رئاسة الحكومة ترخص للجمعية التونسية لقرى الأطفال "أس وأ س" جمع التبرعات لفائدة قرى أطفال فلسطين    غدا... يوم وطني لتقييم موسم الحبوب 2025/2024    البنك المركزي: تسجيل زيادة هامة في استخدام "الكمبيالة"..    القيروان : وفاة شيخ يعاني من إعاقة بصرية تناول مبيدا حشريا على وجه الخطأ    غار الدماء: امرأة تُضرم النار في جسدها داخل معهد    ''عاجل: تصعيد اسرائيل يثير غضب بريطانيا... وتطلب ''وقف فوري لإطلاق النار    لأوّل مرة: هند صبري تتحدّث عن والدتها    شنوّا تعمل البنوك بفلوسك؟    عاجل - يهم التوانسة : التمديد في الصولد الصيفي    الحماية المدنية: 528 تدخلا منها 80 لإطفاء حرائق خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية    الرئيس الفنزويلي يتهم واشنطن بالإعداد لعدوان عسكري على البلاد    غزة تتعرض لقصف إسرائيلي عنيف وروبيو يعطي "مهلة قصيرة" لحماس لقبول اتفاق    عاجل/ انفجار يهز غرب باكستان..وهذه حصيلة الضحايا..    لمحبي الرياضة : تعرف على الموعد والقنوات الناقلة لمباراة ريال مدريد ومارسيليا    عاجل: دوري الأبطال يتغيّر.. شنوة التغيير الجديد؟    الاتحاد المنستيري يتعاقد مع اللاعب الجزائري سامي بوعلي    اتحاد بوسالم يتعاقد مع اللاعب حازم كانون    امضاء مذكرة تفاهم بين الجامعة التونسية لوكالات الأسفار والسياحة واللجنة الوطنية للعمرة والزيارة بالمملكة العربية السعودية    عاجل - تحذير للتوانسة : رد بالك من الأقلام المضيئة وهذه النوعية من البراية ...خطر و مرض    هام/ وزارة الأسرة والمرأة تنتدب..    عادة جديدة عند التونسيين: الاقتطاعات البنكية تنمو بشكل لافت    راغب علامة عن زوجته: لم تحسن اختياري    هشاشة الأظافر: مشكلة جمالية أم مؤشر صحي خطير؟    خطر كبير على ذاكرة صغارنا: الوجبات السريعة تدمّر المخ وتسبّب ضعف الذاكرة!    ال'' Vape'' في الكرهبة: خطر كبير على السواق والركاب...علاش؟    الزهروني: يتسلح بسكين ويطعن المارة والامن في الموعد    من 15 إلى 19 أكتوبر: تنظيم النسخة السادسة من الصالون الدولي للسلامة الإلكترونية    تصفيات كأس العالم لكرة القدم فتيات U20 : تونس تستضيف غانا بملعب صفاقس يوم 20 سبتمبر    بوحجلة: وفاة العرّاف "سحتوت" بعد تناوله مبيد حشرات عن طريق الخطأ    حجز 4،7 أطنان من الفرينة المدعمة لدى إحدى المخابز المصنفة بهذه الجهة..    بنزرت: توجيه واعادة ضخ 35.2 طنا من الخضر والغلال والبقول بسوق الجملة بجرزونة    محرز الغنوشي يبشر التونسيين:''جاي الخير وبرشة خير''    علاش تمّ إيقاف العمل بإجراء تمديد عقود الCIVP؟    نيران تلتهم الهشيم بزغوان.. 1000 متر مربع من الغابة تضرروا...شصار؟    وزارة الصحة: ردّ بالك من الماكلة المعلبة... السّر خطير    سحتوت ''العراف'' ...يتوفى بمبيد الحشرات في بوحجلة...شنوا حكايتوا ؟    الكرة الطائرة....خسرنا ضد إيران أما الأمل مازال قدام المصري..كيفاش؟!    طقس الثلاثاء: سحب قليلة وحرارة مرتفعة تتراوح بين 30 و39 درجة    أعضاء مجلس الهيئة الوطنية للمحامين    ترامب يطلب تعويضا خياليا عن "كذب" بحقه    إيران تعلن عن ملاحظاتها على بيان قمة الدوحة أمس    حماس.. تصريحات ترامب هي تجسيد صارخ لازدواجية المعايير وانحياز سافر للدعاية الصهيونية    همسات من قوافي الوطن...