مازلنا نتوقف وقفة من ينظرون ومن يقرؤون ومن يتاملون ومن يتدبرون تلك الأمثال التي جاءت في كتاب الله المكنون عملا بقوله تعالى (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) وما زلنا نعتمد في بيانها وفي توضيحها ذلك الكتاب المفيد القيم المتين (اعلام الموقعين عن رب العالمين) للامام البحر الهمام الحافظ الحجة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى وهو ارحم الراحمين وستكون وقفتنا هذه المرة مع المثل القراني الذي اختار له ابن القيم عنوان (مثل السراب والظلمات) بعد توقفه وتامله وتدبره بعقله النادر المستنير في قول الله تعالى الذي صاغه بابلغ واجمل واروع وافصح السطور في سورة النور( والذين كفروا بربهم اعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى اذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب او كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض اذا اخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)39/40 يقول ابن القيم في توضيح هذا المثل باجمل وافصح الجمل(ذكر سبحانه للكافرين مثلين مثلا بالسراب ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لان المعرضين عن الهدى والحق نوعان احدهما من يظن انه على شيء فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه وهذه حال اهل الجهل واهل البدع والأهواء الذين يظنون انهم على هدى وعلم فاذا انكشفت الحقائق تبين انهم لم يكونوا على شيء وان عقائدهم واعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له وهكذا الاعمال التي لغير الله وعلى غير امره يحسبها العامل نافعة له وليست كذلك وهذه هي الاعمال التي قال عز وجل فيها (وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثور(الفرقان23 ) وتامل جعل الله سبحانه السراب بقيعة وهي الأرض القفر الخالية من البناء والشجر والنبات فمحل السراب ارض قفر لا شيء بها والسراب لا حقيقة له وذلك مطابق لاعمالهم وقلوبهم التي اقفرت من الايمان والهدى وتامل ما تحت قوله تعالى (يحسبه الظمآن) والظمآن الذي قد اشتد عطشه فراى السراب فظنه ماء فتبعه فلم يجده شيئا بل خانه احوج ما كان اليه كذلك هؤلاء لما كانت اعمالهم على غير طاعة الرسول ولغير الله جعلت كالسراب فرفعت لهم اظمأ ما كانوا واحوج ما كانوا اليها فلم يجدوا شيئا ووجدوا الله سبحانه فجازاهم باعمالهم ووفاهم حسابهم وهذه حال كل صاحب باطل فانه يخونه باطله احوج مام كان اليه فان الباطل لا حقيقة له وهو كاسمه باطل...والنوع الثاني اصحاب مثل الظلمات المتراكمة وهم الذين عرفوا الحق والهدى واثروا عليه ظلمات الباطل والضلال فتراكمت عليهم ظلمة الطبع وظلمة النفوس وظلمة الجهل حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين وظلمة اتباع الغي والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موج ومن فوقه سحاب مظلم فهو في ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها الى نورالايمان...(ص125/126) اما عن التعليق الشخصي الذي تعود عليه القراء من ابي ذاكر صاحب هذا المقال المختار فسيكون هذه المرة في شكل سؤال وجيز مختصر قصير وهو سؤال يتبادر الى ذهني كلما اسمع في المسلمين من يقرؤون هذه الاية الكريمة وخاصة في ليالي رمضان وفي صلاة التراويح المباركة العظيمة فهل فهموا واستفادوا حقا بمعنى هذا المثل المذكور منذ قرون في سورة النور؟ ام قرؤوه فمروا به مجرد المرور بسرعة وعلى عجل دون ين يضيء نفوسهم اوينير قلوبهم وعقولهم بشيء من الضوء وبشيء من النور يدفعانهم الى قدر مطلوب واجب من الصدق في القول ومن الاخلاص في العمل؟ ولئن كنت اعلم ان الجواب عن هذا السؤال الضروري القصير واضح لدى اهل الفكر واهل التدبير الا انني فقط اريد ان اذكر قراء هذا المقال بذلك البيت الشعري المشهور عند العرب في كل بلد وفي كل قطر وفي كل شعب وفي كل وادي(لقد اسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي) كما لا يفوتني ان اترحم الله ذلك القائل الذكي النبيه(الي عينيه فيه ما توريه)