لا شيء يثلج الصدر ويبعث في النفس الأمل أكثر من مشاهدة المواطنين المخلصين العارفين، يتركون الكسل أو الإهمال، وينفضون الغبار عن أقلامهم، فيشرعون عمليا في الدفاع عن الحق وما إليه، ويملؤون فراغا تركوه، عمدا أو رضوخا لمتطلبات الحياة، فافتقدهم العمل والتحرك وإيقاظ الهمم، لما يحتاجه الوطن منهم ومن أمثالهم، دفاعا عنه وعن مقوّماته، مثلما هو الشأن بالنسبة لوضع لغتنا، اللغة العربية القليلة المثيل، رمز هويتنا وترجمة ثقافتنا، واساس وجودنا كشعب وأمة. كفت صرخة صادقة صريحة، ونداء من الكاتب البارع، والمحلل الناقد الصريح، الأستاذ أبو ذاكر الصفايحي، صرخة ونداء نقلتُهما وردّدتهما في مقال على صحيفة الصريح، حتى انهال سيل مقالات بث فيها الصادقون العارفون، بأقلامهم الفصيحة البليغة، دفاعهم عن اللغة، وتذمرهم مما آلت إليه بين أبنائها وذويها، حتى أني خلت أن الصريح أصبحت لسان حال اللغة الناطقة باسمها. أملي الآن، وأمل كل الذين لم ولا ولن ينكروا أو يتنكروا لأصالتهم بما فيها لغتهم، أن يستمر هؤلاء القادرون ولا شك عن تحقيق الكثير، فيواصلون الكتابة والمناداة، وتحريك الهمم، وشرح الغامض، وتذكير المنسي، وتلقين المجهول، عما تحتويه اللغة العربية وما هي قادرة عليه، علاوة على ما تمثله بالنسبة للفرد والجماعة. سأكتفي هنا بمثال واحد لتجسيم ما أقول. يعلم الخاص والعام أن العرب، أكثر الأمم، قديما وحديثا، اهتماما بنظافة الفم والأسنان، فاستعملوا لذلك ما لم يزل فعّالا أكثر بكثير من المخترعات الحديثة المعاصرة. لكن، ويا للأسف جهل الكثيرون هذا، واعتقدوا أن نظافة الفم والأسنان أتى بها الغرب، فقلدوه واستعملوا مفرداته بهذا الخصوص، مترجمة طبعا فقالوا: معجون أسنان، وفرشة أسنان، بينما لديهم " السِّواك" والِمسواك". أما خارج الفم ونظافته، فحدث ولا حرج. ها هي أمثلة قليلة أخرى: فالشَّعَر المستعار، أو الصناعي اسمه جُمَّة، وخصلة الشعر على الجبين اسمها كُثَّة، وما ترجم حرفيا للتعبير عنه فقيل مجرى الهواء، أو تيار، فهو بلغة الضاد المِسْهَك والثوب لتوقي المطر ممطر. أما رقبة الثوب أو القميص فهي البنيقة وتجمع على بنائق. قد يذهب الظن بالقارئ أن ما أقدّمه هو من عندي ومن بنات أفكاري. كلا، فما هو إلا من كتاب أو قاموس وضعته " اللجنة الاستشارية للمغرب العربي في التربية والتعليم، وعنوانه الرصيد الوظيفي اللغوي للمرحلة الأولى للتعليم الابتدائي. نسخته التي بين يديّ هي من الطبعة الثانية (تونس 1976)، أما الأولى فهي من عام 1975. ما يستخلص من كل هذا هو إن تدهورت حال ووضعية اللغة العربية بيننا، نحن المدعون بأننا أبناؤها، فما ذلك إلا بفعل فاعل، ولغاية في النفس أو النفوس. أما البحث عن تلك الغاية، يجدها الباحث، أو يجد بعضا منها، فيما لا تطوله يدي كي أستدل به، لكني أشير على من يريد ويستطيع، بغوص بحر وأمواج الملفات والوثائق التي تسمى عادة سرية، فمن بينها سيجد نسخا أصلية لعديد الاتفاقيات، المبرمة مع الدولة التي كانت تدعى حامية وهي الطاغية، ففيها سيجد الجواب. بعد هذه المقدّمة التي طالت فمعذرة، أتقدم بالشكر والامتنان إلى الكاتب المتتبع الباحث عن العلل وعلاجها، أعني الأستاذ أبا ذاكر الصفايحي الذي شرفني ف »عينني" سفيرا للغة العربية حيث مهجري أي بإسبانيا، فها أنا أعبر له عن شكري وتشرفي بهذه الوظيفة وهذا اللقب، وأفيده بأن سفارتي ستكون شرفية أكثر من عملية لأن أبناء البلد، والمستعربون منهم والمستعربات في المقدّمة، لم يتركوا فرصة لغيرهم في نشر اللغة العربية، والتعريف بخصالها وإمكاناتها، وتقديم كتابات وأعمال وكتب ومحاضرات عنها. لا أبالغ إن قلت