إصدار جديد للمربي توفيق الجباري    الكوتش وليد زليلة يكتب...حتى تكون العودة المدرسية رحلة آمنة لا صدمة صامتة؟    خواطر من وحى العودة المدرسية .. تخفيف البرامج والمواد واللوازم المدرسية وملاءمة الزمن المدرسي مع المحيط والبيئة    انطلاق المخطط الوطني للتكوين حول الجلطة الدماغية    طقس الليلة    وداع المدرسة: كيفاش نخليوا أولادنا يبداو نهارهم دون خوف؟    إنتخاب "معز الناصري" رئيسا للجنة الإستئناف التابعة للإتحاد العربي لكرة القدم    الرابطة الأولى: البرنامج الجديد لمواجهات الجولة السادسة ذهابا    "غراء عظمي".. ابتكار جديد لعلاج الكسور في 3 دقائق..    كلمات تحمي ولادك في طريق المدرسة.. دعاء بسيط وأثره كبير    أولا وأخيرا ..أول عرس في حياتي    اختتام الأسبوع الأول من مهرجان سينما جات بطبرقة    من قياس الأثر إلى صنع القرار: ورشة عمل حول تنفيذ مؤشرات الثقافة 2030 لليونسكو    أبراج باش يضرب معاها الحظ بعد نص سبتمبر 2025... إنت منهم؟    خطبة الجمعة .. مكانة العلم في الإسلام    مع الشروق : الحقد السياسيّ الأعمى ووطنية الدّراويش    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دوز... أحيت ذكراه : محمد المهدي بن نصيب... الشاعر الذي مات في الحياة وعاش في الموت
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

* تونس (الشروق):
على مدى يومي الجمعة والسبت 8 و9 ماي احتضنت دار الثقافة محمد المرزوقي بدوز الدورة الاولى لملتقى محمد المهدي بن نصيب هذا الشاعر الذي مثّل ظاهرة نادرة في تاريخ الشعر العربي الحديث، شاعر واجه الحياة بالقسوة على نفسه وقتلها تدريجيا للثأر من وجود لم يمنحه إلا الفقر والاعاقة والألم.
الشاعر الذي ولد في 22 ماي 1954وتوفي فجأة في 15 فيفري 2003 سيذكره الادب العربي كواحد من الشعراء البوهيميين الذين أفردتهم القبيلة كما أفردت طرفة بن العبد والشنفرى والسموأل... وغيرهم من الشعراء الذين عاشوا في الهامش وعانوا الاهمال والقطيعة لكنهم حيوا في الموت.
محمد المهدي بن نصيب الذي احتفت به المندوبية الجهوية للثقافة والشباب والترفيه ببلي بتنظيم ملتقى سنوي حمل اسمه وسيهتم بثقافة الهامش في الادب العربي والانساني مات في حياته تحت سطوة الموروث القبلي والتقاليد لكنه مثل أي مبدع حقيقي يعيش الآن في الحياة.
هذا الملتقى شارك فيه عدد من أصدقاء الشاعر الراحل ومن الباحثين وكان برنامج المداخلات كالآتي:
أنا والمهدي بن نصيب ودوز: صالح الدمس.
وردة رمل في إناء ظامئ: عبد الله مالك الاسمي.
دلالات الانتماء في «قصائد ظامئة»: حسن مبارك.
دلالات الغربة في شعر محمد المهدي بن نصيب: الدكتور محمد الأحول.
هوامش شاعر عاش في الهامش: محمد المي.
الى جانب الشعراء منصف الوهايبي وشمس الدين العوني وعبد المجيد البرغوثي ونجوى بن أحمد من الجهة... وعرضت فرقة بلدية دوز للتمثيل للضيوف مسرحية: خلوني وقامت الفرقة قبل العرض بتكريم الباحث محمد المي الذي واكب عديد المحطات الثقافية في مدينة دوز.
