من فضل الله سبحانه وتعالى على عباده المسلمين أن ترك باب الاجتهاد في الشريعة الإسلامية مفتوحا أمام الفقهاء الثابتين والعلماء المتمكنين في العلوم الشرعية للتدبر في القرآن العظيم وفي السنة النبوية المشرفة لتأمين تحقيق مصالح العباد بجلب المنافع لهم ودفع المفاسد عنهم , فلا خلاف اليوم بين أهل العلم والفكر على ضرورة اعتماد الاجتهاد كأداة من مقاصد الشريعة الإسلامية للمساعدة على معالجة مشكلات العصر المتشعبة والمتغيرة دون الخروج عن الأصول الشرعية كما جاءت في الكتاب والسنة . والاجتهاد شرعا هو بذل ما في الوسع وقدر الاستطاعة كما جاء في الآيتين: ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ...) س البقرة 286 ( فاتقوا الله ما استطعتم ) س التغابن 16, وفي الحديث النبوي الشريف "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوه ما استطعتم" (رواه مسلم ), وهو استيعاب وشرح الأحكام الشرعية وتأويلها التأويل الصحيح واستنباط الحلول الملائمة لتحقيق مصالح العباد طبقا لما جاء في الكتاب والسنة وفي إطار مقاصد الشريعة, وهو من باب التيسير على العباد ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) س البقرة 185 , رحمة وتمكينا لهم في أداء العبادات دون تقصير . والاجتهاد مصدر من مصادر الشريعة كما هو متفق عليه عند جمهور العلماء وهو أن مصادر الشريعة هي ( الكتاب والسنة والإجماع والقياس) والاجتهاد هو القياس أو العقل أو الرأي وبالتالي فهو المصدر الرابع من مصادر الشريعة الإسلامية بعد الكتاب والسنة والإجماع ليستجيب في كل الأحوال للضرورات والحاجات الانسانية المتطورة مع العصر . وللاجتهاد ضوابط وشروط تحكمه طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية وفي إطار مقاصد الشريعة, ويبقى باب الاجتهاد مفتوحا لمن يدخله بضوابطه وشروطه من الفقهاء والعلماء المشهود لهم بالعلم والكفاءة وبالثبات والتمكن, وذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء, ويعتبر إغلاق باب الاجتهاد تضييقا لواسع مشرع وحرمانا لمن تأهل من منزلة أكرمه الله بها, والاجتهاد مطلق ومنه المقيد وهو يتبعض , وأهل السنة يقبلون من كل عالم في باب اختصاصه ولا يتكلم عالمهم إلا في حدود علمه ويحيل على غيره فيما لا يحسن . ويتوخى الفقهاء والعلماء الاجتهاد في كل ما ليس فيه دليل قطعي من الأحكام, ويأخذون بالإجماع وبالقياس وبالعقل والرأي وبالاستحسان عند بيان المصلحة ويرجعون إلى العرف ويعتمدون التيسير في استنباط الحلول الشرعية الملائمة للمسائل المعروضة عليهم في كل ما هو مستحدث بما لا يتعارض مع الكتاب والسنة وذلك بالتوفيق بين الأحكام العقائدية في الشريعة وضرورات الحياة استئناسا بمقاصد الشريعة وبروح الوسطية التي تأبى التشديد والغلو في أمور الدين والحياة . وعلى رأي العلماء المعاصرين ومن ضمنهم العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور صاحب الريادة في الفكر الترتيبي والتركيبي المنظم للاجتهاد يمثل الاجتهاد ضرورة دينية واجتماعية للمسلمين لحل مشكلاتهم على تنوعها وتشعبها ضرورة أن تتوفر الكفاءة والجدارة في علماء الاجتهاد, وما يحتاجه المجتمع الإسلامي هو الاجتهاد الإيجابي والإنشائي الذي يقوم على أساس الأصول والثوابت وعلى الأحكام المستنبطة من الأدلة الصحيحة أصلية كانت أم تفصيلية في صلة بمقاصد الشريعة . وعلى رأي العلماء فإن الاجتهاد دعم قدرة الإسلام على التطور مع تغيرات العصر بهامش هام من الحرية وهو القول الساهر على تطور الشريعة, فمن اجتهد من العلماء في طلب الحقيقة دون الخروج عن الأصول الثابتة ولم يدخر جهدا في معرفتها فقد عمل بما أمر الله تعالى به ولو أخطأ فذلك هو وسعه واستطاعته على معنى الآية الكريمة : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ... ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ... ربنا ولا تحملنا م لا طاقة لنا به ... ) وهي الآية الخاتمة لسورة البقرة, ومن فضل الله تعالى على عباده المؤمنين أن استجاب لهذا الدعاء القرآني المأثور كما جاء في صحيح الحديث, وفي السنة حفز النبي صلى الله عليه وسلم القادرين على توخي الاجتهاد بالمثوبة والأجر في صورة الخطأ على معنى حديثه " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر " (رواه البخاري) . وفي المحصلة يقر أهل العلم القدماء منهم والمعاصرون بأن كتاب الله العزيز وسنة نبيه المشرفة فيهما من الأحكام والبيان, ومن مقاصد الشريعة بكلياتها الخمس وبفطريتها وشموليتها مع اعتماد الوسطية والاجتهاد, كل ما يحتاجه العباد من الأحكام والشرائع وعلم بالحلال والحرام , ومن الآداب والأخلاق والعظات والقيم العليا والبشرى والتيسير, والحرية والكرامة , ولين الكلام وطيب الخطاب وسديد القول, حتى يتبعوا هدى الله جل وعلا وصراطه المستقيم وسيرة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ويسعدوا بذلك في دنياهم وأخراهم بفضل من الله تعالى إنه حليم كريم ذو فضل عظيم . نسأل الله عز وجل السداد والتوفيق والهدى له الحمد والشكر والثناء الحسن والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه الكرام .