إن العالم بأسره، خاصة الغربي منه، يضع جميع العرب في كيس واحد، أسماه العالم العربي، خصص له ولكل سكانه كثير التسميات والأوصاف، ونعت الجميع بما طاب له من نعوت سيّئة، جارحة، باطلة، ونسب إليه ما شاء من عقليات وعادات. فهو المحافظ، المتزمت، العاطفي، الزير، وسيل من النعوت التي ليست ذات أساس، بصفاء نية قلنا إنها مبنية على جهل الواقع والحقيقة. وكما لم يكن ما جاء به الماضي كافيا، وبما أن أغلبية العرب مسلمون، فقد أضيفت، منذ ظهور نشاط الجماعات الإسلاماتية، أو الإسلاماوية، نعوت جديدة أخرى، منها الإجرام، والخيانة، والدموية، والإرهاب، وقس على هذا القياس. كلنا في نظره سواسية، فوحدنا في قالبه ونحن، لو درى متفرقون، مختلفون، يكيد بعضنا لبعض، ونتآمر، حتى بلغ الأمر إلى الاعتداء. فما مثل ما ناب العراق من ذلك بمجهول، وما ينوب ليبيا حاليا بخفي. فلمَ يُصرّ الآخر على جمعنا وتوحيدنا، وهو أعلم بأننا مشتّتون؟ لحاجة في نفسه ولا شك، لأننا نراه يعدل عن ذلك عندما تقتضي حاجته ومصالحه مدح دولة دون غيرها، فيكيل لها وحدها كثير الثناء وبليغ الأوصاف والنعوت الحميدة، فتُسرّ بها الدولة المعنية وتفتخر، كأنها نالت وسام شرف، معتقدة أنها به جديرة دون غيرها من شبيهاتها. كلّ هذا غير جديد ولا هو مجهول، بل يعلمه الخاص والعام، حتى رسخ في النفوس والأفكار، فأصبح طبيعيا لا اهتمام به. لذا سنهمله نحن أيضا الآن، لكن بعد أن نقول ونسأل: إن كنا شعوبا وقبائل لتفارقوا، فأهلا بذلك وسهلا. لكن لم الاعتداء؟ ما الذي تجنيه دولة عربية باعتدائها على أخرى، مثل ما هو جار الآن في ليبيا، غير خسارة الأرواح الزكية، وتبذير الأموال الطائلة، مقابل أسلحة ثمينة غالية، أرباحها تعود وفيرة جدا لصناديق وخزانات دول لا تضمر خيرا إلا لنفسها؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تجرنا إلى سؤال آخر وهو" لماذا لا تُسخِّر هذه الدول المعتدية أموالها، التي يبدو أنها حارت في صرفها، في مشاريع تشرّفها، وتعود عليها بالفوائد الكثيرة، بلا تضحية بالأرواح الزكية، ولا اعتداء على أخت أو جارة، بل بإفادتها هي الأخرى من حيث لا تدري؟ لماذا لا تنشئ، بدل الاعتداء، مركزا أو مراكز بحوث علمية، فتضرب بذلك عدة طيور بحجر واحد؟ ها نحن وضعنا الإصبع على الدمّل دون أن نشعر. ولجنا فضاء يكاد يكون محرّما، وهو قول الحق ولو على النفس. إن أكثرية بلداننا تعاني مرضا عضالا، ينخر جسمها وعظامها، بعضها تفتخر به وتشجعه، ألا فهو هجرة العقول والأدمغة، نتيجة فقدان الكثير من الحريات، وانعدام التشجيع، وقلة مواطن الشغل، هجرة نحو بلدان متقدمة، غنية اقتصاديا وعلميا، تزداد بعقول أبنائنا وإنجازاتهم ثروة وتقدما، ونزداد تأخرا وقعودا. سرطان هذا الوباء، يزداد استفحاله رغم كثرة الأصوات المحذرة المنبّهة. منها صوت الخبير السياسي والأكاديمي المصري الدكتور عبد السلام علي نوير، محذرا من خطورة استمرار تجاهُل نزيف العقول والأدمغة العربية، ويقول في حديث مطول أجرته معه صحيفة " سويس أنفو" السويسرية " مجيبا عن سؤال الصحفي الذي طرحه يقول:" يبدو أن الأسباب المتعلقة بالحرية عموما، (السياسية والفكرية والتعبير عن الرأي..) وحرية البحث العلمي والأكاديمي خصوصا، حاضرة بقوة في أسباب الهجرة. فهل تشاطرون هذا التقييم؟: "بلا شك. فقد أرجع التقرير الأول التابع لجامعة الدول العربية، حول العمل والبطالة، ارتفاع معدّل الهجرة إلى تزايُد القيود المفروضة على حرية ممارسة البحث العِلمي والفكري الحر، في أغلب الدول العربية، ما يترتّب عليه شعور مُتزايد بالاغتراب للكفاءات العلمية والفكرية العربية، داخل أوطانها، وترقّبها فرص الهجرة إلى الخارج، حيث يُهاجر نحو 20% من خرِّيجي الجامعات العربية، بسبب القيود المفروضة على حرية البحث العِلمي والتفكير الحُر." إن الأرقام في هذا الصدد مفزعة موجعة. فالولايات المتحدة وكندا وبريطانيا تحصل على 