وفاء لتقليدها السنوي في إبراز المنجز الفكري للراحلين الأستاذ توفيق بكار (1927 – 2017 ) والأستاذ حسين الواد ( 1948 – 2018 ) نظمت الجمعية التونسية للتربية والثقافة التي يرأسها المربي رضا كشتبان الدورة الثالثة لملتقى توفيق بكار للتربية والثقافة والإبداع تحت عنوان " تأصيل الحداثة من توفيق بكار إلى حسين الواد " وذلك يوم الأحد 26 جويلية الجاري بمدينة الثقافة - الشاذلي القليبي - بتونس العاصمة أثثها ثلة من أساتذة الجامعة التونسية . في هذه الندوة الفكرية كان الهاجس هو معرفة الإضافة التي قدمها الدرس الجامعي للراحلين في تطوير التعليم والبحث العلمي من خلال تكريس مفاهيم الحداثة في محاورة التراث الأدبي ؟ وكان السؤال أي أثر لنصوصهما في تطوير الدرس الأدبي التونسي ؟ وكيف وجدت نصوصهما طريقها إلى عقل المتلقي وإلى المادة الثقافية من خلال استجلاب واستحضار المضامين الحداثية والتنويرية التي طورت المعرفة في الغرب ؟ وكيف ساهما في تحديث الدرس اللغوي والنحوي والدرس الحضاري عموما ؟ أجمع كل المتدخلين في هذه الندوة والتي كانت مساهماتهم والورقات التي قدموها مفيدة للغاية في اكتشاف جوانب أخرى من شخصية توفيق بكر وحسين الواد في علاقة بالدور الحضاري الذي لعبه الدرس الجامعي الذي قدماه في إنتاج وعي جديد خرج بالعملية التعليمية من مجرد قراءة للنصوص الأدبية القديمة وفق المنهجية المطبقة وفك شفرات معانيها التي غالبا ما يصعب على المتعاملين مع الأدب القديم فهمها لصعوبة بنائها اللغوي ومن مجرد إعادة ما قيل من شروح وتفسيرات قديمة لاكتشاف المدلول إلى فضاء فكري آخر يعتمد النظرة " القرائية " التي تتجاوز أسلوب التعامل مع النصوص التراثية كنصوص غامضة تحتاج إلى فك طلاسمها و معناها إلى البحث عما وراء النص والخوض في الدلالات الحضارية والخروج من أفق الشرح اللغوي والدلالي الظاهر إلى أفق التأويلات الممكنة لقراءة حديثة وحداثية إن أمكن للنص الادبي بمعنى " القرائية " التي اعتمدها كلا من توفيق بكار وحسين الواد تعتمد في فهم النص الأدبي على المنهج الفكري النقدي وتستعين بالمعرفة الحداثية التي انتجها عصر الحداثة لاكتساء النص التراثي معان حديثة تجعل منه نصا حيا في الزمان ومفيدا للعصر الراهن لا مجرد نص قديم لا روح فيه ولا فائدة منه في الحاضر وبهذه الطريقة التدبرية التي تسائل النص ولا تكتفي بالبعد اللغوي على أهميته البالغة هي التي جعلت اليوم الحديث ممكنا عن الجهد الذي بذل لجعل تأصيل الحداثة ممكنا من دون القطع مع التراث ومن دون إلغاء القديم كما فعل الكثيرون وهي مقاربة مهمة لفهم المنجز الفكري لهاذين العلمين التونسيين . حصل في هذه الندوة إجماع على أن الخطاب الذي قدمه كل من توفيق بكار وحسين الواد في الدرس الأدبي هو خطاب مشبع بالمفاهيم الحداثية ومؤسس على الفكر الحداثي بما هو وعي نقدي ونظرة تنويرية للحياة والوجود والإنسان ومنهج عقلي وطريقة في إعادة الفهم ومراجعة المقولات السائدة والثابتة وعدم التسليم بما تم الوصل إليه في مرحلة زمنية ما وفق نوعية من المعرفة هي وليدة عصرها وبيئتها لكن السؤال الذي طرح هو أي حداثة ينشدها الراحلين و روجا لها ؟ وأي نظرة قدماها للتراث في معالجة الإشكالية المعروفة في علاقة القديم بالجديد والأصالة بالمعاصرة والتراث والتجديد وأي تجديد في النص الأدبي حققته نصوصهما التي تربى عليها جيل كامل خصص له المرحوم حسين الواد رواية بكاملها طبعت ونشرت بعد وفاته عنوانها " لا رهبة من الماضي " تحدث فيها عن هذه الكوامن التي خالجت الجامعة التونسية في فترة من الزمن في تأصيل الحداثة في المعرفة والثقافة التونسية وفي بيئة مثقلة وزاخرة بإرث فكري كبير والصراع المرير الذي رافق هذا المبتغى من أجل إيجاد معادلة مقبولة في العلاقة بالتراث العربي والنص القديم وما انتجه القدامى وفي علاقة بالإجابة على سؤال مقلق وهو لماذا ندرس التراث ؟ وهل نحن في حاجة إلى العودة إلى القديم ؟ وإذا كانت العودة مفيدة فبأي طريقة وبأي أدوات نعود ؟ وهي كلها أسئلة مشروعة ولكنها مرهقة رافقت كامل المسيرة العلمية والمعرفية للرجلين. المشروع الفكري الذي اشتغل عليه الراحلان هو جعل القرائية للنص الأدبي القديم طريقا للمصالحة مع التراث ورد الفكرة التي روج لها دعاة إقصاء التراث والتي تعتبر بأن التراث هو عبء ومعطل لولوج الحداثة ودخول العصر الراهن فعلى الخلاف من هؤلاء يعتبر بكار و الواد أنه يمكن أن يكون الفرد متأصلا في ثقافته وهويته وبيئته لو درس تراثه بعين عصره وبثقافة عصره ما يجعله يحيا عصره من دون تصادم مع تاريخه وهويته الثقافية وأن يقرأ التراث القديم وفق نظرة نقدية ورؤية متجددة ومن دون الوقوع في الوهم الحداثي الذي تحدث عنه " أدونيس " لما تحدث عن الخطأ القاتل الذي يقع فيه الحداثيون والتي سماها أوهان الحداثة أهمها اعتبار الحداثة مرحلة زمنية وفترة تاريخية لا غير وربط الفكر الحداثي بأعلام ومفكرين بعينهم وبتالي جعل الحديث عن الحداثة حديثا عن مرحلة تاريخية مرت بها أوروبا وهي خاصية غربية لا غير . والوهم الثاني هو وهم المماثلة واعتبار أنه لا حداثة ولا دخول في العصر الحداثي من دون اتباع وتقليد ومحاكاة الحداثة الغربية كما نشأت وتطورت في بيئتها واعتبار أن الغرب هو المصدر الوحيد للحداثة حيث أبرز المتدخلون أن توفيق بكار وحسين الواد من خلال الدرس الأدبي يعتبران أن الحداثة ليست حالة غربية صرفة وأن الغرب ليس هو المصدر الوحيد للحداثة وأن الحداثة ليست مرحلة زمنية ولحظة تاريخية عاشتها أوروبا فقط وأنه لا معاصرة إلا ما صوره الغرب وإنما الحداثة في درسهما الأدبي كانت تركز على الجوهر والمضمون وتتجاوز النظرة التقليدية القائمة على وجود صراع بين القديم والحديث وأنه لا تعايش بين الاثنين لقد كان فهم الحداثة عندهما هو مرادف للحوارية والمساءلة والمراجعة فالعودة إلى التراث واستنطاقه ومساءلته وفق المنهج القرائي الاستقرائي لا منهج القراءة هو الذي جعل الدرس الأدبي الجامعي درسا حداثيا ودرسا مفيدا وعنوان سير بالمجتمع نحو مواكبة الراهن ونحو تغيير الإنسان والفكر والثقافة السائدة وهنا يطرح السؤال لماذا القرائية بدل القراءة في التعامل مع النص الأدبي القديم ؟ الاجابة نجدها في خطاب الرجلين اللذين يعتبران القرائية هي الطريق نحو الفضاء العالمي وإنتاج معنى مختلفا ووعيا جديدا وإعطاء النص القديم حياة جديدة وروحا متجددة تخرجه من مجرد نص قيل في فترة من التاريخ وفي ملابسات خاصة الى نص يحيى عصر قارئه ودارسه ونصا قابلا لمواكبة العصر والتاريخ ومن هنا فإن الإضافة التي قدماها هي تحويل الدرس الأدبي من مجرد درس تاريخي يبحث في المدلول اللغوي والسياق التاريخي الذي قيل فيه والظروف التي حكمته الى نص يسافر في التاريخ والجغرافيا ليسائل الراهن وينقد الحاضر ويساهم في خلق حالة وعي جديدة فالكثير من النصوص القديمة هي في نظر الراحلين أكثر حداثة ومعاصرة من الكثير من النصوص التي يكتبها المعاصرون .. لقد ساهم توفيق بكار وحسين الواد في التحول المنهجي الذي حصل في الدرس الجامعي وساهما في دعم توجه الطالب والدارس والباحث في التراث من اعتماد أسلوب القراءة إلى اسلوب القرائية ومن هنا تبرز عملية تأصيل الحداثة في الخطاب الأدبي لكل من توفيق بكار وحسين الواد في أنه تأصيل من أجل علاقة تعايش لا تصادم مع التراث وعلاقة محبة لا نفور وعلاقة استفادة ومساءلة لا انبهار وتقليد .