الدكتور: عبد الرحمن عبد الحميد البر أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين رابعاً : عند الوصول إلى البيت الحرام : البيت الحرام أيها الأحبة الكرام هو بيت العز والشرف ، بيت المجد والكرم ، بيت الرجاء والأمل ، واحة الضال ، وهداية التائه ، وملجأ القاصد ، وملاذ الخائف ، ومقام الطائف والعاكف ، من دخله كان آمنًا . في جنباته الطهر والنقاء ، وعلى أبوابه البذل والعطاء ، وبين أركانه الجود والسخاء ، فالأجر فيه مضاعف ، والجزاء موفور ، والذنب مغفور ، والسعي مشكور ، عند رب لا تُغلق رحابُه ، ولا تُسد أبوابُه ، لا يخيب سائلاً ، ولا يرد طالبًا ، فهو الحليم الذي لا يعجل ، والكريم الذي لا يبخل ، وفي ميدان هذا البيت يتجلى الإسلام في أروع صورة وأبدع مظهر. جموع تطوف وتطوف ، وفئات تصعد وتنحدر بين الصفا والمروة ، وأنفاس تتلاحق بالذكر والدعاء ، وأياد مرفوعة ممدودة بالسؤال والرجاء ، وعيون دامعة ، وقلوب خاشعة ، وألسن ضارعة بالذكر والقرآن . فكن أيها الحاج الكريم عند البيت على صورة من هذه الصور ، وفي حال من تلك الأحوال ، ولا تضيع هذه الفرصة وأنت في حالة القرب وفي موطن القبول ، ولا تنشغل بالصور والأشكال عن الحقائق ، ولا تُحدثْ في هذا البيت محرما ، ولا تؤذ أحداً ، ولا يفتر قلبك ولسانك عن الذكر والدعاء والابتهال . وليتذكر كل حاج عندما يصل إلى البيت الحرام أنه قد انتهى إلى حرم الله تعالى آمنًا ، وليَرْجُ عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله عز وجل ، ولْيَخْشَ أن لا يكون أهلاً للقرب فيكون بدخوله الحرم خائباً ومستحقاً للمَقْت . وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالبًا ، فالكرم عميم ، والرب رحيم ، وشرف البيت عظيم ، وحق الزائر مَرْعِيّ ، وذمام المستجير اللائذ غير مُضَيَّع . ثم اذكروا إخواني وأخواتي حجاج بيت الله الحرام وأنتم تدخلون المسجد المقدس شقيقَه المأسورَ المسجدَ الأقصى المباركَ ، الذي ربط الله بينه وبين المسجد الحرام برباطٍ وثيق ، حين أسرى بعبده محمد ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم عرج منه به إلى السماوات العلا ، حتى كان من ربه قاب قوسين أو أدنى ، وأوحى الله إليه هنالك ما أوحى ، اذكروا هذا المسجد الأقصى المبارك في دعواتكم ، واجتهدوا في الدعاء أن يفك الله أسره ، وأن يحفظه من كيد اليهود المجرمين ، وأن ينصر أهله والمدافعين عنه ، وأن يلحقه بأخويه المسجد الحرام والمسجد النبوي في الأمن والأمان والسلامة والإسلام . كتب الله لنا ولكم والقبول وهيأنا وإياكم لكل خير ، إنه على كل شيء قدير . خامسا : الطواف : حين تصل إلى البيت الحرام أيها الحاج الكريم فإنك تبدأ بالطواف ، سواء كنتَ حاجاً فتطوف طواف القدوم ، وهو سنة ، أو معتمراً فتطوف طواف العمرة ، وهو ركن ، أما الطواف الذي هو ركن الحج وهو طواف الإفاضة فيكون بعد العودة من عرفات ، ومن خلال الطواف نتعلم النظام ، ونتدرب على التعاون وإنكار الذات ، ونتلقى دروسًا عملية في الآداب والمروءة والحب والعطف والحنان ، ونؤمن بأن التوجيه الديني أسمى من أي توجيه ؛ فأي توجيه تكون له مثل هذه الفعالية ؟ إن الجيوش تحتاج إلى ربط وإحكام ، وضبط ودقة ، بعد تدريب متواصل ، وإشراف حازم ، إلا أننا نرى الحجيج – على كثرتهم واختلاف أجناسهم وتباين لغاتهم - يسيرون في اتجاه واحد ، وارتباط وتآزر ، ووحدة وتكاتف . ووسط التلبية الهادرة ، والأصوات العالية ، إذا أذن المؤذن سمعوا الأذان ، ولبوا النداء ، فإذا بالجميع وقوف كأن على رؤوسهم الطير ، لا تسمع حينئذ إلا همسًا ، ولا ترى إلا أجسامًا منظومة ، وأقدامًا مصفوفة . إذا ركع إمامهم ركعوا ، وإذا سجد سجدوا ، وإذا قرأ أنصتوا ، وإذا دعا أمّنوا . إنها صورة من صور الجمال ، والحسن والجلال ، ومشهد من مشاهد الكمال . فلْتَأْتِ الدنيا كلُّها لتُطِلَّ على هذا المنظر البديع المتناسق ، وليشهد الوجودُ كله بأن الإسلام هو دين النظام ، ودين التضامن ، ودين الألفة ، ودين الحياة . ثم اعلم أيها الطائف الكريم أن الطواف صلاةٌ غير أنه أُبيح فيه الكلام ، ولذلك يلزمك الطهارةُ للطواف من الحدثين الأكبر والأصغر ، كما يلزمك طهارةُ الثوب وسترُ العورة ، ولا يحل طوافُ غير المتطهر ، وما دام الطواف صلاةً فأحضرْ في قلبك فيه من التعظيم والخوف والرجاء والمحبة ما يليق به ، ولا تنشغل بالكلام الفارغ ، بل اعلم أنك بالطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش الطائفين حوله ، فاجتهد أن تشغل قلبك ولسانك بالذكر والدعاء والاستغفار والقرآن والتضرع ، وكن ملائكيا ولا تنشغل بغير الله تعالى . وإياك وإيذاءَ الطائفين بلسانك أو بجوارحك ، وإياكَ والتضجرَ من الزحام أو من الطائفين والعاكفين . ولا تظنن أن المقصود طواف جسمك بالبيت فحسب ، بل المقصود طواف قلبك بذكر رب البيت ، حتى لا تبتدي الذكر إلا منه ، ولا تختم إلا به ، كما تبتدي الطواف من البيت وتختم بالبيت . سادساً : السعي بين الصفا والمروة : السعي بين الصفا والمروة أحد أركان الحج أو العمرة ، وهو لا يكون إلا بعد طواف صحيح ، ومن خلال السعي بين الصفا والمروة يستشعر الحجاج معنى التضحية والجهد . هذا الجهد الذي قاسته السيدة هاجر من أجل شربة ماء تروي غلة طفل رضيع أنهكه الجوع وأرهقه الظمأ . امرأة وحيدة وسط الجبال الشاهقة وبطون الوديان السحيقة تهرول هنا وهناك ، في صعود وانحدار ، وحيرة واضطراب ، يمزق أحشاءَها أنينُ ولد عليل ، جف ريقه ، وجمد لسانه اللاهث من شدة العطش ، فإذا ما اشتد الخطْب ، وادلهمّ الأمر ، تجلت رحمة الله كالنور في الظلمة ، كالأمل الباسم وسط اليأس الحالك ، فتفجر الماء سلسالاً ، وانساب عذبًا دفاقًا . إنه بئر زمزم الميمون المبارك ، النبع الطاهر ، والرحيق الحلو ، والدواء الشافي ؛ ليعرف الناس أن الله تعالى لا ينسى أولياءه ، وأن الفرج بعد الضيق ، وأن مع العسر يسرًا وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا . ولتتذكر أيها الساعي الكريم عند ترددك بين الصفا والمروة ترددَك بين كفتي الميزان في عرصات القيامة ، ناظراً إلى الرجحان والنقصان ، متردداً بين العذاب والغفران ، فأكثر في السعي من الدعاء والرجاء ، وإياك أن يُشَبِّه الشيطان عليك ، ويُلْبِس عليك عبادتك ، ويقول لك : إن هاجر إنما صعدت وانحدرت ، وراحت وجاءت ، وسعت وهرولت ، بحثا عن ماءٍ أو بشر ، أما أنا فما قيمة عملي وما فائدة سعيي ؟ فاعلم أنه ليس من شرط العبودية أن تفهم المقصود بجميع ما يأمرك به مولاك ، ولا أن تطلع على فائدة تكليفه ، وإنما يتعين عليك الامتثال ويلزمك الانقياد ، من غير طلب فائدة ولا سؤال عن مقصود . وليكن على قلبك دائما هذه العبارة الصديقية : سَلِّمْ لما لا تعلم . نسأل الله أن يكتب لنا القبول والرضوان ، إنه على كل شيء قدير . سابعاً : الوقوف بعرفات : وفي الموكب الإلهي ، وفي الركب الروحاني ، وفي مسيرة الإيمان ، تتوجهون إخواني وأخواتي الحجاج بين الزحام المتكاثف ، وسط الجموع المؤمنة الصاخبة ، وخلال الكتل الموحدة الزاحفة ، قاصدين عرفات ، متجردين من الملابس إلا من إزار ورداء أبيضين يتساوى فيهما الغني ذو المال الوافر والجاه العريض بالفقير والمسكين ؛ لنتذكر جميعًا ذلك