ظاهرة تكريم المبدعين والمفكرين وكذا المربين الأفذاذ،ممن ذاع سيطهم في الأوساط التربوية، ظاهرة ثقافية وسلوك حضاري في حياة أي مجتمع كونه يحفز ويحافظ على التوازن الفكري والنفسي للنخب المثقفة من شعراء وأدباء وفنانين تشكيليين،غير أنه وبحسب ما تمليه ذهنيات تأبى التغيير ولا تريد تخطي أشياء ما عادت نافعة ولا لائقة سواء لشريحة المبدعين أو للحراك الثقافي ككل،وهي متفشية في الوطن العربي،لا يعترف بالمثقف والمبدع والمربي الألمعي إلا إذا تمدد في قبره وتأكد أنه لن ينهض أبداً..عندها يفزع الكل ويجري أولو الأمر من مسؤولين وقائمين على الشأن الثقافي لإقامة احتفاليات التكريم وتنظيم الملتقيات والندوات على شرف رحيل المبدع، فكأنما يعربون عن فرحتهم بمغادرته الحياة وتخلصهم منه... وإن كنا لا نعارض تكريم المثقفين الراحلين لما يحمله من عرفان لأعمالهم وما أضافوه للحقل الثقافي والمعرفي،فإننا نتساءل مع جل المثقفين والمبدعين: متى نقلع ونكف عن هكذا حرمان وتنكر وتجاهل للمثقف فقط لأنه موصوم بالحياة ويعاني من شبهة الحاضر ونجري لتبجيله والاحتفاء به فقط لأننا تأكدنا أنه ما عاد هنا..مات وغاب عن الوجود..وتمدّد بالتالي في قبره حيث الهدوء والسكينة وملاقاة الله عز وجل؟ لقد سمعنا خلال السنوات الماضية الكثير من القصص لمبدعين لم يأخذوا حقهم من الاهتمام، ولم تلتفت لهم المؤسسات الثقافية التونسية تحديد أو المسؤولين،وهذا يشكل نكراناً لجهودهم وخدماتهم. قلت هذا،وأنا أبكي بدموع حارقة تحزّ شغاف القلب رحيل رفيق دربي المربي الفذ الذي أنار بعلمه دروب المعرفة وتتلمذت على يديه أجيال متعاقبة وترك بالتالي بصمة مضيئة على جدران المؤسسات التربوية في مختلف أرجاء البلاد،وأقصد هنا الأستاذ الجليل (الإبن البار لجهة تطاوين) محمد السيوطي المؤدب الذي وافته المنية في الأيام القليلة الماضية. هذه القامة الشاهقة حباه الله بالعلم والمعرفة ودماثة الأخلاق ونبل المواقف.. غادرنا بهدوء..دون وداع يترك القلب أعمى بعد أن تحدى الموت بجسارة المؤمن الراضي بحكم الله وقدره. قاوم المرض بشجاعة جبل عليها منذ نعومة أظافره،صبر وصابر إلى أن قضى ربك أمرا كان حتميا.. واليوم.. أستاذ الفاضل (محمد السيوطي المؤدب) في رحاب الله،ونتضرع إلى خالقنا أن يكون مكانه في جنات الخلد..سائلا الله سبحانه وتعالى أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته وأن يتقبله في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً،ونسأل الله تعالى أن يرزق عائلتها الصبر والسلوان،إنه سميع مجيب، وإنا لله وإنا إليه لراجعون. رحل بقلب مفعم بالإيمان،ومشبع بحب الله والإنسان..عرفته عن قرب:بشوش حليم..متضلع في العلوم والآداب والمعرفة..لم يبخل علي ولا غيري بعلم أو معرفة..كان سباقا لمؤازرة رجال التربية ممن حلت بهم نوائب وعضهم الدهر بنابه الأزرق المتوحش... يقول الحق بجسارة من لا يخشى لسعة-الجلاد (وأنا أعي ما أقول)..ينتصر للحق والحقيقة ويناضل في سبيل أن تشرق الشمس على الجميع.. حين رحل إبني إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بيني البشر أجمعين،شدّ أزري وواساني وقد تلألأت في عينيه دموع سخية..قال لي وقتئذ مستشهدا بقول الله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وحتى لا أطيل في تعداد شمائل هذا الرجل الفذ (الأستاذ محمد السيوطي المؤدب) أقترح على بلدية تطاوين وأيضا على وزارة التربية وكذا وزارة الشؤون الثقافية التفكير بجدية في تسمية إحدى المؤسسات التربوية أو الشواره (وكم هي كثيرة بمدينة) بإسم هذا الراحل.تخليدا لذكراه،وانتصارا مطلقا لرجال ما هادنوا الدهر يوما وكرسوا حياتهم في سبيل إنارة دروب المعرفة أمام الأجيال المتعاقبة وكانوا شموعا تضاء على درب الحكمة ورجاحة العقل. وأرجو أن يجد طلبي هذا..أذانا صاغيا من قبل المسؤولين.