"قمت في حياتي بخمس ثورات الاولى ثورة الاستقلال والثانية ثورة تحرير المرأة والثالثة ثورة اجتماعية حين أعدت الاتحاد العام للشغل لحضيرة الحزب والرابعة ثورة على الفقر وازالة الاكواخ والخامسة ثورة على التطرف»… (تصريح لقناة فرنسا 3). الحبيب بورقيبة هؤلاء الذين استولوا على الحكم كأني بهم يقولون لمنتقديهم، ومطالبيهم بالمثالية في التصرف، والقدوة في السلوك، "اتركونا نعيش ونربي الريش كما فعل الاسلاف في الحكم قبلنا"، فالحكم سيطرنا عليه، حتى ولو لم نتحصل في الانتخابات الاخيرة الا على القليل، من القليل من الذين ادوا واجب الانتخاب، وتلك هي ديمقراطيتنا الفتية، التي في الواقع لا نحسد عليها، اذ اغرقتنا بسياسيين بدون تاريخ يذكر، وبزعماء هللوا وكبروا بالإخوان المسلمين، ايام توليهم الحكم، أتتنا ما سميناه بالديمقراطية المنقوصة، من حيث لا ندري، واعتنقناها بكل احضاننا، فرحين مسرورين، نباهي بها، ونشهر بمن لا يتفق معنا فيها، ولمن لا يعرف اصولها، نذكر انها اتت نتيجة قانون انتخاب، صودق عليه في ظروف غير عادية، يشوبها خلط الاوراق، والوعود الفارغة، والتدخل الخارجي بثقله، في مسار بلد فقد أوجه، واستحوذت على سلطته المؤسسات المالية العالمية، التي يزداد ضغوطها اسبوع بعد اسبوع، وهكذا دواليك حتى يتدرج عددها من سيء الى الأسوء، وتصبح لقمة سائغة لمن يشتري، ومما يزيد الطين بلة استحواذ حزب على كل مفاصل الدولة، ليدير البلاد حسب اغراضه، واصبح "الفاتق الناطق" في كل ما يهم البلاد، و يشهد على ذلك ثلة من الذين ناضلوا في صلبه، ثم تخلوا من مساره، لانهم رفضوا الزعامات الابدية، او كما يقول احد الاقلام المندسة "الربانية"، وفي ما ورد اخيرا لاحد كبار مسؤولي النهضة في جريدة الصريح لاستخلاص الدروس، والاستفادة من التجربة للذهاب الى الامام، نقف لتحليل مصارنا منذ الثورة، واشاطره حين يقول "ان الاحزاب مثلت الثورة صدمة للجميع بما في ذلك حركة النهضة التي لم تكن مهيأة للسؤال الاقتصادي ولا تملك جوابا مفصلا ودقيقا للمسألة الاجتماعية ... لقد اكتشفنا بعد الثورة أن الحياة السياسية كان ينقصها الأفكار"، ويعدد في تصريحه اخطاء النهضة في تسيير البلاد، لكن غاب عليه خطا خطير وهو الانسياق مع ما يسمى باليسار لمحو الحزب الاشتراكي الدستوري وتاريخه من الوجود، والذي ليست له صلة بالتجمع لا من بعيد ولا من قريب، وقد اتخذ هذا المسؤول منهج العقلانية في حزب النهضة، كما اكده لي قبله المرحوم محمد بن سالم، الذي كان ردده لي مرارا، عند اللقاء الذي خصني به، وهو وزير التعليم العالي: "عفى الله ذنوب من عبث لصالحه بمصالح البلاد، والسياسة من جذورها التسامح وهي في جوهرها اخلاق أو لا تكون، والواجب يملي اليد المفتوحة لإنقاذ البلاد، وخلق فيها نمط يمتاز بالمشاركة والتفاني في خدمة الغير"، وقد نبهت كغيري الى اليد المفتوحة لكل التونسيين مهما كانت عقائدهم المذهبية، وذلك في مقالات باللغة الفرنسية في كتاب جمعتها فيه بعنوان: De la révolution tout un programme…Chroniques 2011-2014 وفي كتاب آخر باللغة العربية عنونته: تونسنا إلى أين المسار؟ ان الغاية هي لفت نظر أهل الذكر، وانارة سبيل أولي الامر، الذين فرضت علينا طاعتهم، و كذلك طرح النقاش لبناء الجمهورية الثانية، والمقالات كلها استنتاجات من جراء مسؤوليات عديدة ومتنوعة، مارستها وحاولت القيام بها على الوجه المطلوب، اغلبها برعاية رجل السياسة المرحوم محمد الصياح، طاب ثراه، الذي يجمع على قدرته وكفاءته واخلاصه، حتى انه في تقديمي ذات يوم من المناضل علي بن سالم الى علي العريض، اكد لي هذا الاخير "ان تونس انجبت سياسيا كامل الوصفات هو محمد الصياح" كان المرحوم يؤكد لي دائما، "ان العمل السياسي يتطلب تجاوز المصالح الذاتية، والالتزام بمشروع يوحد القوى، ويشرك الكفاءات، وكان يعيب على النخب غيابها عن الساحة، وعدم التزامها بهذا المبدأ، اذ اتخذت من الصراعات مطية، وركنت الى حلقات المصائب التي هي كما يعتبرها المرحوم أكثر خطورة من الاستعمار العالم اليوم صعب، والوضع في بلادنا أشد صعوبة، يسكنها حزن، ويغلب عليها طيش السياسيين الجدد، ويمكن اذا الاستفادة مما كتب، ولكي تخرس الالسن وجب التحلي بالمصداقية، وحسن السلوك، ولنتساءل ولو لبضع ثوان، هل روح البذل والعطاء انطفأت مع ثورة تعاطف العالم بأسره معها لحداثتها وعفويتها؟ هل مصيرنا بين أيدي آمنة قوامها المثالية في السلوك، والتفاني في خدمة الغير؟ هل اليأس أصبح ديدننا، وتركنا للمؤسسات المالية العالمية التخطيط لمستقبلنا؟ هل بلادنا في مأمن من استعمار مقنع في طيات جمعيات ظاهرها التفاني في خدمة الشعب، والمساعدة على حل مشاكله، وحقيقتها النفوذ الى دواليب الادارة، واغتنام فرصة تأزم الوضع في بلادنا للتدخل في شؤونها؟ فما المراد إذا من تمويل مشاريع، وضخ أموال فيها بدون رقابة تذكر؟ هل تساءلنا يوما عن كيفية ما نقراه ونستمع إليه من فساد، وتعد على المال العام، واستباحة للقوانين؟ هل تساءلنا عن أسباب ذلك؟ هل فقدت في بلادنا صفة الرقيب بأصنافه؟ أين في بلادنا محاسبة النفس؟ هل ساد الفساد في غالبية مرافق الدولة ؟ هل بالإمكان محاصرة من يمول الاقتصاد الموازي الذي اصبح واقعا لا مفر منه؟ هل بالإمكان حذف الحصانة، وتطبيق القانون على كل التونسيين سواسية؟ وهلم جرا من تساؤلات منطقية، تبقى بدون رد، ومن دسائس يبث صمت حكامنا بذورها بدون وعي، أو سوء ادراك، وكفانا "السياسوية"، التي ادت ببلادنا الى ما نحن عليه من دمار، والتي لا تشفي ولا تغني من جوع، تبعث على الحيرة اذا واكبنا اعمال المجلس، لذلك وجب اخذها بعين الاعتبار حتى يعود الدر الى معدنه، ونعيد اتمام تدعيم و بناء ثورات تونس كما حددها الزعيم بورقية، مع اضافة ثورة الديمقراطية، ولنضاعف المجهود لنصلح بالفعل المجتمع، بتبصر و بمرحلية، والواجب يملي التضحية، وخدمة تونس بجنسية تونسية لا غير، وبذلك نحقق قفزة تقودنا إلى المرور من تضارب المصالح، وانعدام الأمن، الى تأسيس هياكل شفافة، تلبي طموحات المواطن في الشغل والصحة والمسكن والأمن والعيش الكريم.