الكفن الذي يلُفّنا عند وداعنا الأخير لهذه الحياة . إن هذا الزحام المائج يذكرنا كذلك بيوم الحشر وما فيه ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم . في عرفات الذي هو ركن الحج الأكبر تذوب الطبقية ، وتتلاشى التفرقة ، وتتجسد المساواة الحقة ، المساواة الصادقة ، المساواة الخالية من كل تكلف أو خداع ، المساواة التي فقدت في العالم المتحضر ، وضاعت في دنيا المدنية الزائفة . عند الصعود إلى عرفات يتسابق الحجاج ويتنافسون . يتسابقون إلى ربهم ، ويتنافسون في كسب رضاه . في عرفات ينسى المؤمن الدنيا وما فيها من متاع ، ويهجر الحياة بما تحويه من ترف وملذات ، لا يهمه لفح الهجير ، أو وهج الشمس ، ولا يمنعه شدة البرد ، أو هطول المطر ؛ لأنه خرج من نطاق البشرية إلى رحاب الروحانية ؛ لأنه انسلخ من المادية إلى عالم المعنويات ؛ لأنه تجرد من تربته الأرضية ليصعد إلى الملأ الأعلى من الملائكة ، وينتظم في صفوف الأبرار . في عرفات لا يقع البصر في مكان ، إلا ويرى عابدًا يتبتل ، أومذنبًا يتوجع ، أومؤمنًا يخشع ، أومصليًا يركع ، أوعاصيًا ذا عين تدمع ، فكأنه بحيرة قدسية تغسل الآثام ، وتمسح الخطايا ، وتمحو السيئات . ولم لا أيها الإخوة والأخوات ؟! والله تعالى يتجلى لأهل الموقف بالرحمة والغفران ، ويباهي بهم ملائكة الأرض والسماء ، ويشهدهم أنه قد غفر لهؤلاء الذين أتوا من كل فج ضاحين غبرا شعثا ! لم لا ، وهذا اليوم أفضل الأيام على الإطلاق ! لم لا وإبليس ما رؤي في يوم أغيظ ولا أحقر ولا أدحر منه في هذا اليوم ، إذ يرى ما ينزل الله على العباد من رحمات ! لك الله يا عرفات ! يومك يوم نور ، ويوم رحمة . يوم بركة ، ويوم عطاء . يوم تبتسم فيه الآفاق ، وتشرق الأكوان ، ويعم الغفران ، فيندحر الشيطان . إذا تذكرت ذلك أخي الحاج الكريم فألزِمْ قلبك الضراعة والابتهال إلى الله عز وجل ، لتحشرَ في زمرة الفائزين المرحومين ، وحقِّق رجاءك بحسن الظن بالله ؛ فالموقف موقف إجابة ؛ ولذلك قيل : إن من أعظم الذنوب أن يحضر العبد عرفات ويظن أن الله تعالى لم يغفر له . وكأن اجتماع الهمم والاستظهار بمجاورة المجتمعين من أقطار البلاد هو سر الحج ، وغاية مقصوده ، فلا طريق إلى استدرار رحمة الله سبحانه مثل اجتماع الهمم وتعاون القلوب في وقت واحد . أما دعاء يوم عرفة فأفضله أن تقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، فأكثروا أيها الحجاج الكرام من هذا الذكر في هذا اليوم المبارك . كأني بكم أيها الإخوة الحجاج تسألون عرفات عن هذه الأمجاد التي اعتلت ذروته ، وتلك الكتائب الأولى التي عاشت على سطحه فترة من الزمن ، وكأني بالجبل الرحيب يقول : كانوا أبطالاً أفذاذًا وجنودًا بواسل . كانوا أنقياء أطهارًا ، صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعًا سجدًا ، يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . فرضي الله عنهم ورضوا عنه ، وذلك هو الفوز العظيم . كأني بالجبل الأشم يذكّرنا أيها الأحبة بالقائد الأعظم ، بالزعيم الأكبر ، بالمرشد الملهم ، محمد بن عبد الله وهو يلقي أسمى خطاب في الوجود ، وأخلد حديث على صفحات الزمان ، وأظهر دستور عرفه التاريخ في حجة الوداع . يرسم للبشرية طريق خلاصها ، وسبيل مجدها ، ودروب سعادتها ، ويسكب في أذن الدنيا أصدق قانون ، فيه صلاح المجتمع ، وكرامة الإنسان ، ويتلو عليهم قول الله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا. أيها الحجاج الكرام ، في هذا اليوم الذي يتجلى الله عليكم فيه ويباهي بكم الملائكة لا تنسوا من خالص الدعاء إخوانكم المضطهدين