ووعد المندوب الجهوي للثقافة والشباب والترفيه الاستاذ التهامي بلحسن بطبع أعمال هذه الندوة كما يبحث الآن مع «بيت الشعر» إصدار المخطوطات الشعرية للشاعر الراحل. هكذا شاءت الاقدار أن يعيش المهدي في موته بعد أن مات في حياته.
«الشروق» تقدم هذا الملف عنه تكريما له بعد أن كان أحد كتّاب ملحقها الثقافي طيلة حوالي أربعة عشرة عاما وكان سيكون أحد أصحاب الاعمدة في «شروق الابداع» لكنه مات قبل صدور عدده الاول بأسبوع.
رحم الله محمد المهدي بن نصيب.
صالح الدمس
عبد الله مالك القاسمي
حسن مبارك
منصف الوهايبي
شمس الدين العوني
---------------------------------------
تجربة بن نصيب حريّة بالدرس ضمن أدب الهامش
* شمس الدين العوني
لقد مثّل الهامش متنا آخر في الثقافة العربية الاسلامية لا يقل قيمة عن الرسمي والمتداول والمعهود.
ومنذ القدم، عرف شعراء بحيّزهم الهامشي البعيد عن المألوف وهم يتقصّدون بذلك الاقامة في حيز آخر بعيدا عن فكّي السلطة والمجتمع وقد شهد الادب العربي كثيرا من النماذج وخصوصا في الشعر، تلك التي تحيّر أصحابها عدولا زمانيا ومكانيا يليق بالتجربة وبالنص وفي الادب الغربي واللاتيني والافريقي أيضا نجد هذا الضرب من أدب الهامش.
وقد عرف هذا النمط الادبي عديد الخصائص والرؤى جعلت منه أدبا مخصوصا لفرادة تجربته وطرافة تعبيراته وجدته أيضا وقوة تعاطيه خصوصا مع الآخر الذي شكل الى حدود بعيدة ما يعرف بالرسمي... لذلك خرج عديد الشعراء عن المجتمع تجاوزا لايقاعاته المطمئنة وأسئلته المعهودة ورفضا، أيضا، لاشكال التواصل والتعاطي والطرح... وفي تونس، حتى تحدد المسألة أكثر، يمكن الحديث عن تجربة متميزة في هذا المجال وهي حياة الشاعر الراحل، المهدي بن نصيب، شاعر مدينة دوز الاول الذي ذهب به وفاؤه الى حد الهيام بها ولكن بطريقته الخاصة التي جعلت منه شاعرا يرى الاشياء بمنظاره الخاص.
لقد أحس هذا الشاعر بخيبات عديدة عمّقتها ثقافته الشعرية والانسانية العالية الى أن بلغ مرحلة من الصفاء جعلته يعيش في حيز خاص تشكله الكتابة المغامرة والجريئة وكذلك انفراده بذاته بعيدا عن صخب الناس والشعراء والفعاليات المختلفة... وهكذا غدا هذا الشاعر الى عالمه الخاص بعيدا عن القطيع الثقافي والشعري، ديدنه في ذلك تجربة مخصوصة في النص وفي الهامش، وعلى قدر جودة نصوصه وثرائها، فإن المهدي بن نصيب كان دائما في ذاكرة نظرائه الشعراء رغم ما يكنه له البعض منهم من تجاهل ونسيان ولا مبالاة... ومع ذلك لم تخرج المدنية التي عاش الشاعر على هامشها، عن كرمها وعمقها باعتبارها مدينة بناسها وبروحها وبذاكرتها... لذلك كان الاحتفاء عظيما وكانت المعانقة ملفتة ومدمرة وبدت مدينة دوز كبيرة وشامخة بشاعرها الذي خرج ليس عنها فحسب، بل عن كل شيء ليكتب نصه بنزف الروح وبالحسرة وبالنظرة المسائلة لهذا الزمان... وبأشياء أخرى...
أعتقد أن ملتقى دوز للشعر الذي حمل اسم الراحل محمد المهدي بن نصيب، جدير بأن يحلم ويكبر ليصير من أهم المهرجانات التي تهتم بأدب الهامش ولعل تجربة المهدي جديرة بهذا التعاطي والحمد لله أن الفكرة وجدت أصداءها لدى صديق وفيّ لبن نصيب وكذلك لدى رجل الفعل الثقافي... إن أدب الهامش سوف يجد في تجربة المهدي علامات أخرى وقراءات متعددة وهذا مهم...
