صفاقس : نحو منع مرور الشاحنات الثقيلة بالمنطقة البلدية    نابل .. العيد الوطني للشجرة ... 720 ألف شتلة... للغراسة    مبروكي: انتداب 4 آلاف عون صحة 'ترقيع مؤقت' لا يعالج أزمة القطاع    "التكوين في ميكانيك السيارات الكهربائية والهجينة، التحديات والآفاق" موضوع ندوة إقليمية بمركز التكوين والتدريب المهني بالوردانين    حجز أكثر من 14 طنًا من المواد الغذائية الفاسدة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر    بنزرت ...مؤثرون وناشطون وروّاد أعمال .. وفد سياحي متعدّد الجنسيات... في بنزرت    توزر: العمل الفلاحي في الواحات.. مخاطر بالجملة في ظلّ غياب وسائل الحماية ومواصلة الاعتماد على العمل اليدوي    نبض الصحافة العربية والدولية ... مخطّط خبيث لاستهداف الجزائر    كأس العالم لأقل من 17 سنة: المنتخب التونسي ينهزم أمام نظيره البلجيكي    البطولة الإفريقية للترياتلون : المنتخب التونسي للشباب يُتوج ب4 ذهبيات وفضية في السنيغال    أمطار الليلة بهذه المناطق..#خبر_عاجل    ساحة العملة بالعاصمة .. بؤرة للإهمال والتلوث ... وملاذ للمهمشين    بساحة برشلونة بالعاصمة...يوم مفتوح للتقصّي عن مرض السكري    أندا تمويل توفر قروضا فلاحية بقيمة 40 مليون دينار لتمويل مشاريع فلاحية    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    الليلة: أمطار متفرقة ورعود بأقصى الشمال الغربي والسواحل الشمالية    بنزرت: ماراطون "تحدي الرمال" بمنزل جميل يكسب الرهان بمشاركة حوالي من 3000 رياضي ورياضية    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    الجولة 14 من الرابطة الأولى: الترجي يحافظ على الصدارة والهزيمة الأولى للبقلاوة    نهاية دربي العاصمة بالتعادل السلبي    عاجل: أولى الساقطات الثلجية لهذا الموسم في هذه الدولة العربية    شنيا يصير كان توقفت عن ''الترميش'' لدقيقة؟    عاجل: دولة أوروبية تعلن حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال دون 15 عامًا    احباط تهريب مبلغ من العملة الاجنبية يعادل 3 ملايين دينار..#خبر_عاجل    عاجل : فرنسا تُعلّق منصة ''شي إن''    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    أول تعليق من القاهرة بعد اختطاف 3 مصريين في مالي    عاجل: النادي الافريقي يصدر هذا البلاغ قبل الدربي بسويعات    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    خطير: النوم بعد الحادية عشرة ليلاََ يزيد خطر النوبات القلبية بنسبة 60٪    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    النواب يناقشو مهمة رئاسة الحكومة: مشاريع معطّلة، إصلاح إداري، ومكافحة الفساد    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    الدورة 44 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب: 10أجنحة تمثل قطاع النشر التونسي    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    الطقس اليوم..أمطار مؤقتا رعدية بهذه المناطق..#خبر_عاجل    بايدن يوجه انتقادا حادا لترامب وحاشيته: "لا ملوك في الديمقراطية"    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رجب حاجي يكتب عن محمد الصياح في أربعينيته
نشر في الصريح يوم 28 - 04 - 2018

فيما يلي الكلمة التي ألقاها اليوم رجب حاجي بمناسبة أربعينية المرحوم محمد الصياح
"أعود اليوم الى هذه القاعة للمرّة الأولى، بعد قرابة أربعين سنة، كانت لي فيها بداية حياة ،عرفت فيها الأفراح والاتراح، وكنت تحت إمرة رجل فذّ وهو المرحوم "محمد الصياح"، رحمه الله وأسكنه فراديس جنانه، نحيي ،اليوم في خشوع، أربعينية وفاته، وللأسف ليس بين يديّ مذكّرات، او يوميّات كتبها المرحوم بنفسه، وزد على ذلك، عند الانقلاب المشؤوم، فتّشت الشرطة بيتي، ثم اختلس مجهول وثائقي، ولم يعثر عليها بعد، ولم يعد لديّ الّا ذاكرتي، وما عرفته عن مسيرته، وكاناتّصالي به، يكاد يكون يوميّا.