في فلسطين والعراق والشيشان وغيرها من بلاد الإسلام ، اذكروا أخواتكم وأمهاتكم الثكالى والأرامل وأبناءكم وبناتكم اليتامى ، وإخوانكم وأخواتكم المجاهدين والمجاهدات ، وألحوا على الله في الدعاء أن يأخذ لهم بثأرهم ممن ظلمهم ، وأن ينصرهم على عدوهم ، وأن يربط على قلوبهم ويعوضهم خيراً مما فقدوا . اذكروا آباءكم وأمهاتكم وإخوانكم وأخواتكم وأبناءكم وبناتكم في العراق الشقيق الذين يتعرضون للاحتلال الظالم من الصليبيين ، والذين سبق أن ذاقوا الويلات من نظامٍ متسلط وعجزٍ عربي فاضح وعدوانٍ غربي متغطرس ، اذكروهم فادعوا الله أن يكشف عنهم الغمة ، وأن يفرج كربهم ، ويبدل عسرهم يسراً ، وأن يكشف عن الأمة ما أصابها وما ألمَّ بها ، وأن يرفع لواء الإسلام والمسلمين في كل مكان . أيها الحجاج الكرام ، فإذا أفضتم من عرفات فأكثروا من ذكر الله ، وإياكم والتدافع ، وعليكم بالسكينة والوقار ، فبذلك أمر الله عز وجل وأوصى نبيكم . فإذا وصلتم إلى مزدلفة فاعلموا أنكم قد دخلتم في حدود الحرم ، فادخلوها بالوقار ، ولا تكفوا عن التلبية والدعاء ، وأكثروا من ذكر الله عند المشعر الحرام في مزدلفة ، استجابة لأمر الله عز وجل حيث يقول : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم ، وإن كنتم من قبله لمن الضالين . ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم . نسأل الله أن يجعلنا في يوم عرفة من المغفورين ، وأن يكتب لأمتنا النصر والفلاح والتمكين ، إنه على كل شيء قدير . ثامناً : رمي الجمار : اعلم أيها الحاج الكريم أن رمي الجمار واجب من واجبات الحج ، وأن المقصود منه الانقياد للأمر؛ إظهارًا للرق والعبودية ، وانتهاضاً لمجرد الامتثال من غير حظ للعقل والنفس فيه ، ثم التشبه بإبراهيم عليه السلام ، حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع ، فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طرداً له وقطعاً لأمله . فإن خطر لك أن الشيطان عَرَض له وشاهده فلذلك رماه ، وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان ؟ فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان ، وأنه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك في الرمي ، ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه ، وأنه يضاهي اللعب فلم تشتغل به ؟ فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي فيه برغم أنف الشيطان . واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان ، وتقصم به ظهره ؛ إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه وتعالى ؛ تعظيمًا له بمجرد الأمر من غير حظ للنفس والعقل فيه . ثم اعلموا أيها الحجاج الكرام أن الحج عنوان الحب والتآلف ، ورمز الأخوة والترابط ، وأن الواجب على المسلم الرفق بإخوانه ، ومراعاة ظروف الناس عند أداء المناسك ، وعدم التزاحم بصورة تخرج الحج عن حقيقته التي أمر الله بها ، وعدم تقديم السنن والمندوبات على الفروض والواجبات ، وإذا كان الشرع الحنيف قد جاء بالتيسير ورفع الحرج ، كما قال الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج ، وقال تعالى يريد الله أن يخفف عنكم ، وكما قال رسول الله : (( يسروا ولا تعسروا )) (5)؛ إذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي أن يضيق الحاج على نفسه أو على إخوانه بالإلزام بوقت معين في الرمي ، فيتزاحم الناس في أوقات الفضيلة ويَدَعوا سائر الأوقات التي رخص أكثر العلماء في الرمي فيها ، كما ينبغي أن يراعي الحجاج من الشباب آباءهم وأمهاتهم من كبار السن ، وإخوانهم