إن صالون الصريح هو، في نظري على الأقل، نادٍ يشرف عليه عن بعد، مثل ما تفرض الآن صاحبة التاج " الكورونا"، الصحفي القدير الأستاذ صالح الحاجّة، وهو العارف بموجبات الصحافة ونواديها. يؤمّ النادي نخبة من المفكرين وحاملي الأقلام، فيتبادلون فيه وعن طريقه، ما عنّ لهم وما دعت الأحداث اليومية له، من أفكار وآراء واقتراحات وحلول، وكلّ ما تجود به أفكارهم ممّا يعتبرونه صالحا لحلّ مشاكل الشعب والوطن. إنّ معظم رواد النادي، رغم أني لم أسعد بمعرفة إلا قلة منهم، مثل الأستاذ القديدي، هم أهل فكر وأدب، ولكنهم كرّسوا كثير جهدهم وعنايتهم ووقتهم، للسياسة والسياسة وحدها، كأنها الغذاء الوحيد المفيد، وما هي في الواقع إلا غذاء مسموم مذموم. لم أختلف عنهم فيما أكتب، وما أبرّئ نفسي إنّ النفس لأمّارة بالسّوء. فأنا لم ألج النادي إلا لأحمل ما لديّ من ملاحظات أو انتقادات أو اقتراحات أو مقارنات أو معلومات، كلّها تصبّ، بطريقة أو بأخرى، في نهر السياسة الجارف. لذا سأعمل بالمقولة الإسبانية " خذ الثّور من قرنيه "، وبمثلنا العربي " خالف تُعرف " فها أنا سأفعل، وبقرني الثور سأشذ هذه المرّة، وأبتعد عن السياسة وسوسها، عساي أُدخل بعض المرح والتغيير، على رتابة وتكرار واستمرارية، لا أشك في أنّ بعض القراء قد ملّوها واستثقلوها. سألج إذن واحة الثقافة من بستانها الوارف الظليل، بستان الشعر، عسى أن يجد، من سيشرّف هذه الثرثرة بقراءته إياها متعة وفائدة، فتتحرّك همّة رواد النادي الآخرين، فيزيدون عن السياسة ما هم عليه قادرون، وفيه لا شك مبدعون، فيدلون لنا وللقراء جميعا، بما هم به عارفون، ونحن له ربما جاهلون، من قضايا المجتمع بأشكالها وألوانها وضرورياتها، ومنها الثقافية بكلّ مكوّناتها. أما أنا وقد أخذت الثور من قرنيه فسأبدأ بسرد قصتي وصديقا شاعرا، أرجو أن تنال استحسان من سيضيع وقته في قراءتها. عرفته أيام كنا نتهادى من الدنى ما نشاء، أيام الشباب الطموح الفاعل. عرفته طالبا عجيبا، يحفظ المتون، ويتسلق العروض، جاريا وراء الخليل بن أحمد، كما عرفته مثلي، عضوا مساعدا في تأسيس ونشأة مدرسة التمثيل العربي - نواة ما أصبح يدعى معهد التمثيل الوطني – مدرسة برز طلابها، فأصبح العديد منهم نجوما ساطعة على الركح وعبر الشاشة بشكليها الصغير والكبير، من أمثال الجودي والحمروني وقارة والقصباوي وغيرهم دون نسيان علي بن عياد وانطلاقه منها إلى باريس، أو السيدة منى نور الدين. كان ذلك في مستهل النصف الثاني من القرن الماضي، وكان المشروع يحظى بحماس وخبرة وإخلاص نخبة من أساتذتنا المؤمنين بقيمة فن التمثيل الثقافية، ودوره التوجيهي سلوكا ووطنية، من أمثال وفي حجم الأساتذة عثمان الكعاك ومحمد عبد العزيز العقربي، بإشراف صاحب فكرة المشروع وباعثه الأستاذ الصّديق حسن الزمرلي. داخل هذا الإطار الثقافي الفني الوطني، نشأت صداقتي بالشاعر المعروف اليوم، الشاب الطالب يومئذ، الدكتور نور الدين صمّود. كانت أياما جميلة – دراسة وكفاحا ونزهة – لكن هذه الدّار " لا يدوم على حال لها شانُ، فلا يغرّ بطيب العيش إنسانّ". لم تدم تلك الحال، إذ عصفت بي العواصف، فرمت بي خارج الوطن، تائها جوّالا، والسنون تجري وتمرّ، إلى أن هدأت رياح العاصفة فوقعت منذ سنين، حيث أنا الآن، مرتديا الغربة، ملتحفا الشوق. عودة الهدوء أثارت الحنين، فدفعني إلى عقد ما انحلّ، فاتصلت بالباقين على العهد، وهم قلّة، فكان في مقدّمتهم الشاعر، أستاذ العروض، الأديب، صاحب الطُّرَف والدعابات، الميال إلى سردها، صديقي، بل أخي نور الدين صمّود. عادت الصلة لكن، كما جاء في أغنية فريد