عاش بأرض الوطن، رِدْحًا من الزَّمن .. وكانَ يعْمَلُ إمَامًا، وخطيبًا، ومدرّسًا، مُدّةً تَزيد عن رُبْعِ قَرْن.. كان الشيخ مُتَخَلِّقًا بأخلاق العلماء الصالحين : (عقيدةً وعبادَةً.. سلوكًا ومُعامَلةً.. قانِتًا لله حنيفًا..) كان لا يُغادِرُ المسجد الاّ إلى البيت، أو لقضاء شؤونه الحياتيّة .. لذلك، كان عنده مُتّسَعٌ مِنَ الوقت، لكنه كان يَمْلَؤُهُ بالمُفيد من أعمال الآخرة.. فمِنْ ذلك : أنّه كان يُحرّرُ (خُطَبَ الجمعة)، ثمّ يُرَاجِعها دائما أكثَرَ من مرّة في أيّام الأسبوع المُتَتَالية، لتَكُونَ جاهزَةً قبل إلقَائِها. كان الشيخ عَاشِقًا لشيخ الإسلام، وإمام بلاد الشّام : محيي الدين النّوَوِي رحمه الله، شَغُوفًا بكتُبِه الفاخرة.. لذلك، اعتنى بإخراج بعضها مع التّحقيق، والتّعليق، والتّقديم.. ولمّا ضَاق ذَرْعًا بالأوْحَال، الّتي تقطع الأوصال، وتَفَاقَمَتْ الأحوال بالأهوال، غادَرَ البلادَ في مَطْلَعِ سنَةَ (1400 ه = 1980 م)، مُهاجرًا إلى الله ورسوله، وسلامةً لدِينِه وأهْلِهِ، من الفِتَن والمِحَن؛ وقَصَدَ نحو المدينة المُنوّرة، فعَبَرَ الحُدُود دُونَ أنْ يُمَسَّ بسوء، أو يُعْتَرضَ عليه في شيء، مُمْتَطِيًا سيّارَة أُجرة، حتّى وصلها آمِنًا مطمئنًّا. وفي مَهْجَرِه حيْثُ المدينةُ النبويّة، على ساكنها أفضل صلاةٍ وأزكى تحية، بدأ الشيخ حياةً جديدةً : مِلْؤُهَا صُنُوف العبادة.. والكتابة والتّصْنيف.. والمشاركة الخفيفة في مجالس العلْم مع بعض مُحبّيه، وعارفي فضله، منْ أهل الجِوَار الكريم. وهذه (خلاصة) بِرنَامِجِه اليومي فيها : كان الشّيخ المُبارَكُ يصِلُ إلى المسجد النّبَوي في وقت السَّحَر الباكِر، فيُصَلّي التّهَجُّدَ كُلَّ ليلة في الرّوضة الشريفة، إلى أن يَحِينَ أذان الفجْر، فَيُصَلِّيه في الصفّ الأوّل عنْ يَمِين الإمام، ثمّ يَبْقَى في مُصَلّاه إلى شُروقِ الشّمس، وهو عاكفٌ على تلاوَة خاشِعة، وأذكار مُتَنَوِّعَة، ثمّ ينْهَضُ ويُصَلّي ركعتين، وعلى إِثْر ذلك يَنْصَرِف إلى بعض شؤونِه، وبعد مُدَّة من الزمَن يعود : فيُصلّي صلاة الضُّحَى في (اثْنَتَيْ عشْرَةَ) ركْعَةً خاشعة، وما تَبَقّى مَعَهُ مِنَ الوقت فكان يُنْفِقُه في التّصنيف أو التّصحيح ل (بُرُوفات) كتاب لَهُ قَيْدَ الطّبْع؛ فإذا أُذِّن بالظّهر صلّى، ثمّ انطلق إلى بيْته للغَداءِ، أوْ الاستراحة.. ثمّ يتهيّأ ويتوضأ ويخرجُ إلى صلاة العصْر، فَيَصِلُ إلى المسجد النّبوّي قبْل أن يُؤَذَّنَ بها، ثمّ يُصَلّيهَا، وبعد أدائها يَخْلُو في نَاحيَةٍ منَ الرِّحاب الطاهرة، ويَسْتغْرِقُ في أذكاره المعْهُودة، وأوراده المشْهُودَة، إلى أنْ يَحِينَ أذانُ صلاةِ المغرِبِ، فَيُصلّي وبعد الصّلاة يَتنَفّل بِ (اثْنَتَيْ عشْرَةَ) ركْعَةً وهي ما تُعْرَفُ بصلاة الأوَّابّين، إلى