وأخواتهم من ذوي الأعذار والضعف الذين يرغبون في أداء النسك ، حتى يكون العمل مقبولا إن شاء الله . نسأل الله أن يرزقنا حسن الانقياد له ، وأن يجعلنا ممن اتبع ملة إبراهيم حنيفا . تاسعاً : ذبح الهدي: اعلم أن ذبح الهدي من أعظم القربات التي يتقرب بها الحاج إلى الله تعالى ، فإنه سبحانه يعتق الله بكل جزء منه جزءاً منك من النار ، فكلما كان الهديُ أكبَرَ وأجزاؤُه أوفرَ كان فداؤُك من النار أعمَّ ، وذلك من تعظيم شعائر الله ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب . فاجتهد أيها الحاج الكريم أن تذبح هدياً ولو لم يكن واجباً عليك ، فإراقة الدماء في يوم النحر أفضل الأعمال وأرجاها عند الله . واعلم أنه ليس المقصود اللحم ، بل المقصود تزكية النفس وتطهيرها عن صفة البخل ، وتزيينها بجمال التعظيم لله عز وجل ، وقد قال تباركت أسماؤه : لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرناها لكم لتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون . ولتكن أيها الحاج الكريم طيب النفس بما أنفقتَ ، فإن لك بكل صوفة من جلدها وبكل قطرة من دمها حسنة ، ولذلك قال : (( ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله تعالى من إهراق الدم ، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض ، فطيبوا بها نفسا )) (6). نسأل الله الكريم أن يتقبل أعمالنا ، وأن يعتق رقابنا من النار . عاشرا : زيارة المدينة النبوية : ليست زيارة المدينة من مناسك الحج ، ولكن المسلم المحب لرسول الله لا يحج أو يعتمر غالباً إلا وهو يحرص على زيارة المسجد النبوي المبارك ، وزيارة قبر النبي ، وزيارة الأماكن الطيبة في هذا البلد الطيب ، فإذا وفقك الله أيها الحاج الكريم لزيارة هذا البلد الطيب التي سماها الله طابة أو طيبة فاعرف آداب زيارتها ، واعلم أنها حرم مثل مكة تماما ، لا يحل لأحد فيها أن يحدث شراً أو يؤوي محدثا ، أو ينفر صيداً أو يقطع شجراً إلا لعلف دابته ، كما لا يحل ترويع أحد من أهلها أو زوارها . واجتهد أيها الأخ الكريم أن تصلي في الروضة الشريفة ، وأن لا تفوتك فريضة في غير جماعة المسجد ، وأكثر في الروضة من الدعاء والتضرع والذكر والاستغفار ، واحذر أن يدفعك الحرص على الجلوس في الروضة أو غيرها على إيذاء المسلمين . ثم اذكروا إخواني وأخواتي الحجاج الكرام وأنتم تسيرون في هذه المدينة الطيبة أنها البلدة التي اختارها الله لنبيه ، وجعل إليها هجرته ، فكانت داره التي بَيَّن فيها فرائضَ ربه ، وجاهد فيها عدوه ، وأظهر الله بها دينه ، إلى أن توفاه ربه جل وعلا ، وجعلها مستقر جسده الشريف إلى يوم القيامة ، ثم اذكروا أولئك النفر الذين صحبوه فيها ورباهم على عينه ، فأيده الله بهم ، ونصره بجهادهم ، وشرفهم ورفع شأنهم وأعلى مقامهم بصحبتهم إياه ، وتذكر أيها الحاج الكريم كم من الخير فاتك إذ لم يكتب الله لك صحبته معهم ، وأنه لا سبيل للحاق بهم والوصول إلى مراتبهم إلا بالتأسي والاقتداء بهم والسير على طريقهم ، فتحمل الدعوة كما حملوها ، وتنصر الشريعة كما نصروها ، وتضحي في سبيل الدين بالغالي والنفيس كما فعلوا ، وتشتري الآخرة بالدنيا فتربح كما ربحوا ، والله يتولانا وإياكم بفيض رحمته وعطائه ، وهو يتولى الصالحين . وختاماً ، فإذا كان العرب قد حجوا إلى بيت الله العتيق في جاهليتهم ، فالإسلام قد شدد في طلب الحج حتى اعتبره من الجهاد ، واعتبره نسك الإسلام الأكبر ؛ فقد جعل الله تعالى لكل أمة نسكا ، وجعل الحج نسك الإسلام ولكل أمة جعلنا منسكًا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام . ولقد استمر الناس على القيام بحق هذا النسك العظيم ، ينفرون إليه خفافًا وثقالاً ورجالاً وركبانًا ، تمخر بهم السفن في عباب البحار ، ويطوون الأرض طيًّا ، ويركبون الهواء ، شوقًا إلى ربهم ، وتلبية لندائه ، حتى تعج بهم الأرض المقدسة ؛ وبيت الله ، والمشعر الحرام . وها أنتم أيها الإخوة والأخوات قد يسر الله لكم أداء هذا النسك العظيم ، فاحرصوا على أدائه على الوجه الأكمل ، وإياكم والرفث و الفسوق ، عسى الله أن يجعلنا وإياكم من المقبولين الفائزين . ولعل من علامات قبول الحج أن يعود الحاج وقد ازداد زهدًا في الدنيا ، وإقبالاً على الآخرة ، ويعود أرقّ فؤادًا وأزكى نفسًا ، وأخشى قلبًا ، يعود تاركا لما كان عليه من المعاصي ، مستبدلاً بإخوان البطالة والكسل واللهو واللعب إخوانا صالحين ، وبمجالس اللهو والغفلة مجالس الذكر واليقظة ، يعود وقد أدرك أنه هاجر بحجة إلى الله تبارك ، والله يتولى توفيقنا وإياكم لما يحب ويرضى . من فاته الحج : أما أنت أيها الأخ الكريم الذي لم يتيسر له الحج مع الطائفين العاكفين الركع السجود فلا تحرم نفسك من التشبه بالحجيج من خلال بعض الطاعات التي دلنا عليها رسول الله r في هذه الأيام المباركة وهي : 1 - نية التضحية : فمتى كنت ميسور الحال واجدا سعةً لأن تضحي فلا تحرم نفسك من هذه الشعيرة المباركة فقد قال رسول الله r : (( ما من نفقة بعد صلة الرحم أفضل عند الله من إهراق الدم )) وقال r: (( ما من عبد توجه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وفرثها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة ، فإن الدم إن وقع في التراب فإنما يقع في حرز الله حتى يوفيه صاحبه يوم القيامة )) ( رواهما ابن عبد البر في كتاب التمهيد ) . وقال r: ((ما عمل آدمي عملاً يوم النحر أحبَّ إلى الله من إهراق الدم ، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض فطيبوا بها نفسا )) . ( أخرجه الترمذي وحسّنه والحاكم وصححه ) ولما كانت هذه الأضحيةُ قربةً إلى الله تعالى فإنه ينبغي لك أن تختار لها أفضلَ الأضاحي وأسمنَها وأغلاها وأنفسَها ، وهو ما فعله النبيُّ كما في حديث أنس أن النبي كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين ، ويسمي ويكبر ويضع رجله على صِفَاحِهما . وفي لفظ : ذبحهما بيده .(متفق عليه). وفي لفظ : سمينين ، وفي لفظ : ثمينين بالمثلثة بدل السين ، وفي لفظ : موجوءين . وإذا نويت ذلك أيها الحبيب فإنه يستحب لك أن لا تأخذ من أظفارك وشعرك شيئا إذا دخلت عشر الحجة فقد قال رسول الله : (( إذا دخلت العشر فأراد أحدكم أن يضحى فلا يأخذ من شعره ولا بشره شيئا )) . 2 – الإكثار من العمل الصالح في العشر الأول ذي الحجة : فهذه الأيام أعظم الأيام عند الله تعالي ، وقد أقسم الله تعالى بلياليها في قوله تعالى ) والفجر وليال عشر ( ، وفي بيان أهمية العمل الصالح في هذه الأيام قال رسول الله : (( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر )) قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : (( ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء )) . وهذا العمل الصالح في هذه الأيام يشمل صيام نهارها ، وقيام لياليها ، وكثرة الإنفاق فيها ، والاجتهاد في الذكر والتسبيح والتكبير ، والمسارعة إلى الخيرات ، وصلة الأرحام ، وسائر الطاعات والقربات . أسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى طاعته ، وأن يبلغنا وإياكم منازل الصالحين من عباده ، وأن يختم لنا ولكم بخير وعافية . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .