مما لا شك فيه ان شهر رمضان هو شهر نزول القران وهو شهر الاكثار من قراءته وتكراره لمزيد التقرب من منزله سبحانه وتعالى الرحيم الرحمان الذي تحدى به الانس والجان في كل زمان وفي كل مكان ولا اظن ان هناك وقتا مناسبا للحديث عن القران افضل من شهر رمضان للسبب الذي ذكرناه ولغير ذلك من الأسباب... ولقد اخترت بهذه المناسبة السنوية ان اتحدث عن موضوع عظيم يتعلق بالقران تعلقا ممتازا ليس بعده وليس قبله وليس فوقه امتياز الا هو موضع اعجاز القران الذي جعله وسيجعله خالدا وعظيما مهما تغير الزمان ومهما تغير المكان ومهما تغيرت احوال وظروف الانسان ولقد انتقيت واخترت ضمن هذا الاختيار نصا جامعا مانعا من كتاب الاتقان في علوم القران لشيخ الاسلام جلال الدين السيوطي رحمه الله رب العالمين ورحم علماءنا وشيوخنا اجمعين الذي ساهموا بعقولهم واقلامهم في تعريف الناس بكل ما يتعلق بالقران وبدين الاسلام خاتم رسالات الله للناس اجمعين يقول الشيخ في فصل عقده تحت عنوان(النوع الرابع والستون في اعجاز القران)(اختلف اهل العلم في وجه اعجاز القران فذكروا في ذلك وجوها كثيرة كلها حكمة وصواب وما بلغوا في وجوه اعجازه جزءا واحدا من عشر معشاره فقال قوم هو الايجاز مع البلاغة وقال اخرون هو البيان والفصاحة وقال اخرون هو الوصف والنظم وقال اخرون هو كونه خارجا عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر مع كون حروفه في كلامهم ومعانيه في خطابهم والفاظه من جنس كلاماتهم وهو بذاته قبيل غير قبيل كلامهم وجنس اخر متميز من اجناس خطابهم حتى ان من اقتصر على معانيه وغير حروفه اذهب رونقه ومن اقتصر على حروفه وغير معانيه ابطل فائدته فكان في ذلك ابلغ دلالة على اعجازه وقال اخرون هو كون قارئه لا يكل وسامعه لا يمل وان تكررت عليه تلاوته وقال اخرون هو ما فيه من الاخبار عن الأمور الماضية وقال اخرون هو ما فيه من علم الغيب والحكم على الأمور بالقطع وقال اخرون هو كونه جامعا لعلوم يطول شرحها ويشق حصرها وقال الزركشي في البرهان اهل التحقيق على ان الاعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال لا بكل واحد على انفراده فانه جمع ذلك كله فلا معنى لنسبته الى واحد منها بمفرده مع اشتماله على الجميع بل وغير ذلك مما لم يسبق فمنها الروعة التي له في قلوب السامعين واسماعهم سواء المقر والجاحد ومنها انه لم يزل غضا طريا في اسماع السامعين وعلى السنة القارئين... )(انظرالجزء الثاني صفحة 122)اما ابو ذاكر فيزيد ويقول ولما كان القران باتفاق العلماء معجزة خالدة مخاطبة لكل الناس صالحة لكل زمان ومكان ولما كانت اختصاصات الناس متعددة في كل العصور فمن المعقول ان يكون كتاب الله تعالى جامعا لكل انواع الاعجاز في جميع انواع العلوم وانواع الاختصاصات مهما تفاوتت هذه الأنواع من حيث الكثرة ومن حيث الانتشار في كل عصر وفي كل مصر وفي كل دار ولا يقبل ابدا عقلا وشرعا ان يقول قائل بنوع من البلاهة ومن الغباء ان النوع الفلاني من الاعجاز لم يعد صالحا لهذا الزمان اذ نقع بذلك في نوع مقيت من التمييز بين العلوم يبلغ درجة الابعاد والاهمال و الاقصاء لانواع معينة من الاختصاصات فماذا سنقول مثلا لاهل الاختصاص في اللغة والأدب بصفة عامة؟ هل نقول لهم انتهى عصركم وليس القران معنيا او حريصا على هدايتكم اليه وعلى مجادلتكم وعلى مخاطبتكم؟ وكيف سندعوهم الى التصديق بهذا القران بعد ان نقول لهم هذا الكلام وهم لا يفهمون ولا يتذوقون ولا يتلذذون من علوم الدنيا غير علوم اللغة وعلوم اللسان وفنون البيان؟ فلم يبق شك اذن لدى العقلاء ان القران الكريم المبين قد خاطب وسيظل يخاطب في كل العصور الناس اجمعين سواء اكانوا لغويين او اطباء او فلكيين او سياسيين او اقتصاديين وسواء اكانو قلة او اكثرية ومن يقول غير ذلك فهو لم يفهم اعجاز القران ولم يدرك المقاصد التي انزله من اجلها رب العالمين هداية للناس اجمعين ولا اريد ان انهي هذا المقال قبل ان اذكر ما قال لي تلميذ من تلاميذ الباكالوريا وقد كنت استاذه في سنة من اولى سنوات الثمانينات وقد كان الدرس في ذلك الزمان درسا تحت عنوان الاقتصاد في الاسلام وفق البرامج الرسمية للبلاد التونسية فقد تدخل هذا التلميذ قائلا(وهل في القران يا استاذ ما يشير الى شروط النجاح في عالم الاقتصاد؟ فافتتحت اجابتي بذكر اية قرانية من سورة القصص الآية 26 يقول فيها سبحانه وتعالى(قالت احداهما يا ابت استأجره ان خير من استأجرت القوي الأمين) وقلت له اثرها باختصار اوليس اهم شرطين في نجاح اي خطة واي منهجية اقتصادية هما القوة اي(الكفاءة والقدرة الذاتية) والأمانة الخلقية؟ وانه مهما تولى شؤون الاقتصاد في بلد من البلدان اكفاء وقادرون ولكنهم غير امناء ولا هم يحزنون فهل ترى انهم سينجحون؟ وانه لو تولى شؤون الاقتصاد اهل الثقة والأمانة فهل تراهم سينجحون ان اعوزتهم القدرة والكفاءة العلمية ايها العقلاء وايها الصادقون؟ اوليس في هذه الآية الموجزة البليغة الرائعة نوع من الاعجاز في ضبط وتحديد واختصار شروط نجاح اي اقتصاد في كل عصر وفي كل بلاد؟