75 % من المهاجرين العرب، وتقدّر الخسائر العربية بمليار دولار بسبب هجرة العقول،200 مليار دولار خسائر عربية بسبب هجرة العقول إلى الخارج، 100ألف من العلماء والمهندسين والأطباء والخبراء، يهاجرون سنويا من 8 دول عربية. تتزعم مصر مثيلاتها بهذا الخصوص، وتحتل تونس المرتبة الثانية عربيا، بعد سوريا وفق تقرير عربي صادر عام 2009. مع وجود ما لا يقل عن 8233 تونسية وتونسيا من مهندسين وجامعيين وأطباء ومحامين وباحثين في الخارج. يقول تقرير الأممالمتحدة للتنمية البشرية في الوطن العربي لعام 2002، إن أكثر من مليون خبير واختصاصي عربي من حَمَلة الشهادات العُليا أو الفنِّيين المَهَرة، مهاجرون ويعملون في الدول المتقدمة، ليُسهِم وجودهم في تقدّمها أكثر، ويعمِّق رحيلهم عن الوطن العربي آثار التخلّف والارتهان للخبرات الأجنبية. بعد استرجاعنا نفسنا أمام هذا النزيف المنهك، الذي لا يحتاج للتذكير بأسبابه، إذ هي كثيرة متشابهة لدى أكثرية الدول العربية، وقد تلخص في " عدم إعطاء العلم حقه، وتضييق الحرية على أصحابه، فلا يجدون البيئة المناسبة، وانعدام أو ضعف الإنفاق على البحث العلمي، نقول إن هذه الحقائق المؤلمة المؤسفة المحزنة لا يجهلها كبير ولا صغير، لا مسؤول ولا أقل مسؤولية، ومع هذا لا نرى ولا نسمع أية محاولة لإيقاف هذا النزيف، أو حتى الحدّ من قوّته، فلا ترجمة ولا تفسير لنتائج هذا التقاعس غير زيادة التقهقر والقعود. فما هو الحلّ إذن؟ لا شك وأن الحلول كثيرة وممكنة، خاصة إذا نظرنا نظرة شمولية. فبما أنّ المرض تعاني منه دول عديدة، فالمصلحة تقضي، بل تفرض التعاون كي يُحلّ المشكل ولو نسبيا، بعملية تجارية مربحة. أعترف مسبقا بأني لست من المؤهلين إذ جهلي وعدم استعدادي الفطري والتكويني، لا يؤهلانني لوضع خطة لها صلة بالتجارة والأرباح. لذا أتجرّأ فأقدّم هذا الاقتراح، وعلى المختصين العارفين، تحويله، إن وجدوا فيه معقولية ما، إلى خطة منظمة مبرمجة، لها أبعادها المربحة المفيدة فكريا علميا، اقتصاديا ماليا، ومن ثَمَّ اجتماعيّا إنسانيا. دول عربية كثيرة لها، والحمد لله، ثروات وميزانيات ضخمة، تؤهلها وتُمكّنها من تمويل أكبر المشاريع في أيّ زمان ومكان. فحبّذا لو أقدمت إحداها، بتعقل وجدّيّة، خاليتين من أيّ تبجح أو دعاية سياسية، على إنشاء مركز بحوث علميّة، ذي صبغة عربيّة شموليّة، يُؤتى إليه بكبار العلماء في مختلف الاختصاصات، ومن مختلف البلدان العربيّة، ليجدوا بين أيديهم أحدث المعدّات ولوازم المختبرات العلمية، لينكبّوا بحريّة علمية، وأفكار وعقول طليقة، لا خضوع لها إلا للعلم والتقنية والمعرفة، ولا خوف عليها من أيّ ضغط، أو توجيه، أو تأثير من أيّ لون وجنس وغاية. فيكون الإنتاج منّا ولنا، وبه نساهم في الإعطاء عالميا، بدل البقاء في صف المستهلكين، نعيش على حساب وبفضل الآخرين، وعقولنا تنتج وتعطي لغيرنا. أما مكان المركز، فإنه إذا ما أبت الدولة المنشئة عدم إيوائه لأنها ترى عدم استطاعتها توفير ما يتطلبه المركز من أجواء واستقلالية، فبالإمكان طلب إيوائه من أية دولة أخرى مستعدة لتوفير كل متطلبات المركز والعاملين فيه، ولو بمقابل اقتصادي، قد يكون استيراد منتوج أو تمويل مخطط تنموي. هل يصعب علينا تحقيق مثل هذا المشروع ونحن ندّعي بأننا " خير أمة أخرجت للناس "؟ هل سنعجز عن مواكبة العصر وأهله، بفضل ما منّ الله علينا، أو على بعضنا، من نِعَم اقتصادية وفكرية، بإنشاء مخبر أو مركز بحوث ينفع ولا يضر؟ لا أعتقد أن مثل هذا المشروع يمثل عقبة أو صعوبة لأن الله سبحانه وتعالى قال لنا في كتابه العزيز: يا معشر الإنس والجنّ، إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض، فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان. إن المال من مكوّنات السلطان، والمال قوّام الأعمال، فكل المتطلبات متوفرة والحمد لله، ولا تنقص سوى الإرادة. مدريد في 12 – 9 – 2020.