----------------------------------------
عاش في الهامش... ومات على الهامش
* صالح الدمس
المبدعون المهمّشون عادة ما يكونون في المدن الكبيرة ذات البصمات المتعددة والمكتظّة بالناس الذين لا تربط بينهم علاقات متينة كثبانا من الخلق ونادرا ما يقع هذا التهميش في القرى والمدن الصغيرة ولعل محمد المهدي بن نصيب يمثّل استثناء في هذه الحالة لأنه عاش وسط مدينة متجذّرة في الارض ومتمسّكة بأصولها وعاداتها كأشد ما يكون الاتفاق والالتحام.
إلا أنه خرج عن طاعة القبيلة وشذّ عن تقاليدها وطقوسها وارثها، قد تكون له دوافع داخلية او نفسية لا نفهمها ولكن الاكيد أن احساسه بأنه وافد على قبائل المدينة وأنه لا يملك نفس الجذور سواء في الاخلاق او الخلق خلق منه كائنا نافرا وتحفّز للهجوم قبل ان يتهيأ للدفاع وكان هجومه هجوم المبدع فانزوى في ركن شعره وهيأ نفسه للعزلة هاربا الى وحشته التي لم يكن يؤنسها الا بكأسه وقلمه وكرّاسه.
حين نقرأ قصائد المهدي نشعر دون عناء بهذه الحدّة في ردّة الفعل تجاه القبيلة من خلال الصور التي يفضح فيها قسوته وشدّته على نفسه لكأنه يعذّبها بل هو يصنع ذلك بوعي او بدون وعي هامشية محمد المهدي بن نصيب لم تكن عفوية بل هي موقف من الوجود والعشيرة التي لم ينضبط لقوانينها وان ينفذ على ايقاعها لذلك كان لابد له من حلّين اما أن يتصادم او ان يعيش في هذه العشيرة.
لم يكن ليعير الناس اهتماما بل منطويا على ذاته وعلى روحه المنطفئة، ولعل من الملفت للانتباه في المعرض الوثائقي الذي أقيم في الدورة الاولى في الملتقى الذي حمل اسمه ان هذا المعرض لا يحتوي الا على عدد قليل من الصور الفوتوغرافية رغم انه احتك بكثير من الشعراء وشارك ولو بنسبة قليلة في المهرجانات والملتقيات التي عادة ما تكون فرصة لاخذ الصور للذكرى، ولكن أيّة ذكرى للمهدي وهو يرى نفسه خارج الدائرة فلمَ الصور إذن وهو الذي يمثّل الحاشية بالنسبة لمتن الكتاب ولعل ورقة مثل هذه لا يمكن ان تفي بهذا الهامش في حياة محمد المهدي بن نصيب لأنه يمثّل ظاهرة نادرة في تاريخ الأدب التونسي وهو نموذج لبعض المبدعين العالميين الذين عاشوا هذه الوحشة وعاشوا خارج الدائرة كأربلتي سرجان ومحمد شكري وغيرهما.
* صالح الدمس
-------------------------------------
د. محمد الأحول : دلالات الغربة في شعر محمد المهدي بن نصيب
هل يُولد الشعر من رحم المعاناة ام هو محض غواية؟
طرحت هذا السؤال وانا اتصفّح ديوان «قصائد ظامئة» لمحمد المهدي بن نصيب، فالشاعر عانى الفقر بل العوز وعاش الحرمان والمرض والتهميش فهل استطاع ان يفصل في شعره بين عالمين يبدوان منفصلين، عالم الذات وما يختلج فيها وعالم الشعر وما يرسمه؟
نظرت في الديوان فإذا بمعاني المأساة والقلق والحيرة تمثل قطب الرحى من الديوان وعليها يدور القول. فعنوان الديوان يشي بتلك المعاني وما تفضي اليه من شعور حاد بالغربة. فالقصائد لن تطفئ الظمأ بل ستُبذل الارتواء المنشود الى عطش شديد. وعناوين القصائد تدور على الانكسار والرحيل الدائم فينفتح الديوان على «أولى الشذرات المتكسّرة» لتعود القصيدة السابعة من خمس عشرة قصيدة فتحمل عنوان «شذرات متكسّرة» ليسقط الشاعر شهيدا في قصيدة «شهادتان وشاعر».
