوما نسبية ولا يعلمها إلا الله وأن إدعاء الإنسان أنه مسلما أو يهوديا أو نصرانيا فإن ذلك لا يكفي وحده ليتحصل على الرضاء الإلهي كما أن الانتماء إلى ديانة من الديانات فهو الآخر لا يشفع للفرد بدخول الجنة . لقد جاء القرآن بتصور جديد مختلف على الثقافة اليهودية والنصرانية وجاء برؤية عميقة تقوم على فكرة أن الجزاء لا بد وأن يسبقه عمل وأن الجزاء من جنس العمل وأنه لا جزاء من دون عمل فلا محاباة لأمة ولا لطائفة ولا لفرد فالكل سواء عند الله وأن المعيار الوحيد للتفضيل والأحقية هو إسلام الوجه لله وإحسان العمل له فلا عبرة للإسم أو العنوان او الموطن أو اللغة لذلك كان التدارك القرآني للتصور اليهودي المسيحي يقوم على قاعدة جوهرية وهي قوله تعالى " بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ..." البقرة / 112 . فهذه القاعدة التي صحح بها القرآن الإيمان والعقيدة أساسها إخلاص الذات كلها لله بقطع النظر عن جنس البشر وإخلاص الفرد وجهه ومشاعره وفكره كلها للخالق الواحد في مقابل فرد آخر أخلص ذاته ومشاعره وعقله وحياته للخطيئة فإسلام الوجه هو رمز على أن المرء بكليته في انصياع دائم وتسليم مطلق فالتصور الإسلامي يقوم على وحدة الشعور والسلوك واتحاد بين العقيدة والعمل بين الإيمان القلبي والإحسان العملي وبذلك تتحول العقيدة من مجرد اعتقاد نظري إلى منهج حياة وبذلك تتوحد الشخصية الإنسانية بكل نشاطاتها واتجاهاتها في مسار واحد وبذلك يستحق المؤمن هذا العطاء كله " فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " البقرة / 112 لقد حسم القرآن المسألة وأنهى الصراع حول من يدخل الجنة وقرر أن الشرط الوحيد هو العمل الصالح الذي ينفع البشرية وأنه لا إيمان من دون عمل وأن الايمان وحده لا يكفي إذا لم يتبعه عمل صالح فالجماعة المهدية شرطها إيمان عملي وهذا يعني أن ما يقدمه القرآن من تصور جديد لمسألة الجزاء هو اتحاد الايمان مع العمل واعتبار أن الإيمان الذي لا يتبعه عمل على أرض الواقع لا قيمة له وأن العقيدة التي لا تثمر عملا صالحا لا معنى لها وأن الإيمان الذي لا يكون له أثر في الحياة فهي إيمان خاو لا معول عليه وعلى هذا الأساس فإن هذا التعديل في التصور مهم حتى نصحح الرؤية وحتى نبني مجتمعات متعايشة تقبل بالاختلاف وتعترف بالمشترك وتحترم الاختلاف لأن الحقيقة تبقى دوما إلهية قال تعالى " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " البقرة / 62 إن الجنة يدخلها كل مؤمن صادق الإيمان قد أسلم وجهه لله واتبع هذا الإيمان بعمل صالح مثمر له أثره في الحياة بقطع النظر عن ديانته بما يعني أن الجنة ليست حكرا على أهل ديانة دون أخرى .. وبما يعني أن الجنة شرطها إيمان بالله وإحسان في العمل من دون عصبية لقوم أو جنس أو ديانة .