وأتذكّر انّه كان يحدّثني، ويحذّ رني من ما يحيكه بعضهم من مكائد، ترمي الى تعطيل المسيرة، منهم الّذين لا يتحرّجون من إبداء عدائهم في كلّ مناسبة، وفي وضح النّهار، ومن كان يرتدي جلباب الدّهاء والمكر، وينسج خيوطه، بالارتماء بين أحضان الفاعلين في السّاحة السيّاسيّة، سواء أكانوا في السّلطة- و أغلبهم فشل في إدارتها- أو خارجها، بطرق شيطانيّة، اشتهروا بها منذ صغر سنّهم، وكشف التّاريخ غطاءهم، على مرّ الأيّام. التجأوا الى الهرسلة، وحرب المضايقات، اذ كان لهم فيها باع، وأداروها بامتياز، والصياح ومن كان حوله نالتهم تجربتهم، لكنّهم خابوا في مساعيهم، إذ قابلوهم بالصّبر، والصّمت الرّهيب، وسنعود يوما الى أحقاب حياتهم، ونبيّن أكاذيبهم بالحجّة والبرهان، ولن يفلتوا من ذلك، طال الدّهر او قصر، ونصيحتي لهم، إعادة البحث ثانيّة، عن من يبدع وينشر عمله باسم غيره، وكثرت في الساحة السيّاسيّة أرهاطهم إذ أصبحت هذه، مهنة متداولة للمرتزقة.
والمرحوم "محمد الصياح" رجل دولة بحقّ، تصارع يوميّا مع معارضيه، ثمّ مع المرض الّذي أصابه، والّذي تحمّله في صمت وكبرياء، إلى أن وافاه الأجل المحتوم، وتلك هي مشيأة الله عزّ وجلّ، غادر الفقيد الحياة تاركا فيها بصماته، ومؤثّرا في دواليب الدّولة، ومنجزا، بكلّ أمانة، ما كلّفه به المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة، وأنتم، سيّداتي سادتي- أعتبركم، نظرا لعشرات السّنين الّتي قضّيتها الى جانبه- نفحات من جهده، واستكمال لمساره، لأنّكم تحبّون تونس كما أحبّها، فهو خالد بوجودكم، ومعتزّ بذكراكم، لأنّه، طوال حياته، أحبّ المناضلين مثلكم، وكوّن أجيالا في المبادئ الّتي كان يؤمن بها، تبنّاها عن معرفة وطواعية، وهي القدوة في السّلوك، والتّفاني في خدمة الغير، وهما ركنان أساسيان من الفكر البورقيبي الأصيل، الّذي توّج ببناء دولة عصريّة، لها أصالتها وذاتيّتها وهويّتها، واكبت التّقدّم على مرّ الزّمن.
ظهر ذلك جليّا عندما تولىّ إدارة الحزب، الّذي كانت هذه البناية مقرّه الجديد، وكلّ يشهد أنّ الحزب الّذي أداره المرحوم بين جدرانها، انبعث من جديد، وأصبح خليّة تفكير، فيه ديناميكيّة وحياة، قادر على خوض غمار الأزمات، وتوجيه المواقف، بُعثت فيه لجان متعدّدة الاختصاصات، اهتمّت بالتّفكير في مصير البلاد، وبرمجة مستقبلها، يحدوهم في ذلك، روح التّجديد، وملاءمة العصر، وأصبح الحزب مؤسّسة تخضع للقانون، وتستجيب لمتطلّباته ، عمل المرحوم واللذين حوله، على تدعيم الإحاطة بالجماهير، فخلقت خلايا في الشّعب، تشترك فيها المرأة والرّجل على حدّ السواء، وبعثت مدارس لتكوين الإطارات، وأصبحت الشّعب تتبنّى، كلّ منها، حسب منطقتها، مشروع إنمائيّ، يشارك المواطنين في بلورته، والإسهام فيه، وكانت للفقيد، على المستوى الحزبي، إنجازات لا تحصى ولا تعدّ، ترمي كلّها الى جمع شتات الشّعب، وتعميق الحسّ الوطني، وتدعيم الشّعور بالمسؤوليّة، غايتها، بناء مجتمع متضامن، ضامن للرّقي، تسوده الحرّية والعدالة. كان يدعو الى تبنّي الإيجابيّات وتجاوز السلبيّات، وكان في آخر حياته، يحلم ببروز حزبين أو ثلاثة، يلتفّ حولها المواطنون، و يتداولون ممثّلوها على السّلطة، ويلغون السّلوك التآمري في فكرهم وعملهم، لأنّه يؤدّي الى ما لا يحمد عقباه، وكان يؤمن أنّ تغيير النّظم أمر طبيعي، وأنّ الدّستور اجتهاد، خاضع للتّطوير، لمواكبة عصره، كما كان يؤمن بضرورة تطوير مؤسّسات المجتمع المدني، الّتي يعتبرها من ركائز الدّيمقراطيّة.
