تشهد البلاد في الآونة الأخيرة موجة كبيرة من الاحتجاجات في العديد من الجهات المهمشة تطالب بالتنمية والتشغيل وتحسين الأوضاع الاجتماعية كما تعرف موجة أخرى من الاعتصامات والإضرابات القطاعية بعد أن دخلت العديد من المؤسسات الحكومية في إضرابات وراءها مطالب مالية. اليوم بعد حراك اعتصام الكامور الذي انتهى على إثر مفاوضات عسيرة مع الحكومة وما رافقها من تعطيل لآلة انتاج مادة الفسفاط وغلق أنابيب انتاج البترول إلى إمضاء اتفاق قبل به المعتصمون يتضمن حزمة كبيرة من الالتزامات لتحسين حال الجهة ووضع الشباب العاطل عن العمل حتى تحركت جهات أخرى من مناطق الهامش المنسي نسجت على منوال حراك الكامور بعد استنساخ تجربة التنسيقيات واعتمدت نفس الاستراتيجية وهي تعطيل نشاط الشركات المؤثرة في اقتصاد البلاد ومنعها من العمل من خلال التنظم في تنسيقيات تتولى قيادة هذه الاحتجاجات التي تندرج ضمن موجة الحراك الاجتماعي الذي يجتاح دول العالم في حركة اعتبرت رفضا لكل ما هو سائد في منظومة الديمقراطية التمثيلية التي تتبناها الكثير من الأنظمة السياسية ورفضا لمنظومة الحكم القائمة و حلول الدولة وآلياتها ومنوالها التنموي الذي عجز عن معالجة إكراهات الواقع وعمق عدم الاعتراف بهياكل الدولة ومؤسساتها. وإلى جانب هذه الاحتجاجات وهذا الحراك الاجتماعي اندلعت موجة أخرى من الإضرابات القطاعية مست قطاع القضاء وهو قطاع حساس ومرفق العدالة الذي دخل في إضراب عن العمل احتجاجا على أوضاع العاملين به المالية التي يقولون عنها بأن رواتبهم لم تعد تكفي لتلبية حاجياتهم المعيشية ومست قطاع الكهرباء والغاز والتطهير التي بدأت نقاباتهم الأساسية في التحرك والإعداد لسلسلة من الإضرابات والتوقف عن العمل إلي حين تلبية مطالبهم المادية ووصلت إلى قطاع المهندسين الذين دخلوا هم أيضا في إضرابات مطلبية ولحق بهم قطاع الأطباء الذين قرروا هم أيضا الدخول في إضراب مدته أربعة أيام في هذه المرحلة التي تعتبر من أخطر المراحل التي تعرفها تونس في تاريخها الحديث والبلاد تعيش على وقع جائحة وبائية توجب وتفرض تجند الجميع لمحاصرتها وفي مقدمتهم الأطباء أصحاب السترات البيضاء. إن المفيد في كل هذه الاحتجاجات التي تعرفها الجهات والتي تمددت في المجال وتوسعت في مناطق عدة وما تبعها ولحقها من اضرابات في الكثير من القطاعات الحساسة والهامة في حياة المواطن أنه في ظل ما تعرفه الدولة من أزمة مالية حادة تنبئ بإفلاسها وفي ظل الأزمة الصحية الخطيرة التي كبلت الجميع و هددت حياة الناس بعد أن غيرت من سلوك المواطنين اليومي وفرضت عليهم تغيير نمط عيشهم وطريقة حياتهم فقد كان من المنتظر أن يتجند الجميع شعبا ودولة للخروج من هاتين الأزمتين المالية والصحية بأقل كلفة ممكنة وأن يتوفر للحكومة الظرف الملائم والمريح للتصدي للاكراهات المفروضة عليها غير أن كل هذه الرغبات قد تلاشت بعد ظهور فوضى عارمة من الاحتجاجات وانفلات آخر بسبب الإضرابات القطاعية التي ترهق المواطن وتتعب الدولة والحكومة. اليوم نتيجة لما يحصل في البلاد من اضطرابات وحراك اجتماعي متسع في المجال ونتيجة لما يحصل من انفلات في الجهات وفي الكثير من القطاعات والمجالات الحيوية فإن الدولة تجد نفسها أمام وضع مالي مأزوم وأمام هياكل ومؤسسات معطوبة ومعطلة وعاجزة عن العمل .. اليوم كل شيء في الدولة معطل وبه عطب كبير يوحي بأن الدولة التونسية التي استطاعت أن تتخطى مصاعب الثورة بفضل إدارتها ومؤسساتها وهياكلها تجد نفسها غير قادرة على مجاراة ما يحصل في الجهات من احتجاجات بعد أن فقدت السيطرة على الأوضاع حتى أصبح قرار تعليق الاحتجاج والسماح لآلة الإنتاج من العودة إلى نشاطها بيد التنسيقيات في الجهات التي أخذت المبادرة مكان الدولة في إدارة الشأن العام. لقد وصل الحال إلى وضع أصبحت معه الدولة عاجزة عن فك عزلة الجهات وعاجزة عن التدخل العاجل لتوفير حاجيات الناس بعد أن تعطل الإنتاج جراء الاعتصامات. صحيح أننا نعيش مرحلة جديدة من عمر الدولة التونسية .. وصحيح أننا نعيش على وقع مناخ جديد بدخول الجهات في صراع وجود مع الدولة المركزية .. وصحيح كذلك أننا نعيش هبوب رياح تغيير في طريقة إدارة البلاد بمطالبة الهامش بحقه بنصيب عادل من التنمية وبحقه في التشغيل وبجزء من عائدات الثروة الوطنية التي لم تكن تصله. ما أردنا قوله هو أننا رغم إقرارنا بمشروعية الاحتجاجات الاجتماعية في الجهات وأحقية مطالبها إلا أن نتيجة ما يحصل من اضرابات قطاعية منفلتة وما يحدث من حراك اجتماعي متمدد هو حصول عطب كبير ومؤثر في الدولة يجعلها غير قادرة على تمثيل الشعب كدولة راعية وحاضنة وعاجزة عن استعادة زمام الأمور والتصرف كدولة قوية وعادلة .. إنها رياح التغيير في مفهوم الدولة القديم وأنه عصر جديد مع هذه الحركات الاحتجاجية الاجتماعية.