الأطرش، " كفاية أشوفك من بعيد لبعيد * ولو قضيت العمر وحيد ". عادت الصلة، لكن بقي البعد والفراق، إذ هو ينعم بقليبيته ومزاياها المناخية البيئية الإستجمامية " الغذائية "، وأنا أجترّ غربتي في أقصى الجنوب الغربي من البحر المتوسط. تحدّينا المسافات بفضل المخترعات الحديثة، أو بما تسمح السنّ باستعماله منها. أصبحنا نتبادل الرسائل إذن، عبر الشبكة العنكبوتية، فاكتشفت صديقا جديدا، يجيب أو يعلّق على كلّ إرساليّة بأبيات مرتجلة، مرفقة في الغالب بشبه درس في العروض، وتعليق لغويّ أو طرفة تحمل عبرة. مثال ذلك: الأخ محمد، بداية ردك من الباب البلاغي: (تأكيد المدح بما يشبه الذم) فعيبك أنك تحب الكمال، فياله من عيب محبوب! وهذا النوع مثل قول النابغة في وصف قوم أبطال: (ولا عيب فيعم غير أن سيوفهم * بهنَّ فلول من قِراع الكتائبِ) والضمير في قول النابغة (بهن) (يعود على السيوف) ولولا الوزن لقال: (بها) وهو أسلوب قديم في الشعر والنثر، وفي القرآن الكريم مثل قوله تعالى في سورة الرحمن: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ(54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ(56) فالضمير في قوله: (فيهن) يعود على (فُرُش بطائنها من إستبرق) وهي جمع غير عاقل وكان في الإمكان أن يقول: (فيها قاصرات الطرف) ولعلك تذكر ذلك البيت القديم: ملآ السنابل تنحني بتواضع * والفارغاتُ (رؤوسُهُنَّ) شوامخُ تقبل في الختام تشكر: ن ص يتحفني، صديقي الشاعر صمّود أحيانا، بما جدّ عنده من قصائد دون اشارة إلى نشرها أو عدمه، منها "خماسيات الثورة " 14 خماسية – ترجمتها إلى الإسبانية، وهي في أمان بعد أن نُشرت في فضاء مناسب جدّا، مجلة مختصّة، حسنة السمعة، كثيرة الرّواج، نشرت والحمد لله، وصاحبة الجلالة، وعيونك خضر. تقول أولى الخماسيات: سيدي الشعبُ، أنتَ ربُّ الكلام ِ قلتَ شعرًا بدونِ أيِّ نِظامِ غيرَ أنِّي أراه حُرًّا طليقًا وبليغًا يَهُزُّ كلَّ الأنام سَمِعَتْهُ الآذانُ في كلِّ قُطْر ٍ ورأتْهُ يَرِفُّ كالأعلام ِ فهْوَ كالسَّيلِ مالُهُ أيُّ سدٍّ وهْوَ نارٌ تَدفَّقتْ بالضِّرَام ِ أحْرقتْنا بِحَرِّها، وهي نورٌ بسَناه يُزيحُ جيْشَ الظلام ِ. أمثلة لديّ عديدة من أجوبته "الغريبة" اخترت منها جوابا علاقته بي متينة. طلب منّي الشاعر الصديق رأيي في موضوع، فتملّصت بأدب مدّعيا عدم الفهم، وكي لا أكذب قلت أنّ الأمر لم يدخل صلعتي، التي اعتبرتها حماتي مميزة وختمت بعبارتنا الشهيرة: "خاطيني يا خويا "، فعادت لي منه االعبارة في ابيات مرتجلة بها كلمة خاطيني بألف بعد الخاء وبدونه. لم يمض إلا يوم أو بعض يوم حتى جاءني هذا الجواب: خاطيني وخطيني سواء ولا فرق بينهما إلا أنّ الوزن الشعري هو الذي فرض ذلك فالأولى (خاطيني) كان الوزن يحتاج إلى ساكن، والثانية (خطيني) لا يحتاج إلى هذا الساكن، وهذا أمر عروضي، إلا مَن كان مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي، واضع علم العروض، أو صاحب (منتدى الخليل) وأنت تعرف أنك (صاحب صاحب منتدى الخليل) فافهمنَّ خبره، فهل تعدَّى هذا الكلام صلعة رأسك التي لم تر حماتك أجمل منها، وأقول فيها الآن ارتجالا: صلعة ذات فتنة أعجبتها ** ورأتْها من أجمل الصلْعاتِ بنتُها (بيةُ) التي فتنتها ** منذ عهدٍ، من قبل تلك الحَماةِ إنّ(نجوى) لها كذلك رأيٌ ** في الذي ما فهمتَ مِن أبياتي منذ جاءت رضيعة ً(لقليبيا) ** نسيتْ عندنا ألَذ (سوسات) وأراها من بعدِ ذا نسيتنا ** مثل نِسيان (بيةِ الباياتِ) فلتعودوا ولْتذكرونا جميعا ** واصحبوا في المجيء (خير حماةِ) مَن لها فتنة بصلعة خِلٍّ ** مثل صحراءَ أقفرتْ من نباتِ. مع عدم المؤاخذة على هذا الارتجال الفكه والسلام من ن ص لم تخل القصيدة المرحة من العتاب، فبيّة زوجتي، ونجوى ابنتنا، والمناسبة زيارة فريدة نعمنا فيها بالكرم والجود، وها هو يعاتب بلطف خفيّ عدم التكرار، فأهلا باللوم وعتاب الأصحاب. أما آخر ما استلمت – عند كتابة هذه الأسطر - فهو جواب عن طلب مساعدة إذ أني كنت بصدد ترجمة بعض أعمال كبير المستعربين الإسبان، فوجدت قصيدة من تأليف شاعرنا المرحوم عبد الرزاق كارباكة عنوانها "بعد موتي." ارتأيت أن نشر الأصل أفضل من ترجمة عن ترجمة، فرجوته أن يحصل لي على نصّ القصيدة. لم يبخل، بل زاد كرما، فأضاف قصيدة نظمها ليجيبني وعنونها " قبل موتي" هذا نصّها والجواب: الأخ محمد تحية طيبة وبعد ، فقد تحصّلت اليوم حوالي منتصف النهار على نصّ قصيدة كرباكة التي طلبتها منّي ، وهي عبارة عن سبعة أبيات فقط لا غير، منسوخة من جريدة الزمان ، التي نشرتها من زمان بعيد ، ولست أدري إذا كانت كاملة أم لا فقارنها بالترجمة التي لديك للتأكد من كمالها أو نقصها، وعندما انتهيت من رقنها خطر لي ، كالعادة ، أن أعلّق عليها نظما، فلم يقف القلم حتى كتبت ثمانية أبيات أي تجاوزت قصيدته بيت واحد، فالرّجاء الردّ على كل ذلك ، مع ملاحظة أن كرباكة قد ارتكب التدوير، وهو مقبول في البحر الخفيف دون غيره ، حيث يقسم كلمة بين الصدر والعجز، ولكن التضعيف في كلمتي: (تَنْحَلُّ) و(فتَبْتَلُّ) يجعل اللام فيهما مقسومة بين الصدر والعجز هكذا: (تَنْحَلْ * لُ) فتَبْتَلْ * لُ، كما أنه قسم كلمة الور*د والب*عد تحت ضغط الوزن. أما تعليقي الموزون فلم نجد فيه تدويرا وتقبل القصيدتين مع المعذرة على التأخير والسلام من ن ص قال عبد الرزاق كرباكة بعد موتي بعد موتي عناصرُ الجسمِ تَنْحَلُّ ** تِبَاعا وتستحيل رغامَا ثم تَجري المِياه فيها فتَبْتَلُّ ** فَيَمْتصُّها النبات طعامَا فاذكريني إذا تكللتُ بالورْ** د وإن شِئْتِ فاذكريني دوامَا غيْر أنّي بالوَرْدِ أدنو على البعْ ** دِ، ففيها هَباءُ جسمي أقامَا وانشقيه فإن فيه أريجًا ** كان مني تحية وسلامَا وانشقيه فإن فيه مزاجًا ** عاطرًا كان في فؤادي غرامَا عبد الرزاق كرباكة جريدة الزمان 29 جوان 1930 ص 1 وأضاف نورالدين صمود ارتجالا قبل موتي وتقَبَّلْ تحِيَّة (ًقَبْلَ مَوتي) ** من صديق على الوداد أقامَا قبل أن أغتدي هباءً وأفنَى ** ثم يَمْتَصُّني النباتُ طعامَا وَلْتَقُلْ للتي أحبُّ: اذْكريني** كل حينٍ، لا تذكريني لِمَامَا فأنا قد عَشِقْتُ كل الصبايا ** مُنذ أن كنتُ بَيْنَهُن غُلامَا وانشقي العطرَ إذ أضُمُّكِ حَيًّا ** ودعيني إن صرتُ يوما رغامَا ففؤادي في القرب ينشر طيبًا ** إذ تَكَللتُ بالْورود دوامَا ذاكَ عندي الغرامُ ما دمتُ حيًّا ** فلْتزيدي على غرامي غرامَا وستبقى ذِكْرَايَ بَعد رحيلي ** حيث نزدادُ في الجِنان هُيامَا حسبُ حظي أني فتنتُ العذارَى ** وتركتُ الحسانَ حولي هَيامَى وهذا البيت قديم منذ الشباب الأول وأصْله مصرّع ٌعلى روي الراء: حسبُ حظي أني فتنتُ العذارَى*وتركتُ الحسانَ حولي حيارَى والحيارى: الحائرات في الحب، والهَيامَى: الهائمات في الحب وهما سواء تقريبا هكذا أجابني ويجيب، أخي الشاعر الذي ابتليت بصدقاته، فأعتقد أن هذا وحده كاف لتأكيد ما قلته بشأنه، أعني ما يعرف بالانحراف المهني الذي يجعله يلقي درسا في كلّ مناسبة، دون أن يتخلّى عن المزاح ولو مزجه بلوم وعتاب. فهل رفعت الستار عن جانب غير معروف من صديق أو من شاعر؟ لست أدري لكني سعيد بوفاء هذا الصديق أكثر الله من أمثاله بيننا في تونسنا المعطاء. مدريد 14-8-2015