اتّهموه، للإطاحة به، بتكوين "ميليشيات"، وذلك لتشويه سمعة الحزب، فجرّونا الى العدالة و أدّينا واجب البحث بكلّ أمانة، فأتاهم الردّ من وزير الدّاخليّة آنذاك، " بأنّ الحديث عن وجود ميليشيات لا أساس واقعيّ له". وصدر بلاغ من وزارة الداخلية، بتاريخ 17 نوفمبر1977 جاء فيه "تبعا للإشاعات والتّصريحات الأخيرة، المتعلّقة بوجود ميليشيا موازيّة لمصالح الأمن الرّسميّة، فإنّ السّلط المأذونة بالإدارة العامّة للأمن الوطني، تعلن أنّه لا علم لها بوجود مثل هذه التّنظيمات"وقالت العدالة أيضا كلمتها في الموضوع، وقضت المحكمة ببراءة المتّهمين.
أما السيّاسة الإعلاميّة وهو من أهلها، تنوّعت في عهد المرحوم، صحافة الحزب، اذ سهر عليها أكفّاء، كلّ عمل في ميدانه، بكلّ حرية، فكانوا مثالا في السّلوك، رحم الله الّذين غادروا الحياة، وأطال الله عمر الباقين منهم، ولهم منّي التّحية والتّقدير.
أعطاها الفقيد نفسا جديدا، وجنّدها لتكون أداة تثقيف، وتوعيّة، متماشية مع فلسفة الحزب، تنهض بتكوين الشّباب، و تحرّض الطّاقات على الخلق والابتكار، وتدعو الى المشاركة في التّنمية بأنواعها، فشقّت طريقها بامتياز، وأصبحت تروّج في كلّ أرجاء البلاد، مرجعها "الصّدق في القول والإخلاص في العمل"، فجريدة "بلادي"، وجريدة "ديالوق"، والجريدة الهزلية "بلمكشوف"، وجريدة "عرفان" وغيرها من الصّحف هيّ من وحيه، ساهم في إرسائها، ثلّة متميّزة من أعضاده، كانت اجتماعات مجلس تحريرها تعقد بانتظام، تحت إشرافه، يدلي فيها
بتوجهاته، وهو ليس بغريب عن المهنة، اذ أدار جريدة "لاكسيون" بامتياز، يكتب افتتاحياتها غالبا، محلّلا فيها أخبار السّاعة، ومدوّنا حلقات من تاريخ تونس، وللتّذكير إنّه تحمّل مسؤولية كتابة الدّولة للأخبار من سنة 1969 الى جوان 1970
وبادر ببعث "رسالة أسبوعية" للشّعب الدّستورية، يوضّح فيها القضايا الرّئيسية المطروحة آنذاك، وعلى سبيل الذّكر تناول موضوع "الخوانجيّة"، وعرّف بحقائقهم، وبأصولهم، ونبّه بما يدعون اليه، وكان يرمي من وراء تلك الرّسالة المزيد من التّوعية والتّكوين، لمناضلي الحزب وللمتعاطفين معه.
وتحت إشرافه أيضا، بعث الحزب شركات في جميع مجالات النّشاط التّجاري، خاضعة للسّوق، ممّا تطلّب إدارة حديثة وفعّالة، لها الخبرة الكافيّة، يديرها رجال تميّزوا بالعمل المثمر.
وكلّ نشاطات الحزب وشركاته تخضع من النّاحية الماليّة، إلى رقابة أمين مال الحزب، المرحوم عبد الله فرحات، الّذي كان يتابعها بدقّة وعن كثب.