فالديوان يُمثّل جسما متماسكا وقد قسّمه صاحبه الى رأس وصدر وذيْل تنهشه مخالب العذاب وتعصف به رياح القلق. فالشاعر حاله حال أبي الطيّب المتنبي في بيته وقد جاء تصديرا في احدى القصائد:
بم التعلل لا أهل ولا وطن
ولا نديم ولا كأس ولا سكن
فغربة ابن نصيب الذي كان يبحث عن نصيبه من الدنيا والناس كل مكوّنات البناء الفنّي في شعره فالثنائيات قائمة ولافتة فقد اجاد الشاعر توظيف الضمائر والازمنة والمحسّنات البديعية كما أجاد تكثيف معاني الغربة وتشقيقها. فكانت المواءمة تامة بين المبنى والمضمون.
وقد سعى الشاعر الى الكشف عن كوامن نفسه ليعرضها على القارئ صادقة حيّة فهو يتماهى مع القارئ:
دنِف ومعتلّ ومريض
وجناحي متكسّر ومهيض
وقلبي مضطرب النبضات حزين (الديوان ص 49)
وأفضح عن الاغتراب وهو يحيا «على ارخبيل من الحزن» (ص 28) فقال:
ناديت
منفردا في فلوات الروح
لا ماء... لا شجر يضيء. على أصقاع القلب المجروح
إني مغترب وكسيح...
بل إني المشنوق المقتول المذبوح (ص 55)
فمن كان هذا شأنه فأحرى به أن يكون دائم الوجع:
أجرجر القدمين على جثة جبل الوهم...
حملت حقائب محشوّة بالأسى
تمازج فيها بكائي وشوقي
فكان الشاعر دائم الرحيل لا يستقرّ على حال وأني له ذلك وقد يمّم وجهة غير معلومة:
وأحضرت زادي ومائي
وأسرجت رحلي لأبحث عنك
سألت.... سألت...
لم يبق سوى الرمل...
قلت للرّمل: هذا الفراغ المدمّر هل ينتهي!!! (ص 33).
هذه الوجهة قد لا تكون بعيدة فهي حينا غوص في الذات وما يمزّقها من أحزان:
... ومن زفرتي
وليلي الطويل
يكون مدادي (ص 41)
وقد تكون وجهة الشاعر حينا آخر داخل المجتمع فهو المنبوذ داخل الجماعة فتصبح الحياة وحشة واغترابا:
وتنشد للجند أخي ما ثوى
لعلّه عانق وجه السماء
ليقطف ثمر الخلود
لعله محتجب عن بصائرنا
ذات يوم يعود...
ليطرد جورا
ويملأ الارض عدلا
وينصف آل بيت النبي
ولكنه خارجيّ!!
فيكون التمرّد ديدن الشاعر وتتّسع دائرة القلق والتمزّق فتكون الذكرى هي الملجأ:
ولكن تذكّرت في كلل الوجع المتوطّن
جرّة خمر قديمة
جنّها لي الجد، وفي تربة الروح
ومنذ الزمان السحيق.
فأخرجتها أطفئ نار الحريق!! (ص 46)
وممّا يزيد طعم الحياة مرارة في نظر الشاعر ان الموت راصد لنا ينغّص علينا عيشنا
ما طعم الشعر
وساقي تداعبُها قطرات من نهر الحياة
والأخرى تُسافر نحو القبر (ص 64) وهكذا يصل الشاعر الى أوج التأزّم. فغربته تذكّرنا بغربة أبي حيّان التوحيدي. فهي غربة مركّبة لا تفتح من باب الأمل الا قليلا:
ورغم اغترابي على ضفّة الانتحار البطيء
ورغم نزيف دمي
وأني بعده: لا!!!
سأبقى على ربوة الانتظار!!