إني وجدت لدى المستعربات والمستعربين الإسبان إتقان لغة الضاد، والتعريف بها، وتقديم مستجدات ما ينتجه كتابها وترجمته، أكثر وأحسن بكثير مما نُسِي وأهمل لدينا. فبعد الاهتمام بها وبما يتصل بها من تاريخ وماض، تطور الاستعراب ليشمل وليهتم، أكثر فأكثر، بما هو حاضر معاصر جديد. دفعني عدم تعقلي، كي لا أقول جهلي، بمحاولة حصر الجامعات التي لها قسم خاص بالدراسات العربية والإسلام، فلما وصلت إلى حصر اثنتين وعشرين جامعة، عثرت على ما غفلت عنه، وهو أن كل الجامعات لها اليوم قسم خاص بلغتنا. إن أبرز المستعربين المعاصرين هو إميليو غارثيا غومث (1905-1995) الذي حصل عام 1927 على بعثة لدراسة مخطوطات عربية إسبانية في كل من مصر وسوريا والعراق، فتتلمذ على طه حسين وصادقه، ولما تولى طه حسين وزارة المعارف أسس وإياه المعهد المصري للدراسات الإسلامية الأندلسية بمدريد. تولى الدكتور إميليو تدريس اللغة العربية بجامعة غرناطة عام 1930 وهناك بعث مجلة متخصصة في الاستعراب والدراسات الأندلسية وغير ذلك من النشاطات كالترجمة من وإلى العربية. جاء بعده الدكتور بيدرو مارتيناث مونتابث، شيخ المستعربين حاليا، كما أسميته في كتاب عن مسيرته نشرته لي دار الفرجاني بطرابلس وبيروت بنفس الاسم، فغيَّر وجهة الاستعراب بإخراجه من التقوقع في الماضي الأندلسي، وافتتاحه على ما هو معاصر مما ينتج العرب بلغتهم. اتسع الاستعراب إذن، وازداد الإقبال عليه، فلا حصر اليوم لعدد المستعربات والمستعربين في إسبانيا، ولا حصر لما ينتجونه من دراسات، وسير ذاتية لمشاهير الكتاب والشعراء. فمن نزار قباني إلى البياتي إلى درويش، وغيرهم كثير من مختلف المفكرين وحاملي الأقلام من العرب. يؤسفني هنا أن ألاحظ شبه غياب تونس والتونسيين، ولما سألت عن السبب، أجبت بكلمة واحدة: الفرنسية. يقول أحد أوائل خريجي المنهج الجديد، " لم يشأ الدكتور مارتيناث حصر تدريس العربية كلغة ولسان فحسب، بل أراد أن يشمل المنهج اختصاصات أخرى كالفكر والجغرافيا والاجتماع في العالم العربي والإسلامي، وكل هذا، يعود إلى نمو المفهوم الذي يتخذه، بل يسترجعه العالم العربي المعاصر في ثقافتنا، بدراسات وأبحاث يجدر التذكير بأنها توقفت منذ الأندلس أي من عام 1492." إلى جانب هذا، نجد أن البيت العربي قد نظم، من جملة ما نظم طوال حياته التي زادت عن العقد الآن، نظم يومي 9 و10 من شهر سبتمبر 2019 لقاء الدارسين والباحثين في الدراسات العربية والإسلامية بإسبانيا، لقاء مخصصا لتبادل الآراء حول مشاريع البحث والدراسة المتعلقة بهذه المنطقة المعرفية الشاسعة. إن لقاء ذا قيمة وصعوبة كهذا اللقاء يجابه صعوبة لتعدد مواضيع الدراسة فيه، إذ هي تشمل اللسانيات والآداب والفكر والتاريخ والاجتماعيات، والعرقيات، والعلوم السياسية، علاوة على اختلاف النظر والآراء بين الدارسين لاختلاف اختصاصاتهم. أضيف إلى كل هذا الحملة الجارية اليوم تطالب بإقرار العربية ضمن امتحانات أو اختبارات لانتخاب المدرسين الجامعيين." بعد هذا، وهو بعض من كل، أعتقد أن سفارتي ستكون عاطلة، أكثر من نشطة عاملة، وحبذا لو اهتم، أهل لغتنا وأبناؤها، بنفس التقدير والعناية التي تلقاها لدى الذين عينني الأستاذ أبو ذاكر سفيرا بينهم. أملي الخاص كبير في الذين كتبوا وأشرت إليهم في الأسطر السابقة، وفي غيرهم، وهم كثر غير قليلين. فالبلاد التي أنجبت عربية محمود المسعدي، والمحجوب بن ميلاد، والفاضل بن عاشور، وأمثالهم غير قليلين، لها بدون شك وستنجب أكثر فأكثر من يحملون راية لغة الضاد عاليا، فلا ولن تموت أبدا. وكما قال الشاعر: أول الغيث قطر ثم ينهمر. مدريد: في 1 جانفي 2021