وكلّ من تعامل مع الصيّاح، أو عمل تحت قيادته، اختار ذلك عن طواعيّة، وبدون البحث عن الشّهرة او المنصب، وكم كان المناضلون يتألّمون لمّا عهد بتنظيم مؤتمرهم العاشر للجيش، وأصبحوا لا ناقة لهم فيه ولا جمل، كيّف المشرفون على مؤتمرهم، نتائجه حسب أهوائهم، وتناسوا عبقريّة رئيس الحزب الحبيب بورقيبة، وقدرته على ترشيح الكفّة، وإرجاع الأمور الى نصابها، حتى تأخذ مجراها الطّبيعي، وهو طريق الصّواب والتّاريخ يشهد للزّعيم بذلك.
ولنتذكّر أنّ في هذا المبنى بالذّات، عقد في تونس، في الفترة من 01-06 جويلية عام 1975، مؤتمرا حول "تنميّة إفريقيا والطّرق الإفريقيّة إلى الاشتراكية"، تحت رعاية الحزب، التقى فيها واحد وثلاثون مشاركا، من دوّل ومنظّمات إفريقيّة مختلفة، وكان للفقيد الفضل في السّهر على إنجاحها، وقد شهد له كلّ المشاركين باختلاف عقائدهم، بدرايته، وحسن تدبيره، اذ لعب دورا قيّاديا في تقريب وجهات النّظر للخروج بالتّوافق، ودعم الإجماع والخروج بمنظّمة "الاشتراكية الافريقية "
كان لي شرف مواكبة مسيرته، طيلة عشرات السنين، لأنّني أحسست انه رجل يمكن ان يغيّر مجرى الأحداث، وعدت معه من باريس حيث كنت مستقرّا، ورجعت لوضع كلّ امكانيّاتي لإعانته في أداء واجبه على الوجه الأكمل، كلّفني ذلك ما كلّفني، فشاطرته الحلو والمرّ.
واغتنم الفرصة حتى يعرف الباحثون والمؤرّخون، أنّه عند الانقلاب الطبّي، أخذوه من منزله، وأوقفوه ليلة 7 نوفمبر المشؤوم الّذي كان مصيبة تسلّطت على البلاد، كلّفها ثمنا باهضا، وسنبيّن ذلك في الوقت المناسب، بالحجة والبرهان، سجنوه اذا، وطاردوه، طيلة سنوات، ولم يقع استثنائي وعائلتي، لأنّني كنت من رفاقه الأوفيّاء، والكثير من رفاق دربي على قيد الحياة، اطال الله عمرهم، يعرفون محطّات تاريخ الفقيد، وهم مؤهّلون مثلي، للردّ على كلّ من يتجرّأ عليه، ويشكّك في نزاهته، وإخلاصه للوطن ولبورقيبة، الّذي يشهد بمزاياه، كل من آمن بتونس ورقيّها، وكان يردّد لي دائما ما تعلّمه من بورقيبة "إنّ الصّعب في الحياة، بصفة عامة، وفي السيّاسة بصفة خاصّة، ليس القيّام بالواجب بل معرفته" و"كذلك إنّ الزّعيم السيّاسي ليس ذلك الّذي يجري وراء المناصب" وقد غصّت بهم بلادنا منذ انبعاث الثّورة.
أما اختياره، لكتابة التّاريخ بجمع مقالات، والتّعليق عليها، فهو منهج تبنّاه، لأنّه يؤمن به، ولا أحد ينازعه فيه، وتاريخ الحركة الوطنيّة، كما أكّده لي مرارا، صحبة المغفور له، ثالثنا "الفقيد البشير بوهلال"، رحمه الله رحمة واسعة، ورزق أهله ،جميل الصّبر والسّلوان. كان المرحوم يملي النصّ، وبوهلال يكتبه، وأنا أعطي ملاحظاتي حوله، فهو قويّ الذّاكرة، وكم من مرّة يعيد تحرير الفكرة، لأنّها لا تؤدّي مرماه، فيمزّق الصّفحات التي كتبت فيها، ويعيد صياغتها من جديد، ذلك هو أسلوبه في الكتابة، إنّ الكلمات عنده هي معان ورموز، يتجاوب معها بكلّ حرفيّة ودقة.