سأبقى على ربوة الانتظار!! (ص 41)
فالنزعة التشاؤمية جليّة في هذه الأبيات وفي غيرها ولعلّ تأزّم حياة الشاعر في ظل وضع عربي وانساني مأزوم تفسّر الى حد ما هذه النزعة. فهل يُمكن لمن كان في مثل حال الشاعر وفي انتمائه الى حضارة مهدّدة بالأفول ان يصدر عن موقف متفائل. أليس صدق الشاعر وهو سرّ شاعريته في الديوان.
---------------------------------------
أربع قصائد غير منشورة لمحمد المهدي بن نصيب
1 فسخ لطلاءات زيف «نوّارة الدّفلى»
أشعلته شمعة في دياجير مهجتي وفؤادي
وانتحلت له أغنياتُ المودّة والصّدق
وفرشت له بساطا من العشق
وألبسته تاجا من الياسمين
بل زرعته وردة في خمائل شعري
وكنت على قربه يبرّح بي شوقي وصدق حنيني
ثمّ امرأته من لبن الحُبّ وفيض مديحي
فجعلت من بياض فراغاته البور..
حقل صفاء.. بل حمائم بيضاء تحلّق على شواطئ أبحر روحي
وقلت : يعلّل قلبي الجريح..
بابتساماته وعذب الحديث ووجه صبوح
فيخرجني من وحدتي وانفرادي
... ولكن.. ها أغنيات المودّة تسقط من حالق الزّيف
(فكيف سأمحو جميل شعوري وصادق حرفي
وبهجة لحني وصادق عزفي؟)
وها وردتي في خمائل الشّعر ليست سوى حقل لأزهار حُمْق (*)
ونوّار دفلى.
و»حقل الصّفاء» وهذي «الحمائم البيضاء» ليست سوى أبحر الظّلمات..
مسلوبة من حسن الفعل
تقابل روعة القول
بضحكتها النّاعبهْ!
ومسحوق زيف طَلتْهُ على الشّفة الكاذبَهْ
وأقنعة نفور أحكمت شدّها على شمسها الغاربهْ
* دوز في : 24 10 2000
(*) ا لمقصود «الزهرة الحمقاء» وقد سمّيت كذلك لأنها تنبت على ممرّات النّاس فيدوسوها فتموت.
2 نورس الجنوب
«إذا قلت هذا صاحب قد رضيتُهُ
وقرّت به العينان بُدّلْتُ آخَرَا»
* إمرؤ القيس
يمتصّني الودّ
أو تتعلّق بي أغنياتك التي تجنح نحو الصّفاء
بل الليلك الأبيض النّورسي..
وتورق بيْن السّطور أمنية الشّغف المتوطّن بين الجناحيْن:
أن أرى أجوبة عن سؤالي القديم..
أن أرى صاحبا لا يتبدّل ليضحى خاتمةَ اليأس
(لعلّك أنت)
أنا لن أجازف برمي مناديل الوفاء، ولكنني أتساءل:
كيف تسللت إلى القلب
متّشحا بالتودّد
مرتديا جبّة الحبّ
ممتطيا صهوة قلبي الجموح؟!
وكلّ القطارات تمرّر عجلاتها على جسمي الغضّ
وكل الأفاعي تكبّلني بالأسى.
تحاصرني بالفحيحْ!
وتضني فؤادي الجريح
(كان لي في ما مضى دمية
بل رفيق من طيور السّنونو
يكسّرلي الحزن بشعره الذّهبي
وعينه العسليّه
فأصبح غصنا من الحبّ
وزهرا من الجلّنار
لكن.. رفيقي طارْ!!)
.. وهذا المساء
ابتدأت نافورة الموج تشدو
وامتزجت زرقة البحر ببياض المدّ والجزر
وتلعثمت الكلمات على شاطئ ألسنة الصّدق:
أتضحى السنونو الغريب؟
بل النّورس الصادق المصطفى؟
صديق القلوب
رفيق الوحيد بهذا الجنوب؟!
* دوز (05ديسمبر 1999)
3 أغنية عتاب...
