أتذكّر جيّدا كيف كنّا في أوائل الستّينات نُسرع في مشينا للوصول إلى المدرسة باكرا لتناول فطور الصّباح الذي كان يُقدّم لنا مجانا دون إعتبار للفوارق الإجتماعية.. كنّا نقف في صفوف منظّمة في إنضباط شبه عسكريّ و صمت شامل جليّ ، وكلّ واحد منّا منتظرا دوره لتناول إبريق الحليب السّاخن و قطعة الشّوكلاتة و الخبز الطّازج.... كنّا نجتمع في حلقات ، نتلاول الفطور في أجواء حميمية نتبادل حكايات و دردشات أطفال ذاك الزّمن ... بعد ذلك نتداول بنفس النّظام على دخول دورة المياه التي كانت متواضعة لكنّها دائمة النّظافة ، ثمّ نتجمّع في السّاحة الخارجية الفسيحة و نحيّ العلم برفقة جميع المدرّسين و المدرّسات و السيّد المدير ثمّ نتوجّه إلى قاعات الدّرس كلّ مجموعة على حده يصطحبها معلّمها أو معلّمتها بنفس ذلك الشّكل المنظّم المرتّب الإلزاميّ المعهود.... هكذا كنّا نعيش سَنَتنا الدّراسية بإحترام تامّ لنواميس و قواعد جميع المدارس الإبتدائية ، في ذلك الوقت ، مدلّلين مكرّمين و موجَّهين من طرف المربّين الذين كنّا ، والحقّ يقال ، نخشاهم ونوقّرهم ، و في نفس الوقت نحترمهم و نحبّهم ونجلّهم ولا يجرؤ أو يخطر ببال أحد منّا رفع صوته بحضرتهم أو حتّى النّظر مباشرة في عيونهم كما لو كانوا أولياءنا أو كبار جيراننا و أهلينا... لست أدري كيف و لماذا إنخرم ، اليوم ، كلّ ذلك النّظام و إنعدم الإحترام الذي كان يسود مدارس و معاهد أيّام زمان؟! لست أدري كيف تحوّلت ،هذه الأيّام ، معاقل المعرفة والتّربية و صقل أجسام و عقول النّشئ و الشّباب إلى مراتع فوضى و تسيّب و إنحدار أخلاقي و إنتشار عنف و إهتراء أزواد متطلّبات مواكبة هذا العصر الذي لا مكان فيه و لا مستقبل للجاهل و المتعثّر و الهامشيّ و الفوضويّ المرتدّ عن قافلة الرُّقيّ و أهّم نواميس التّعايش المُفلِحة و مقتضيات الحياة السّليمة المثمرة ....!!