ومن المؤرّخين الجدد، وأغلبهم من مساندي الانقلاب، درسوا في الشّرق الأوسط، ولم يهتمّوا كثيرا بالقرن الثّامن عشر، ولم يأثّر فيهم منتسكيو، وديكرت وغيرهما من فلاسفة التّنوير، ومن عصر المعرفة، هم من دعّم الحكم طيلة سنوات، استغلّوا المناصب للتّدرج فيها، فكان لبعضهم العفو، وكان لهم التعويض المادّي، واجتازوا بسلام، كلّ المراحل الّتي مرّت بها تونس، قبل الاستقلال وبعده، شملتهم الوظيفة الّتي يتناسوها في تاريخهم، وهم يشهدون اليوم على شرفاء تونس، وفي الواقع يدوّنون تاريخهم، وقد تناسوا تلك المقولة "اذا لم تستح فاكتب ما شئت"، او المثل العامّي "يكذب على روح ويجد عليه". وللّذين عاشوا تلك التطورات، شاهدون على عصرهم، لا تغرنّهم الخرفات المفبركة، مزيّفة في جلّها، أتيحت الفرصة لبعضهم بعد الثّورة المباركة، لتصفيّة حساباتهم، وتنوير صورتهم، بإدلاء شهادات وتخمينات، جلّها من صنع مخيّلتهم، وقد عرفوا بولاءاتهم الى أصحاب النّفوذ، يخدمون ركابهم، ويهتفون لتصرّفاتهم، الّتي أدّت بالبلاد الى ما هي عليه اليوم من تقهقر اقتصادي، واجتماعي، وحتى بيئي. يعتبر البعض أنفسهم اليوم، أنّ لهم باع في مسيرة الأمّة، وكانوا، في الحقيقة، من أبواق صنّاع القرار، يخطّطون لهم، فيمتثلوا للإنجاز، ولو بادر الّذين يعرفون الحقيقة، او فتحت المحفوظات للعموم، لركن هؤلاء للصّمت ، وكان الأجدر بمسيرتهم. خانوا عهودهم، وتنكّروا لمبادئهم، وحقدوا على أهلهم، وأخذوا من الكذب مطيّة، لتنوير مساراتهم، ولو كان للمتطفّلين على التّاريخ دراية، لكان من الأجدر بهم، تركه للمؤرّخين ذوي الاختصاصات العلميّة الرّاسخة، لكن المؤرخين الجدد، ليست هاته الصّفات من شيمهم، وهم يلتجؤون، في أغلب الأحيان، إلى الاتهامات بدون بحث ولا مؤيدات.
أمّا عند تولّي المرحوم "محمد الصياح" وزارة التّجهيز رافقته بوظيفة رئيس ديوان، مكلّفا بالدّراسات والتّخطيط، كانت الانجازات متتاليّة ومتنوّعة، واكتشفت أنّه يعرف ملفّ البحيرة بأطواره، وكان أشرف عن بدء أشغالها لمّا كان وزير التّجهيز، بين سنتي 1971 و1973، وأذكر للتّاريخ أنّه هو الّذي تد خّل مع الشّيخ صالح، لتكون الشّراكة بينه وبين الدّولة التّونسية بالتّناصف، شركة على رأسها مهندس من الوزارة المرحوم فتحي قانة، فكانت التّجربة الأولى للشّراكة بين الخواصّ والدّولة، كلّلت بالنّجاح.
وكان مهتمّا أيضا بالسّدود والقناطر ويتابع عن كثب، تحقيق المشاريع الكبرى، منها باب سويقة، وكان حريصا على صرف الأموال المعدّة للبرامج، يتابعها بكلّ عناية، ويأمرني بتشريك كلّ الادارات في تحرير التّقارير الّتي أعدّها، لا دراجها في المجلّة الّتي تصدرها الوزارة، والّتي كنت مديرها، وكان حريصا على إصدارها في مواعيدها، يكتب
فيها الافتتاحيّات للتّوجيه و الإرشاد.