أقلت من عمق قلبي النداءات بإزاحة صدإ الودّ
وألجمت آهاته النّائحات حين غدا هدفا لسهام الأحبّهْ
يفتّحه الجرح.. فالجرح.. بالنّفي والصدّ
ورتّقته بسناك الأريج
وعلّلته بخمر صدى الصّدق
فصوّبت نحوك حلمي البهيج
وقلت : ها نورس القلب يفصّل لي من باقة الياسمين أردية من سناء:
(أهذا البياض.. بياضُ ا لفراغ من أسطر نصّ جميل الشعور..؟
بياض الفراغ من رماد جذوة الحسّ
بياض الفراغ الذي دار في قرارة الكأس..
حين خلت بين رحيق الخمور..
يتشكّل في العيْن بلون الرّداء؟!
لعلّ البياضَ بياضُ الوفاءْ!!)
... يعيدُ تفاصيلَ شوقي
ويقتصّ لي من سنين العذاب
فيطفئ نار المواجع
ويلغي اختياري : (أيا بهجة النّفس في الإنزواء!!)
* * *
أنا متعب
ومشتبك وجعي
وهذا الفؤاد الحزين الذي أخمد فيه النداءات بإقالة صدإ الودّ
يحاصرني بالألم
ويسائلني : ألا أستفيق من غفوة الصّحو
فأقطّع أشرطة اللّغو
لكي أعرف أن هسهسة الحُلم التي يصنعها الوهم
سراب.. سراب حسبته ماء!
وأعترف أنه على محمل الجدّ
حين دعا بإزاحة صدإ الودّ
صادر من صدره الأمنيات
وأخرس صوت النداء.
* دوز (13 فيفري 2000)
1 نقض لأرجوحة اللّغو
جرّةُ خمر قديمهْ
وأنا و»امرؤ القيس» الذي لم يزل صاحبي منذ كانْ!
نفترش اللغو فتغتالنا الذكريات الأليمهْ
فيوقفني على طلل عجنّاه ساعتها من قشور الفراغ
فنبكي عليْه.. ونبكي.. الى أن تُذيبَ الدّموع رسومهْ!
ونجلس، ثانية.. نفترش اللغو.. فتشخص في الحين
ناعورة نعي الزّمان:
ناعورة الكلمات العقيمهْ
فيعبّئنا الحزن.. ونعانق «جرّتنا».. ونبزلها..
ثمّ يشاربني ويغنّي:
«إذا قلت هذا صاحب قد رضيته
وقرّت به العينان بُدّلت آخرَا»
(... كذلك حظّي)
فيطربني شدوه حتى يضجّ بي الانتشاء:
«كذلك جدّي ماأصاحب صاحبا
من النّاس إلاّ خانني وتغيّرا»
(أيا امرأ القيس أيا سيّدي
لقد أسقط ما في يدي!!
وها تتعلّق بي أغنياتك التي تجنح نحو الصّفاء
والتي يشدو بها صوتك الصّادق البدوي
تزيح الغشاءْ)
... وقد نتجادل أو نتشاغبُ.. وتبقى عربدةُ الكأس
على هامش الذّكريات..
ويبقى صديقي وأبقى نديمهْ
لأنّا كليْنا رفيقان في صادق الودّ
ولا نرتشي إذ نحبّ.. ولا ننتشي بالنّميمهْ
(إذنْ.. فالنّميمهْ..؟!!
صاحبي الذي هوّ لي صاحب ذات وهم
يكاشفني سرّه إذ يحتسي عكْرَ خمْرته في الدُّجَى!
إذ يتردّد على جحر النّفايات ينهلُ من آسن تلك الطّلا..
وتسحره الكلمات السّقيمهْ!
إذنْ.. فالنّميمهْ..؟!
... تنهدت.. ثمّ كتمت البكاءْ)
«بكى صاحبي لمّا رأى الدّرْبَ دُونَهُ..»
كفاك الغناء
أيا «إمْرَأ القيْس» كفى يا رفيقي
خدعْنَا.. خُدعْنا بزيْف الرّحيق
وضلّلتني إذْ عجنّا معا طللا من «قشور الفراغ»
بكينا عليْه.. وقلت: صديقي!
ولكنّه يتردّد على جحر النفايات لكي يستقي من عيون عديمهْ:
لكي ينتشي بالنّميمهْ!
... ولكن.. ها إنّني أتوحّد فيك.. أيا «إمرأ القيس» وتكبر فيّ
وننقض أرجوحة لغو قديمهْ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.