أنْ يدْخُلَ وقْت العِشاء.. وهكذا، ظلّ الشيخ المُبَارك على هذا السّنَنِ / الحَسَن، بُرْهَةً منَ الزّمن، أثناء إقامته في المدينة مُدّة (ثمانية وعشرين عامًا)، دون كَلَل، أو مَلَل.. التَقيْتُ به في المسْجِد النّبوي (مرّتين) أثناء زيارتي في مواسم الحجّ، مسْتَفيدًا مِن علمْه عن كَسَبٍ، وكُنْتُ أسألُ دعواتِه المُسْتَجابَة في أوْقات الإجابة. تُوفّيَ الشيخ المُباركُ إلى رحمة الله سَنَةَ (1428 ه = 2007 م) في وقت السّحَر، عن (واحد وتسعين) عامًا، ودُفِنَ من الغد بالبقيع بعد أن سَبَقَتْهُ إليها زوجُه بسنوات .. رحمهما الله، وتَقَبّلَهُما بقَبُول حَسَن. من (شمائل) الشيخ المبارك رحمه الله : أنّه كان صوّامًا قوَّامًا، عابدًا خاشِعًا، يَخشى الله ويرجو رحْمَتَه.. وكان رحمه الله مُسْتجاب الدّعوة .. من رآهُ لأوّل مرّة أحبّه وهابَهُ.. كان يَجْلسُ بالمسجد النّبوّي – غير الرّوْضَة الشّريفة –في ساعات فَرَاغِه: عنْد باب السّلام أحيانًا، وباب الرّحمة أحينًا أُخْرَى.. وكان يتعَهّدُ مسْجِد قُبَاء في ضواحي المدينة المُنَوّرَة مرّة كلَّ أسبوع، مَشْيًا على قَدَميه.. للشّيخ المُبارك رحمه الله مُؤَلّفاتٌ وتحقيقاتٌ جميلَةٌ وجليلَةٌ، خطّ مُعْظَمَهَا في الرّحاب الطّاهرة، لذلك تجدهُ يكتُبُ في آخر مقدّمة كُتُبِهِ عِبَارَة : " نَزِيلُ المدِينَة المُنَوّرة محمد الحجّار". فَمِن كتُبِه المطْبُوعَة : 1- صوت المِنْبَر / 3 مجلدات 2- سمير المؤمنين في المواعظ والحِكَم والقَصَص.. وقد وصلتْ طَبَعاتُه إلى (14 / طبعة).. جاء في مقدّمة المؤلف قولُه : " ... جَمَعَ مِنْ القصَص الطرِيفَة، والحكايات الظَّريفة، والأحاديثِ النبويّة الشّريفة، مع حِكَمٍ علميّة، وأشعار أدبيّة، تَجْلُو عن القلب الصّدَى، وتُزِيل عنه الرَّدَى... إلخ ". 3- الإسلام وأركانه الأربعةُ 4- علّمِينِي يا أمّي كيف أُصلّي ؟ 5- الزكاة (المال مال الله) 6- الحبّ الخالِدُ / (5 طبعات) ومن تحقيقاتِه الماتِعَةِ لبعض كُتُبِ أئمَّة الإسلام : 7- فتْحُ العلّام (في الفقه) / للإمام الجَرْدَانِي 8- بِدايةُ الهداية / لحُجّةُ الإسلام الغزالي 9- بُستان العارفين / لشيخ الإسلام النّووي 10- الفتاوَى / له أيضًا 11- المقاصِدُ / له أيضًا.. وغيرُها وقد قرّظ كتابَهُ النفيس : (الحبُّ الخالدُ)، تلميذَهُ الذّكيّ، والمُحِبّ الوفيّ، شَاعِرُ طَيْبَةَ : الأستاذ ضِيَاء الدّين الصّابُوني، بهذه الأبيات الجميلة : هذا الكتابُ حَوَى رَوَائِعَ جمّةً = في الحبّ إذْ فيه هُدًى وفوائدُ كَرِّرْ عليَّ حديثَهُم فَلَعلّني = أسْمُو بروحي فهُوَ حبٌّ خالدُ إنّ المحبّةَ في الفُؤادِ وإنمّا = دَمْعُ العُيُونِ على المحبّة شَاهِدُ رحم الله شيخَنا المُباركَ رحمة الابرار، وأسكنه جناتٍ تجري مِنْ تحتِها الأنهَار.