سيداتي سادتي، أيّها المناضلون في سبيل تونس، وعزّتها، إنّه ليس من الهيّن لي أو لغيري، رسم صورة حقيقيّة، لما قدّمه المرحوم "محمد الصياح" في كلّ المسؤوليّات، الّتي كلّفه بها الزّعيم الرّاحل الحبيب بورقيبة، من خدمات كبيرة لبلاده، ومن مساهمة فعّالة، في بناء الدّولة العصريّة، الّتي ننعم بالعيش فيها اليوم، ولنترك لأصحاب المذكّرات، والسّير الذّاتيّة، وكلّ من كان يدّعي معرفة السيّاسة وخفاياها، وكان حريّ بهم، تركها للباحثين لتدارسها عن رويّة، كلّ حسب مراجعه، ووجهة نظره، والعودة الى كتاب "محمد الصياح الفاعل والشّاهد" الّذي ليس بسيرة ذاتية وأكّد ذلك الكاتب المولدي لحمر، إنّما هو سلسلة من حوارات قام بها ، جازاه الله خيرا، وترك للقارئ حرّية التّحليل والنّقد
وفي خاتمة كلمتي، من البديهي أن أجزم، أن الأجيال ستذكر إخلاص هذا الرّجل وتفانيه، ووفائه لتاريخ تونس، ولمبادئ بورقيبة الّتي آمن بها، ودافع عنها، ودعا اليها، بفخر واعتزاز، وبغيرة وحماس، بكلّ ما أوتيّ من عبقريّة في الكتابة، باللّغتين العربيّة والفرنسيّة، وما كان يوما يلتجأ الى التّعاطف مع أيّ كان، مهما كانت مسؤوليّته في الدّولة أو في الحزب أوخارجهما، ولا يحتاج الى أيّ شهادة في نضاله، عاش عبقريّا في حياته، وفي تفكيره، وفي منهجيّته، يصدع برأيه، ويعلن بحبّه لتونس، وكان فاعلا في الحياة السيّاسيّة، وشاهدا على أحداثها، وصادقا في رؤاه، لمسارها، لذلك كان عرضة للتّجريح، و النّقد اللّاذع، وفي هذا المضمار حاول شرذمة، من من ليس لهم تاريخ يذكر، التّشويه بما أنجزه عن درايّة وتبصّر، والانتقام من الّذين آزروه، وهم كلّ من آمن بالعمل الصّالح في خدمة الغير، لكنّ التّاريخ كان للمفسدين بالمرصاد، حطّم أمانيهم، وشرّد أزلامهم، ورمى بهم في واد المذلّة والعار، لفقدانهم الوعي، وتشبّثهم بالمسؤوليّة.
فقدت السّاحة السيّاسيّة اذا محمد الصياح وكان صرحا، بإمكانه التّصور المستقبلي، حيث كان سبّاقا للأحداث، ورائدا من روّاد التّطور والرّقي، في كلّ الميادين الّتي مارسها، لكنّ المرض دفعه الى السّكوت، وعدم الردّ على النّقد، مهما كان مأتاه، وذلك اختياره.
كان دائما يدعو إلى ضمان الأمن، والاستقرار السّياسي، وذلك لتحقيق الوفاق الوطني، الّذي يضمن مواجهة المحن، والأزمات، والخروج منها وفي نفس الوقت، يوفّر أسباب التّقدم للأمّة، ورفع مستوى ضعاف الحال فيها، ويدعو الى الاستعداد لفضّ المشاكل بالحسنى وبالحوار المجدي، بعيدا عن الصّراع و المغالاة، حتى يعيش المواطن دوما حرّا وفي بلد آمن ومستقل. تلك هي مشيئة الله في خلقه، ومحمد الصياح سيبقى من كرّس حياته لخدمة الغير، مثالا للأخلاق والبذل، والعطاء والوفاء، فهو منارة مضيئة لا تنطفي في تاريخ تونس، رحمه الله رحمة واسعة ورزق أهله وذويه واصدقاؤه، جميل الصبر والسلوان، وشكري مجددا للجنة التنظيم التي جمعتنا اليوم لإحياء ذكراه، يجمعنا جميعا إجماعنا، على أنّه شهيد الوطن ومن مؤسّسي الدّولة الحديثة ترك سماته، في أجيال تعوّدت معه على الإخلاص للوطن. وهو بحقّ، كما وصفه الصّحفي المحترف صالح الحاجة، والفقيد على قيد الحياة، "أنه بورقيبة... من حيث لا يدري".
نم هادئا "يا سي محمد" إنّك خالد، وانعم بوجه ربّك راضيا، فسيواصل كلّ من عرفك او درس تاريخك، مشعل منارة الحرّية، ولن يترك سبيل الحاقدين عليك، لنقدك او التّطاول على ما قدّمته من تضحيّة في سبيل تونس.
أمّا أنا فسأواصل أن لأكون جديرا بما دوّنته لي بخطّ يدك، في كتابك
"الفاعل والشاهد"، "رجل الوفاء وبعد النظر"
وإنّلله وإنّ إليه راجعون،
"يا أيّها النّفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك راضيّة مرضيّة فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي"
صدق الله العظيم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.